الخميس 31 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

ثقافة التعامل مع الجيش المصرى.. جدل متجدد ومريب حول حديث «خير أجناد الأرض»

حرف

- الجيش المصرى حمى البلاد والعباد وقدم تضحيات هائلة من أجل أن تظل مصر آمنة ومستقرة

لا أحمل فى قلبى لبعض الكتاب والمفكرين والمثقفين- أو من يعتقدون أنهم كذلك- إلا الشفقة، عندما يقدمون أنفسهم بأنفسهم لقمة سهلة يلتهمها الرأى العام، وبدلًا من أن يحترمهم ويقدر كلامهم، تجده يسخر منهم. 

سبب السخرية من وجهة نظرى يعود إلى أن هؤلاء يعيشون فى عزلة وانفصال تام، يتركون الواقع بما فيه من تشابكات وتعقيدات وعلاقات ومعادلات، ويهربون إلى التاريخ يقلبونه على كل جوانبه، يمدون أيديهم فى أحشائه، ويستخرجون منه ما يوافق هواهم، ثم يقذفون به فى وجوهنا. 

يمكن أن يمر الأمر ببساطة لو أن الجدل الذى يثيره هؤلاء يرتبط مثلًا بما اعتاد الناس أن يسلوا به أنفسهم ويزجوا أوقات فراغهم، لكن عندما يتعلق الأمر بأمن البلاد والعباد، فلا بد أن نتوقف. 

خرج علينا أحدهم بحديث تم الترويج له بقوة على المنصات المعادية، يقول بجرأة لم أعد أحسده عليها فى الحقيقة، لينفى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل مصر عندما وصفهم بأنهم خير أجناد الأرض، قال بوضوح إن هذا الكلام خرافة. 

تركت التفاعل مع هذا الكلام جانبًا، لم ألتفت إليه، فمن اهتموا به لهم أهدافهم وأغراضهم، فهم مع كل شىء يسيىء للجيش المصرى، ينفخون فى أى كلام ينال منه، ويحط من شأنه، ويقلل من قدره، لأنه يتوافق مع هدفهم الأساسى وهو هدم هذا الجيش، الذى كان ولا يزال وسيظل حائط الصد فى مواجهة كل محاولات هدم الدولة. 

عداء الخصوم الذين نعرفهم جيدا للجيش مفهوم، لكن لماذا يخرج علينا من لا نشك فى وطنيهم ولا نشكك فى دوافعهم بأحاديث تخدم هؤلاء. 

سيقول لى عابر مقال إن من يقولون ذلك يتحدثون بالعلم، لا يقولون شيئًا من عندهم؟ 

لكن هل هذا حقيقى، أو صحيح، أو علمى؟ 

هذه هى الحكاية، ولأننى متعصب تمامًا فى كل ما يخص الجيش المصرى، ومتطرف تمامًا فى كل ما يتعلق به، ومؤمن تمام الإيمان به وبدوره وبعقيدته، فإننى أحب أن أضع النقاط على الحروف. 

سأعود بكم إلى العام ٢٠١٧، تحديدًا إلى يوم ٩ فبراير، عندما كنت أشارك فى الندوة التثقيفية التى عقدتها القوات المسلحة، وتحدث فيها الداعية الصوفى الشهير الحبيب على الجفرى، وأثنى على الجيش المصرى، وهو ما تقاطع معه الكاتب والمفكر الكبير يوسف زيدان، ونفى أن يكون حديث الرسول عن خير أجناد الأرض صحيحًا من الأساس. 

لم يكن من تقول على الجيش سابقًا بحديثه إذن، هناك من سبقه، ربما الفارق بينهما أن يوسف كان لديه بعض المنطق فيما قاله، وحاول أن يدلل على ما ذهب إليه بما لديه من معلومات حصلها بالدراسة والبحث الدقيق، وليس من خلال كلام بلاغى متهافت وهزيل. 

لكننى ورغم ذلك تقاطعت مع يوسف زيدان، وكتبت يومها بوضوح عن اللياقة السياسية التى يفتقد إليها. 

وإليكم هنا نص ما كتبته. 

أعتز بصداقة الدكتور يوسف زيدان، فهو عالم جليل، وأديب رائع يمتلك ناصية الخيال، ويمسك جيدًا بأطراف الفكرة، ويكتب بمتعة شخصية يشعر بها من يقرأ له، فيستمتع هو أيضًا.

