الثلاثاء 02 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

صانعُ الشَّواهد.. من المجموعة القصصية «نحيل يتلبسه بدين أعرج»

حرف

لا أُنكر أنّى خفتُ حين رأيتُ مشغل شواهد القبور فى المـرّة الأولى، وتحديدًا حين رأيتُنى فى واجهته الزجاجيّة السوداء المطلّة على الشارع. خوف شعرتُ به مثل بعض ممّن كانوا يمرّون ببابه مسرعين، يشيحون بأبصارهم بعيدًا عمّا كان ببابه من شواهد، كلّ واحد منها يحمل اسم متوفّى وتاريخ وفاته، وأحدها فى ذلك اليوم حملَت اسمًا لشابّ وحيد عائلته، دهمته سيارة قبل أيام أثناء عبوره الشارع ذاته الذى يقع المشغل على طرفه. 

حادثة لن ينساها الناس بسهولة، وقعت فى أول يوم لافتتاح المشغل، ربطها بعض الناس به، لهذا صار نذير شؤم، خاصة حينما تعثّر رجلٌ سبعينىّ قبالته، وسقط فمات، فراحت بعض النسوة يحذّرن أبناءهنّ وبناتِهنّ من الاقتراب من تلك المنطقة.

منذ أربع سنوات وأنا أسلك ذلك الشارع، ولم أنتبه للمشغل إلّا حين طرأت الحكاياتُ حوله، فأصابنى فضولٌ لرؤية صانع الشواهد، الذى قيل إنه لا أحد من سكان البلدة يعرفه. أمرٌ غير منطقىّ، فالمشغل يُفتح صباحًا، ويُغلق عند المساء، فكيف يكون مجهولًا إلى هذا الحد؟!. 

عبثت الوساوس برأسى وأنا أقف قبالة المشغل، كنتُ يومها عائدًا من الجامعة فى آخر سنواتى الدراسيّة، انتبهتُ إلى أنّه يقع بين محلّين: واحد يبيع فساتين عرائس، والآخر صالون حلاقة نسائىّ. كان المشهد سورياليًّا، فقد رأيت سيارة تصطف وتُقلّ عروسًا من الصالون، وفى اللحظة ذاتها رأيت رجلًا يكابد وزن شاهد قبر، ويضعه فى سيارة للنقل. 

قرأتُ بخوفٍ الأسماء المحفورة على الشواهد، تجاهلتُ ما أشعر به، وحاولتُ تناسى ما يروى من حكايات وهميّة، لكن فى تلك الأيام ماتت عروس تزيّنت فى الصالون الملاصق للمشغل، فأخذ عدد زبائنه يتراجع إلى أن أُقفل، خلال فترة قصيرة أُغلقت محالّ ذلك الشارع إلّا من محلّ يبيع إطارات السيارات. بعد أشهر سمعتُ أنَّ صانع الشواهد يُجهّز مسبقًا شواهد لأناس سيموتون فى ذلك الشهر، بل وقيل إنَّه ينقش عليها أسماءهم ويوم وفاتهم مسبقًا. 

تحوّل الخوف فى البلدة إلى هلع، فاجتمع رجال يتشاورون فى ما يحدث، منهم من رأى أنَّ ما يدور بين الناس مجرّد خرافات، ومنهم من دفع باتجاه إغلاق المشغل، بل حتى بهدمه، لكنّهم لم يفعلوا شيئًا. 

لم يتوقّف الحديث حول صانع الشواهد، حتى فى بيت عائلتى، خاصة جدّتى التى تؤمن بنذر الشؤم، فقرّرتُ تقصّى الحقيقة. خرجتُ فجرًا، وقد كان المشغل مفتوحًا، بابه المعدنىّ الذى يغلق طيًّا لا يزال فى الأعلى، لكنّى ما رأيتُ إلّا ولدًا يجلس على كرسىّ عند بابه، وفى اليوم نفسه راقبت المشغل إلى منتصف الليل، ولم أصل إلى نتيجة، حتى أنّى فى يوم آخر مكثتُ إلى طلوع الشمس، ولم أرَ صانع الشواهد، سألت شابًّا مات أبوه مؤخّرًا: هل يعرفه؟ فقال إنَّه لم يقابل إلّا الولد. حين تتبّعت مصدر ما يقال، وجدتنى لأيام أتنقّل بين عدد من الأشخاص بلا فائدة، والغريب أنّى وجدتُ الحكاية تنقص عند شخص، وتزيد عند آخر، فأقلعتُ عن فكرتى إلى أن قرّرتُ دخول المشغل. حين وقفتُ ببابه سمعتُ من الداخل صوت أمّ كلثوم تغنّى: «على عينى الهجر ده منى، ده بعادى كان غصبن عنى». لم يكن الولد الذى رأيته من قبل هناك، دفعت الباب ودخلت. 

