الأحد 17 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

الشريك المخالف.. فوضى الرأى فى مصر

حرف

- كثيرون فى صفوف المثقفين المصريين تماهوا مع ما تقوله جماعة الإخوان

كان الرئيس عبدالفتاح السيسى واضحًا ومحددًا فى حديثه مع رؤساء الهيئات الإعلامية فى لقائه بهم، عندما قال لهم إن الدولة ملتزمة بإعلاء حرية التعبير، واحتضان كل الآراء الوطنية ضمن المنظومة الإعلامية المصرية، بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكرى، طبقًا لما جاء فى بيان المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية. 

وكان الرئيس كذلك واضحًا ومحددًا عندما أكد- طبقًا لنفس البيان- ضرورة الانفتاح على محتلف الآراء، بما يرسخ مبدأ «الرأى والرأى الآخر» داخل المنظومة الإعلامية المصرية. 

لكننا- وأقصد جموع الصحفيين والإعلاميين والأكاديميين والمثقفين وحتى المواطنين العابرين- لم نكن بنفس الوضوح والتحديد ونحن نتعامل مع تصريحات الرئيس، وهو ما جعل الخطاب الذى تناولها يعانى بعضًا من التخبط، وهو التخبط الذى أسهم فى صنع فوضى، أضيفت إلى الفوضى التى تعانى منها حالة الرأى فى مصر. 

لقد توقف كثيرون أمام تعبير الرئيس عن «الرأى والرأى الآخر». 

لكننى توقفت قبل أن أصل إلى هذا التعبير عند تعبير سبقه فى البيان وهو «جميع الآراء الوطنية». 

لماذا استخدم الرئيس توصيف «الوطنية» وألحقه بـ«الآراء»؟ 

فهل هناك آراء وطنية، وآراء أخرى ليست كذلك؟ 

أعتقد أن التعبير كان دقيقًا، ومعبرًا عما وصلت إليه حالة الرأى فى مصر منذ أحداث يناير ٢٠١١، والتى أعتبرها مبتدأ لظواهر كثيرة غلبت على حياتنا، ليس فى السياسة فقط، ولكن فى الاقتصاد والثقافة وعلاقاتنا الاجتماعية ونشاطنا الفنى وسلوكنا الاجتماعى ومزاجنا النفسى وإنتاجنا الإعلامى وتعاطينا مع قضايانا الصغرى قبل الكبرى. 

خلقت هذه الأحداث مزاجًا متقلبًا غير مستقر، تغيب فيه المعايير الطبيعية وتختل المعادلات المنطقية. 

فهناك بالفعل آراء يمكن اعتبارها وطنية تنطلق من ثوابت الأمن القومى المصرى وتتوافق مع المصلحة العليا للبلاد. 

وهناك آراء أخرى لا يتردد أصحابها عن إعلانها لا تضع فى اعتبارها مقتضيات الأمن القومى، ولا تراعى المصلحة العليا للبلاد.. ولا تنتبه حتى إلى أن هناك ما يهدد وجود الوطن من أساسه، فيتحرك أصحابها وكأننا لا نعانى مشاكل، ولا نواجه تحديات، ولا يتربص بنا خصوم من كل اتجاه.

الرأى الذى يقول إن الحرب على الإرهاب كانت خدعة، وأنه لم يكن هناك خطر يستوجب كل هذه الإجراءات، وأن الدولة هى التى كانت تصطنع بعض العمليات الإرهابية لتحكم سيطرتها، وتبسط نفوذها، وتحاصر مخالفيها، وتقوم بالقبض عليهم، وسجنهم حتى تخرسهم، لتستريح منهم.

هل يمكن أن نعتبر هذا رأيًا وطنيًا؟ 

والرأى الذى يقول إن العاصمة الإدارية لم تكن ضرورة، وإنها إهدار لأموال الدولة، ولم تكن هناك حاجة إليها الآن، فهناك ما هو أولى منها.

هل يمكن أن نعتبر هذا رأيًا وطنيًا؟ 

والرأى الذى يقول إن هناك خللًا فى أولويات الدولة، وإنها مضت فى طريق خاطئ بإجراءات الإصلاح الاقتصادى التى بدأت فى نوفمبر ٢٠١٦، وإنه لم يكن هناك داع للسير فى طريق ترشيد الدعم.

هل يمكن أن نعتبر هذا رأيًا وطنيًا؟ 

وهل يمكن أن نعتبر من يتحدث عما قامت به الدولة من ثورة تحديث شاملة، وبناء كل هذه البنية التحتية وكأنه نوع من الرفاهية، ولم نكن فى حاجة إلى كل هذا التوسع الآن، فبدلًا من أن تبنى طريقًا عليك أن تبنى مصنعًا، دون النظر إلى أنك لكى تبنى مصنعًا، فعليك أن تسهل الوصول إليه بطريق. 