أراه موفقًا فى كثير مما يقوله ويكتبه، وأثنى على اختياره أن يكون صوتًا مختلفًا وسط ركام الزيف الذى نعيشه منذ سنوات، لكننى توقفت طويلًا أمام مداخلته العنيفة تعليقًا على ما قاله الحبيب على الجفرى فى الندوة التثقيفية التى عقدتها القوات المسلحة فى ٩ فبراير. 

أمسك الحبيب على بحديث للنبى أكد صحته، وهو الحديث الذى يقول فيه: «ستكون فتنة لا يسلم منها إلا الجند الغربى»، وأثبت بما لديه أن الجند الغربى هم جيش مصر، وبدأ يدلل على صدق الحديث بشواهد من التاريخ.

اعترض يوسف زيدان على ما قاله الحبيب، دافعًا بين يديه بحجة أن النبى مات ولم يكن لدى مصر جيش، فكيف يقول فى حقه كلامًا مثل هذا؟ وحتى يؤكد صدق كلامه اعتمد هو أيضًا على التاريخ، مشيرًا إلى أن الجيش المصرى لم ينتصر فى حروبه كلها.

وسخر زيدان مما قاله الجفرى من أن بلده اليمن ضاع بسبب تعدد ولاءات جيشه، وهو ما لم يحدث فى مصر، لأن ولاء جيشها للشعب، قائلًا: إن مسألة الولاء لا تلعب دورًا فى انتصار الجيش أو هزيمته.

كتب زيدان ما كتبه كباحث فى التاريخ، ويمكن ألا نلومه على ذلك، لكن وهو فى طريقه إلى استعراض قدراته البحثية أغفل السياق الذى تحدث فيه الجفرى، وتجاهل أنه أشار إلى ولاء الجيش فى إطار المحافظة على وحدة الدولة، وليس فى مسألة النصر أو الهزيمة.

يمكن اعتبار ما دار بين زيدان والجفرى الذى أصدر بيانًا مفصلًا وراقيًا للرد على يوسف، معركة فكرية، لكل منهما فيها منطلقاته الفكرية، التى لا يمكن أن نحاسبه عليها، لكن ما يمكننا التوقف أمامه، أن ما قاله زيدان يفتقد الحس السياسى والنفسى أيضًا.

مصر يا دكتور تخوض حربًا جيشها فيها هو عمود الخيمة، والحروب لا تدار بأولويات البحث العلمى، ولكنها تتطلب الدعمين السياسى والنفسى أيضًا، وما قام به الحبيب على كان نوعًا من هذا الدعم، وسط حملات تشكيك فى عقيدة الجيش المصرى ودوره وما يقوم به.

حاول زيدان ضبط الأداء العلمى لما قاله الحبيب على، لكنه دون أن يدرى أساء إلى الجيش، وأساء إلى نفسه، خاصة أن كثيرًا مما قاله يفتقد إلى الدقة العلمية واللياقة السياسية.

لن أحكم فيما حدث بنفسى، سأنشر هنا كلام الحبيب ورد زيدان عليه ثم تعقيب الجفرى، ولكم الرأى والتعليق.

سأعيد عليكم ما نشرته، حتى تتضح أمامنا الصورة بشكل كامل. 

الجفرى عن النبى: لا ناجى من الفتنة غير الجند المصرى

استدل الداعية اليمنى الحبيب على الجفرى على مكانة مصر وجيشها بقول النبى «تكون فتنة لا يسلم منها إلا الجند الغربى»، وبعد أن ذكر أدلة سند وصحة الحديث، أوضح أن مصر هى المقصودة من الحديث، وقال: النبى كان يتكلم من المدينة، ومن المعروف أن أول بلاد إلى غرب المدينة هى مصر، ولا شك فى ذلك. 

وأشار إلى وجود روايات أخرى منها: تكون فتنة تشمل الناس كلهم لا يسلم فيها إلا الجند الغربى، وستجندون أجنادكم، وخير أجنادكم الجند الغربى، مشيرًا إلى أن ابن عبدالحكم فى كتابه «فتوح مصر والمغرب»، والدولابى فى كتابه «الكنى والأسماء» أخرجا عن النبى قوله: إنكم ستكونون أجنادًا، وإن خير أجنادكم أهل الغرب منكم، فاتقوا الله فى القبط لا تأكلونهم أكل الخضر. 

