الأحد 21 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

قلش الست.. تفكيك الخطاب الفكاهى لأم كلثوم

حرف

- كثير من «قفشات» أم كلثوم موثقة ونشرتها الصحف على حياة عينها

- كوكب الشرق اشتهرت بين أصدقائها ومعارفها بأنها صاحبة قفشات

- كان القسط الأكبر من «مقالب الست» من نصيب الملحن محمد القصبجى

- لا يمكن تجاهل جيناتها المصرية التى غذت داخلها قدرتها على السخرية من أى وكل شىء

- أم كلثوم: لقد عرفت الفاقة والحرمان منذ كنت طفلة وصبية

- أحمد رامى: الست ذات لسان لا يرحم

- شكل رامى كان سببًا من أسباب صدود أم كلثوم عن الوقوع فى غرامه كرجل فهى لم تكن تنكر غرامها به كشاعر

- رغم احترام أم كلثوم الشديد لفريق عملها من شعراء وملحنين إلا أنها لم تكن ترحمهم من لسانها

- لم تكن أم كلثوم تتخلى عن السخرية حتى وهى مندمجة فى عملها

- المقالب كانت واحدة من طرق الست لتسلية نفسها

- قال لها صعيدى «إنتى جاموس الفن» فردت: «فين العجول اللى تفهم؟»

- سألها صحفى: «إنتى بتحبى المادة؟».. فردت: «الله يحنن عليك»

- جاء صحفى قصير القامة ليجرى حوارًا معها.. فلما صافحها قالت: أظن أنت الواحد يقعد لك أحسن

- عاشت أم كلثوم طوال حياتها تسخر وتطلق النكت

- لو أن «أم كلثوم» خلقت خلقًا آخر لما كانت إلا بلبلًا يصدح فوق الأغصان بأعذب الألحان

عندما تبحث فى داخلك عن الصورة التى كونتها لكوكب الشرق أم كلثوم، ستجدها سيدة جادة أحيانًا وأحيانًا أخرى متجهمة. 

امرأة لا تضحك إلا قليلًا، ولا تبتسم إلا بحساب، تنفق وقتها كله فى العمل الشاق، فهى لم تتوقف طوال حياتها عن القراءة والبروفات ومقابلات صناع أغنياتها والوقوف على المسرح فى حفلات شهرية والسفر فى رحلات كثيرة لدول العالم المختلفة، أخذت نفسها بالجدية التى مكنتها من التربع على عرش الغناء ولا تزال، فلولا جديتها ما وصلت إلى ما أصبحت عليه.. ولا تزال. 

لكن هذه الجدية لم تمنع أم كلثوم من أن تكون ساخرة تقريبًا طول الوقت، فهى بنت نكتة، الإفيه عندها حاضر، والقلشة تجاور لسانها لا تفارقه، لا تمنع نفسها من التنكيت حتى لو أوقعها ذلك فى مشكلة، أو كان سببًا فى سوء فهم، وقد حدث هذا بالفعل. 

فى كتابه «الكبار يضحكون أيضًا» يحكى أنيس منصور: 

فى يوم ذهبت مع الصديق كمال الملاخ لزيارة أم كلثوم، فهجم علينا كلبها وأمسك ببنطلون كمال الملاخ، واندهشنا لماذا هو وليس أنا، فضحكت أم كلثوم وقالت: إنت عارف الكلاب ما بتحبش الكلب الغريب. 

غضب الملاخ من أم كلثوم بشدة وقرر أن ينصرف، وتدخل أنيس ليصالحهما. 

وبعد أن هدأ الملاخ بدأ يحكى عن تاريخ مصر الفرعونية دون توقف، ثم وقف ينظر إلى نفسه فى المرآة، فسألته أم كلثوم: شايف إيه يا كمال؟ 

قال: كثير من الناس يسموننى أبو الهول. 

ورغم أنها كانت تعرف أن الملاخ لا يرحب بالمزاح كثيرًا، إلا أنها لم تملك نفسها، فقالت له: يا نهار أسود.. بقى لك تلات ساعات بتتكلم وبيقولوا عليك أبو الهول. 