كان المكان معتمًا إلّا من ضوء يسقط على طاولة يجلس عليها رجل خمسينىّ كثّ الشعر، يلوّن اسمًا فى شاهدٍ أمامه. 

■ هل أخدمك بشىء؟ 

قال بعد أن وضع سيجارة فى طرف فمه، وعاد يعمل على الشاهد. لم أدرِ ما يمكن أن أقول وأنا أتلفّت حولى، أفتّش عن الشواهد التى قيل إنَّها تحمل أسماء لأناس سيموتون قريبًا، نظر إلىَّ. 

■ هل تريد شاهدًا؟

■ لا. 

ضحك بصوت خفيض، ربما لأنه رأى أمارات الخوف فى وجهى، ثم قال وهو يمسح الشاهد بقطعة من القماش: «هل تخاف الموت؟»، قلتُ أبدّد الصمت: «نوعًا ما». رحتُ بكتاب معى أستجلب الهواء فى ذلك اليوم الحارّ. أطفأ سيجارته، ثم أخذ الكتاب من يدىّ، قال وهو ينظر إليه: «إذن (إريك فروم)، (ما وراء الأوهام)». أعاد الكتاب، وعاد يتفحّص الشاهد وهو يميل برأسه طربًا لصوت أمّ كلثوم. 

غادرتُ من دون استئذان، ومن دون أن أرى الشواهد، وبى خشية من مكروه يمكن أن يحدث لى، ليلتها جافانى النوم، فبقيتُ طوال الليل أقرأ كتاب «فروم»، لم أصب بشىء، لذا بعد أسبوع عدتُ إليه، إذ كان يستمع إلى الأغنية ذاتها، ويجلس منكبًّا على شاهد جديد نقش عليه اسمًا لا أعرفه، «عبدالجبار سليم»، قال بصوت متحشرج: «ألا تعرف للآن ماذا تريد؟». 

كان من غير اللائق أن أخبره عمّا لدىّ، لهذا قلت إنَّ غرابته هى من دعتنى إليه، ضحك بصوت عالٍ: غرابتى، أم ما يقول الناس عنى؟ اعترفتُ له بالحقيقة، فوجدتُ أنّه يدرى بالأمر، خلع نظارته وحدّق فىَّ: «المسألة يا بنىّ ليست متعلّقة فقط بخوف الناس من الموت، بل بحبّهم الشديد لإعادة إنتاج الحكاية». صمت قليلًا، ثم قال بحزن: «أنت الوحيد الذى تجرّأ وأتى إلىَّ ليكتشف أمرى». 

قال ذلك ودفع بعجلات كرسيّه إلى الأمام، وإذا بى قبالة رجل مبتور القدمين، تبعته حين تجاوز بابًا فى حاجز خشبىّ، فدلفنا إلى غرفة صغيرة فيها سرير، وعدد من الكتب، وأدوات للطبخ، أخذ ينظر عبر النافذة بصمت حزين، حينها خرجتُ خجلًا ألوم نفسى كيف تملّكت منّى تلك الأفكار. 

عندما عبرت الشارع، فوجئت بسيارة تسرع نحوى ودهمتنى، وحين شُفيت بعد رقاد فى السرير لأسبوعين، عدتُ إلى المشغل، فإذا به مقفلًا، سألت أحدهم، فأخبرنى أنَّ رجلًا مبتور القدمين وُجِد فى داخله منتحرًا، ثم قال وهو يقضم ساندويتش: «اكتشفوا أنه كان أستاذًا فى الفلسفة، اسمه عبدالجبار سليم». 

من المجموعة القصصية «نحيل يتلبسه بدين أعرج» تصدر قريبًا عن دار الشروق