هل يمكن أن نعتبر كلامه هذا رأيًا وطنيًا؟ 

وهل يمكن أن نتعامل مع من يقول بضرورة أن تدخل مصر مواجهة مسلحة خارج حدودها سواء فى إثيوبيا لمواجهة الأخطار المترتبة على سد النهضة، أو فى ليبيا لتأمين الحدود الغربية، أو فى السودان لقطع الطريق على خطر الجماعات الإرهابية.. على أنه رأى وطنى؟ 

وهل يمكن التفاعل مع من يرددون أن مصر تساعد فى حصار الشعب الفلسطينى الأعزل وتسهم فى تجويعه وتمنع دخول المساعدات بإغلاقها معبر رفح، وتدعم إسرائيل فى مخططاتها لتصفية القضية االفلسطينية على أن هذا رأى وطنى؟ 

يمكننى أن أضع أمامكم عشرات الأمثلة على ما نسمعه، ويعتبره من يقولونه رأيًا آخر، ويريدون أن يتم إفساح الطريق أمامه، بل ويؤكدون أن ذلك من حرية الرأى التى يكفلها الدستور والقانون؟ 

هذه الآراء فى النهاية بالنسية لى ليست إلا نوعًا من الفوضى، تخلق حالة من البلبلة والشوشرة والتشويه والتخبط والإحباط، فهى ليست أخبارًا جادة، لأنها لا تعتمد على معلومات صحيحة، والرأى الذى لا يبنى على معلومات دقيقة وصحيحة لا يعول عليه، ولا يجب أن يلتفت له أحد من الأساس. 

لقد عانت الدولة المصرية خلال السنوات التى أعقبت ثورة ٣٠ يونيو من أكبر عملية تشويه، وكانت الأداة التى استخدمت فى هذه العملية هى الآراء العشوائية التى كان يصيغها أصحابها، محكومة أحيانًا بالهوى الشخصى، ومصاغة أحيانًا أخرى بالجهل والغفلة ومحاولة إثبات الذات، هذا غير الآراء التى جاءت من أرضية العداء للدولة ولكل ما يمثلها، وهى كثيرة لا يمكن لأذن أن تتجاهلها، ولا لعين أن تغض الطرف عنها. 

هل يمكننا أن نراجع مثلًا ما قيل عن قناة السويس الجديدة؟ 

تذكرون جيدًا أنه قيل عنها إنها مجرد ترعة لا فائدة منها، وأنها إنفاق لمليارات فى الهواء، ولن يكون لها عائد، خرج هذا الخطاب من القنوات الإخوانية أولًا، ألحوا عليه وأعادوه وكرروه، حتى تسرب إلى منصات التواصل الاجتماعى، ووجدنا من يتبناه، ويريدنا أن نقر به كأنه حقيقة مطلقة. 

وهل يمكننا أن نستعيد ما قيل عن العاصمة الإدارية الجديدة؟ 

لقد قالوا عنها إنها فنكوش، ودلالة الكلمة واضحة، فهى لا شىء، وأحدهم قال: لماذا يبنون مدينة جديدة فى الصحراء؟ وكأن المدن الجديدة يجب أن تبنى فى قلب المدن القديمة، بل قالوا إنهم بنوا هذه العاصمة بعيدًا عن القاهرة حتى يكونوا فى منعة، لا يصل إليهم أحد، وسيتركون المدينة القديمة لتحترق، واخترعوا عبارة نسبوها لروائى شهير راحل، رغم أنها لم تكن موجودة فى الرواية من الأساس. 

وهل يمكننا أن نعيد قراءة كل ما قيل وكتب عن كل المشروعات القومية؟ 

لقد سفهوا من قام بها، وشككوا فى نواياه ومقاصده، وعابوا عليه أنه يبنى ويعمر، وخاضوا فى سيرته وألصقوا به الاتهامات، وكانوا يستغلون أى حادثة ولو عابرة ليهيلوا التراب على ما تم إنجازه، فإذا انقطعت الكهرباء سألوا عن المحطات التى بنيت، وإذا وقع حادث سير نزعوا عن منظومة الطرق كل قيمة، وإذا ارتكبت جريمة قتل طعنوا فى حالة الأمن والأمان التى نعيشها. 

وهل يمكننا أن نوثق ما قيل عن سيناء وما جرى فيها؟ 

نتذكر جميعًا ما قالوه عن تهجير أهلها، وأنها ستكون هدية إسرائيل، وحتى عندما رفضت مصر التهجير، وقالت عبر مسئوليها إننا لن نفرط فى حبة رمل من سيناء أبدًا، وجدنا من لا يصدق ذلك ويشكك فيه، ويحاول جاهدًا أن يثبت وجهة نظره بكل ما أوتى من باطل، ويطالبنا بأن نحترم ما يقوله ونقدره ونعتبره رأيًا آخر. 