وأضاف شارحًا الرواية الأخيرة: أى لا تنظروا إليهم بنظرة استباحة واستحلال، ومن هذه الشواهد يظهر لنا من هم القبط؟ هم أهل مصر، مسلموهم ومسيحيوهم، ونقل «الجفرى» من «شرح مسلم» للإمام السيوطى، قوله: لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر، فإنها معدودة فى الخط الغربى بالاتفاق، وكذلك الذهبى وافقه الرأى.

زيدان: الجيش انهزم فى حروب عدة

ردّ الروائى يوسف زيدان، على حديث الداعية الحبيب الجفرى، عن الجيش المصرى، وأنه الوحيد الذى يسلم من الفتنة، قائلًا: الكلام اللطيف الذى قاله الحبيب الجفرى فى جلسة التثقيف عن مدح النبى لجيش مصر خطأ، فقد توفى النبى ولم يكن لمصر جيش أصلًا، وإنما كانت محتلة بالجيش البيزنطى، ومن قبله الجيش الرومانى، وكلا الجيشين لم يجند المصريين، وإنما يستعملهم كعبيد لجنودهما وخدامين لقوادهما، وخلال مئات السنين، لم يعرف اسم جندى أو قائد مصرى قط. 

وانتقل زيدان للحديث عن «بيبرس» الذى تحدث الجفرى عن عظمته التى ظهرت فى مصر ولم تظهر فى بلاده، فأكد أن بيبرس الذى كان مملوكًا لا يعرف له أب، جلب إلى مصر طفلًا. 

وأضاف: استطاع جلال الدين منكبرتى فى بداية الحروب مع المغول تحقيق الانتصارات عليهم، فلما جاء إليه جنكيز خان بالإمدادات المهولة، خانه بعض قواده وانشق عنه بجزء كبير من الجيش فانهزم. 

واستكمل: كل الجيوش تنهزم، وتنتصر، حسب ما تضعه من خطط وما تملكه من عتاد وسلاح وقيادة، وقد انهزم الجيش المصرى أمام جيش إسرائيل مرات، وانتصر مرة حين استطاع عبور خط بارليف، وكان فى كليهما مصريًا. 

الحبيب على: هزيمة التتار موثقة تاريخيًا.. والحديث لكل الأزمنة

عقَّب الجفرى على رد زيدان، قائلًا: إنه أصاب خيرًا فى تعليقه حول بيبرس، لافتًا إلى أنه كان يقصد القائد قطز، وأشار إلى أن جلال الدين شاه هو نفسه جلال الدين منكبرتى الخوارزمى، وقال: وَهم الدكتور يوسف زيدان فى تقييمه لنصر الله جيش مصر على المغول، هو ما أثبته جمع من المؤرخين، وليراجع «مسالك الأبصار وممالك الأمصار» إن شاء. 

ونقل عن الكتاب المشار إليه: ونهض الجيش المصرى بما عجزت عنه ملوك أقطار الأرض، ولم يكن الجيش المصرى بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة فى الدائرة، وهذا من المعجزات النبوية، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على من عاداهم إلى يوم القيامة، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك ألا وهم الجند الغربى. 

وأضاف: والحديث لا يزال من الاقتباس من الكتاب.. لم يظهر على التتار سواهم، وبهذه النصرة دامت النصرة على التتار، وكانت بهم لا بغيرهم مع كثرة من كان من ملوك الإسلام واجتهادهم فى الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام وبقيت بقية الدين، ولولاهم لانصدع شعب الأمة وهى عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغرب ودكت جميع رعان الأرض. 

وأشار إلى أنه لا يوافقه بأنه لم يكن هناك جيش لمصر. 

وأوضح: المماليك بشهادته تدربوا فى مصر وانتموا إليها، وحربهم للمغول كانت نصرًا دق مسماره فى نعش أسطورة استحالة هزيمة هذا الجيش، وليست معلومة فيلم، كما زعم أو توقع، بل هى نقل عن كتاب من الكتب المعتمدة فى تاريخنا سواء أخذ به الدكتور أم رده. 

كان هذا جدلًا علميًا تاريخًا، استطاع فيه الحبيب على أن يؤكد ما قاله وما ذهب إليه. 

تواصلت وقتها مع الدكتور زيدان الذى قرر ألا يستكمل الحوار الذى بدأه، بل قدر ما قاله الحبيب، وتناقشت معه فى السياق الذى نحتاج فيه إلى التعامل مع ما لدينا فى تراثنا، ويؤكد جدارة الجيش المصرى، لأننا فى حاجة إلى تعزيز الثقة فيه، لا هز الثقة الراسخة ليس فى قلوب المصريين فقط، ولكن فى قلوب العرب والمسلمين فيه وفى كل ما يقدمه.