لقد صاغت مصر علاقاتها الخارجية على أساس التوازن، أعلنت عن أن سياستها تقوم على فلسفة صفر مشاكل، وتحملت فى سبيل تطبيق هذه الفلسفة ما لا يتحمله أحد من تطاول وتحرش سياسى وإساءات بالغة، لكن لم يعجب هذا بعضهم، وبدأوا يشوهون سياسة مصر الخارجية، ويعتبرونها خنوعًا ورضا كاملًا بالذل والمهانة، وأمسكوا بصورة هنا أو هناك ليؤكدوا بها زور وإفك وكذب ما يذهبون إليه. 

منذ سنوات وأنا أقدم برنامج «٩٠ دقيقة» على شاشة قناة «المحور» سألنى أحدهم: لماذا لا تستضيف فلان الفلانى المعارض ليقول رأيه؟ 

كان فلان الفلانى هذا يكتب يوميًا على حساباته المختلفة بشبكة التواصل الاجتماعى كل ما يعن له من آراء دون أن يتعرض له أحد لا بخير ولا بسوء. 

قلت لسائلى: ولماذا أستضيفه وهو يقف على الضفة الأخرى تمامًا من كل ما أقوله وأمثله؟ 

قال لى: يا أخى من باب الرأى والرأى الآخر.. ألا تؤمن بحرية الاختلاف؟ 

قلت له: وهل ما يقوله فلان الفلانى رأى آخر؟... إنه ليس معارضًا بل هو مناهض، لا يمكن أن أعتبره شريكًا حقيقيًا فى مشروع نعتقد بأنه وطنى يسعى إلى مواجهة الإرهاب وبناء الدولة من جديد، ولكنه أقرب ما يكون إلى الشريك المخالف، فهو بحكم جنسيته وانتمائه إلى هذه الأرض شريك، لكنه مخالف، لأنه يقف على الشاطئ الآخر، لا يعجبه شىء، ولا يروق له ما يحدث، فهل يمكن أن نثق فيما يقوله؟ وما الذى يضمن أن يكون خطابه هذا إذا منح شرعية الظهور والانتشار ألا يكون سببًا فى إحداث فوضى واضطراب؟ 

هذه قناعتى التى عملت بها ولا أزال. 

أذكر أن سياسيًا مرموقًا ومفكرًا كبيرًا ومثقفًا محترمًا أرسل لى مقالًا أثناء الانتخابات الرئاسية التى جرت فى العام ٢٠١٨. 

كان عنوان المقال «ملاحظات على الانتخابات الرئاسية».. وكان كل ما فيه مخالفًا تمامًا لما استقرت عليه السياسة التحريرية التى نعمل بها، فكرت أن أعتذر للكاتب الكبير عن نشر المقال، فهو ليس مناسبًا لنا، ولم يكن معنى هذا أننى أرفض نشر المقال، بل المهنية تقتضى أن يقوم الكاتب بنشره فى مكان يتفق مع توجهه، فنحن ننشر لمن يختلف معنا، ولا ننشر لمن يتناقض مع سياستنا، والفارق بينهما كبير جدًا. 

قررت أن أنشر المقال كاملًا دون أن أحذف منه كلمة واحدة، فهذا حق الكاتب، ومنحت نفسى حق أن أرد على المقال، وأناقش ما ورد فيه من أفكار، وبالفعل نشرت المقالين فى الصفحة الأولى، بعنوان الكاتب «ملاحظات على الانتخابات الرئاسية»، وكان عنوان مقالى «ملاحظات على الملاحظات على الانتخابات الرئاسية». 

اعتبرت أننى بذلك أمارس فضيلة الرأى والرأى الآخر، لكننى وبعد أيام قابلت الكاتب الكبير على هامش إحدى الندوات، فوجدته غاضبًا للدرجة التى تردد فى مجرد السلام على، وعندما سألته عن سبب استيائه، فقال لى: لأنك اتهمتنى بأننى إخوان وأنا لست من الإخوان. 

قلت له: أعرف أنك لست من الإخوان.. ولا يمكن أن أصفك بهذا معاذ الله، ودلنى على ما قلته وفهمت منه أننى أقول ذلك. 

فقال مسرعًا ودون تفكير: لقد قلت فى كلامك إن ما قلته يتوافق مع ما يردده الإخوان فى قنواتهم عن الانتخابات الرئاسية، وكان من المفروض أن تنشر ما كتبته دون أن تعلق عليه. 

توقفت فيما قاله الكاتب الكبير عند نقطتين: 

الأولى أنه يفضل أن ينشر ما كتبه دون أن يعلق عليه أو يناقشه أحد، وهو بذلك من يضيق بالرأى الآخر، رغم أنه ومن يسيرون فى نفس طريقه يطالبون بالرأى الآخر، فإذا ظهر رأى مخالف له، فهو يرفضه ولا يريده ولا يعترف به، وهى ظاهرة نعانى منها، فهناك من يعتقد أن حرية الرأى تسير فى اتجاه واحد، وأنه طالما صنف نفسه معارضًا، فمن حقه أن يتحدث وحده، دون أن يعارضه أو يعترض على ما يقوله أحد، ولو فعلت ذلك فأنت تمارس ضده قهرًا وقمعًا ومنعًا، ويظل يصرخ بأنك تحجب صوته، رغم أنه هو نفسه من يريد أن يحجب صوتك. 

والثانية أن كثيرين فى صفوف المثقفين المصريين تماهوا مع ما تقوله جماعة الإخوان دون أن ينتبهوا إلى ذلك، فلم يفرقوا بين ما تقوله وما يجب أن يقولوه هم، وعندما تنبههم لذلك مجرد تنبيه، يصرخون بأنك تتهمهم بأنهم إخوان، ويسخرون من ذلك، رغم أنهم بما يفعلونه أخطر من الإخوان، فعلى الأقل الجماعة تفعل ما تفعله وهى واعية تمامًا لأهدافها ومقاصدها، أما هؤلاء فيفعلون ما يفعلونه من باب الغفلة. 

لقد قادتنا الفوضى التى أحاطت بحالة الرأى فى مصر إلى حالة من الإنكار لما بين أيدينا. 

عندما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الحوار الوطنى فى إفطار الأسرة المصرية- أبريل ٢٠٢٢- منح الجميع الفرصة لاستعراض كل الآراء، وهو ما جرى، ويمكننا أن نستعيد معًا ما جرى خلال الحوار، فقد تحدث الجميع، لم تكن هناك قيود أو خطوط حمراء، وكانت الحوارات تذاع على الهواء مباشرة عبر قناة «إكسترا نيوز». 

فى هذا الحوار رصدت ما يمكن أن يكون عجبًا فى حياتنا السياسية. 

كانت الدولة ممثلة فى رئيسها هى التى دعت إلى الحوار، بما يعنى أنها حريصة عليه، لا تخشى منه، ولا تتهرب لا من إجراءاته ولا من تبعاته، لكنّ المعارضين هم الذين يتشككون فى الحوار ومدى صدقه وحقيقته، وعندما وقفت إحدى المعارضات قالت إنها ستتحدث بصراحة، وتتمنى أن يذاع كلامها، وأن يسمعها الناس دون تدخل أو حذف، فنبهها المسئول عن الجلسة بأنهم على الهواء، وأن كلامها يذاع الآن بالفعل، ولا أدرى هل كانت تعرف ذلك، لكنها كانت تسعى وراء لقطة سياسية تريد أن تحصل عليها، أم أنها لم تكن تصدق أن هذا يحدث بالفعل؟ 

وقد يكون لديك أنت تفسير لما جرى، فالمعارضون لا يثقون بأن الدولة يمكن أن تسمع منهم، أو تسمح لهم بأن يتحدثوا من الأساس. 

ورغم أن هذا قد يكون ما يردده المعارضون بالفعل، لكنهم لا ينتبهون إلى أنهم يضيعون الفرصة وراء الفرصة، ولا يستفيدون من المساحات التى يصنعها النظام بنفسه لتكون هناك حالة حقيقية من الحوار، وهى الحالة التى تمكن للرأى والرأى الآخر من التواجد على خريطة المجال العام. 

إننى أصدق الرئيس تمامًا فى رغبته بإتاحة الفرصة لكل الآراء، لكن لا بد أن ننتبه إلى أنه يتحدث عن الآراء الوطنية، وهو أمر نحتاج إلى الاتفاق عليه، لأن أصحاب الآراء الأخرى سيقولون ما يريدون، وما يعنّ لهم على أرضية لا تتوفر لها المعلومات وربما النوايا الصادقة، فيخرجون بذلك من خانة الرآى الآخر إلى خانة الرأى المخالف.. والآراء المخالفة والمناقضة والمناهضة مؤكد أنها لن يكون لها مكان ليس من الإعلام فقط، ولكن من الرأى العام أيضًا.. لأنها لا تبنى ولا تعمر.. وغاية ما تريده الدولة المصرية الآن فيما أعتقد أنها تريد أن تبنى وتعمر.