الحوار الدائر الآن متهافت ولا يفتقد فقط إلى اللياقة السياسية، ولكنه يفتقد أيضًا إلى الوعى بما نتعرض له من حرب مخابراتية ونفسية، ولا يعرف- أو ربما يعرف- من قال ذلك إنه يسهم فى خلق حالة من الفوضى التى تتسبب فيها هز الثقة فى قلوب الناس فيما يتعلق بجيشهم. 

لدى رؤية واضحة فى الحديث الذى أورده الحبيب على والحديث الآخر الأشهر عن خير أجناد الأرض. ولمن لا يعرف فإن نص الحديث يأتى على النحو التالى: 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيرًا، فذلك خير أجناد الأرض. 

فقال له أبوبكر: ولمَ يا رسول الله؟ 

قال: لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم الدين. 

فى الدراسات الكلاسيكية لعلماء الحديث يذهبون إلى أن هذا الحديث رواه ابن عبدالحكم فى فتوح مصر، وابن عساكر، وقالوا إن الأسود بن مالك الحميرى رواه فى مسنده، ولأنهم لم يجدوا ترجمة للحميرى قالوا إن الحديث ضعيف. 

وهنا يمكننا أن نتوقف قليلًا. 

فى قناعتى أن الحديث إذا لم يكن يرتبط بالعقائد والعبادات وقال أحدهم إنه ضعيف، فيمكن الأخذ به دون حرج، وذلك لأنه يمكن أن يعزز قيمة ما، أو يرسخ فضلًا ما، ولدينا مئات الأحاديث التى ينطبق عليها هذا الكلام، ويمكن أن نأخذ بهذا الحديث من هذا الباب. 

لكن هناك باب آخر أوسع وأرحب يمكننا أن ندخل منه إلى هذا الحديث، وهو باب الصيغة التى ساق بها النبى حديثه، فهو يقول: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيرًا. 

من يقولون إن النبى عندما قال هذا الحديث لم يكن هناك جيش لمصر - ولو كان هذا صحيحًا تاريخيًا– يمكن أن يكون لديهم بعض الحق، لكن النبى هنا لم يكن يتحدث عن جيش قائم لمصر، ولكنه كان يتحدث عن أهلها، مدحهم وأكد أنهم فى رباط إلى يوم الدين، ومن يكونون بهذه الصفة فإن أبناءهم يكونون خير الأجناد، ولذلك أوصى النبى أن يكون من بينهم جند كثير. 

لقد حاول كثيرون التقليل من شأن جند مصر، وهؤلا يعترفون بصحة الحديث، لكنهم يفسرون مسألة خير أجناد الأرض بأنهم كذلك، لأنهم مجبولون على الطاعة، والشخص الذى يطيع حتمًا يصلح للانخراط فى صفوف الجندية، ورغم أن من قالوا ذلك حاولوا الإساءة إلى الشعب المصرى الطائع الطيع الخانغ، لكنهم لا يدركون أنهم مدحوه من حيث أرادوا السخرية منه، فمن يطيع عندما تكون الطاعة لازمة، ويتمرد عندما يكون التمرد ضروريًا. 

ثم دعنا من هذا الجدل، وتعالوا نتأمل واقع الجيش المصرى وما قام وما يقوم به، لقد حمى البلاد والعباد، وقدم تضحيات هائلة من أجل أن تظل مصر آمنة ومستقرة، فعل ذلك وهو على قناعة بأن هذا دوره ومسئوليته، وعليه فقد أثبت ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فى حقه، وليذهب من يقولون بعدم صحة الحديث أو أنه مجرد خرافة إلى الجحيم. 

لقد أشفقت على من ورط نفسه هذه الورطة، فقد بدا متهافتًا جاهلًا بما يحدث عن الأرض، ويكفى أن الشعب المصرى الذى يجيد ثقافة التعامل مع جيشه، وتجاهل ما قاله من تحدث وكأنه يخدم أجندة خارجية، أو على الأقل قال ما قاله ليرضى عنه ولى نعمته الذى ينفق عليه من سعة، فهو الآخر دائم الهجوم على الجيش المصرى والنيل من كل ما يقوم به.