وهذه المرة لم يغضب الملاخ، وتقبل نكتة أم كلثوم ببساطة. 

وبعد أن هاجر الكاتب «على أحمد باكثير» إلى مصر فى العام 1934 واستقر فيها أصدر روايته «سلامة القس»، قرأها الشاعر الكبير عزيز أباظة، ورشحها للمخرج توجو مزراحى ليقدمها فى فيلم، رحب مزراحى باقتراح عزيز وقدمها لأم كلثوم فأحبت موضوعها، وتم ترتيب لقاء بينها وبين باكثير فى بيتها. 

صباح 16 أكتوبر 1943، كما يقول عزيز أباظة، ذهب باكثير إلى منزل أم كلثوم لمناقشة تفاصيل تحويل الرواية إلى فيلم، وعندما رأت أم كلثوم باكثير اكتشفت أنه قصير القامة بصورة لافتة، فقالت له: يا أستاذ ده حضرتك «باقليل» مش باكثير. 

كان باكثير شخصية جادة، ولم يستوعب النكتة، ونظر إليها بغضب، وتوتر الجو فى الجلسة، وتركها وانصرف، وهو ما كان سببًا فى توقف الفيلم لعدة أشهر، ولم يتم استئناف العمل به إلا بعد أن اعتذرت له أم كلثوم. 

فى مقابل هذه الصورة التى أسهم فى رسمها كثيرون ممن جلسوا مع أم كلثوم وتحدثوا معها، هناك مَن حاول تفكيك خطاب أم كلثوم الفكاهى. 

فى ٢٩ ديسمبر ٢٠١٩ وفى زاويته بجريدة الشرق الأوسط كتب الناقد الفنى طارق الشناوى تحت عنوان «أم كلثوم وزمن التنمر»: التقت أم كلثوم فى إحدى السهرات برجل بادرها قائلًا: أنا جارك أقيم فى الفيلا المقابلة لك، ردت عليه: أنت «جرثومة»، وكانت تقصد «جار ثومة». 

هذه النكتة رواها آخرون عن أم كلثوم ولكن بصيغة أخرى. 

كان أحد الجيران يسكن بالقرب من منزلها فى الزمالك، وكان يحاول أن يزورها بأى وسيلة، وذات مرة كانت تستقبل بعض أصدقائها من الشعراء والكتاب والموسيقيين، فدخل معهم هذا الجار دون دعوة، فقال لها أحد الحاضرين: يا ثومة ممكن تعرفينا بالأستاذ. 

فردت أم كلثوم وقالت: الأستاذ ده جرثومة. 

وكانت تقصد أنه جارها.. وما دامت هى ثومة.. فهو بالفعل «جارثومة».. لكنها حذفت الألف ليصبح جرثومة، فى توصيف دقيق لما قام به. 

انحاز طارق الشناوى إلى سرد النكتة بصيغتها الأولى، رغم أن الصيغة الثانية أكثر منطقية وقبولًا، وأخذ منها مدخلًا لما يريد أن يقوله. 

يقول: فى مناسبة ذكرى ميلاد أم كلثوم وأحيانًا من دون مناسبة، أقرأ الكثير من المفارقات والنكات اللاذعة المنسوبة عنوة لسيدة الغناء العربى، والناس غالبًا تصدقها استنادًا إلى امتلاك «ثومة» روح الدعابة، بل ويرددون بكل ثقة ما هو منسوب إليها، من النكات والقفشات، وتتسابق الجرائد فى ذكر وقائع مشابهة على النحو السابق. 

يرى الشناوى أنه ببعض التأمل نكتشف أن ٩٠ بالمائة مما يتردد لا أساس له من الصحة، ومبرره فى ذلك أنه من المستحيل أن نصدق مثلًا أن أم كلثوم تسخر من إنسان لأنه قصير القامة أو سمين أو ضعيف السمع، فهل يمكن أن تنعت جارها الذى تلتقيه لأول مرة بـ«الجرثومة»، وهل كانت أم كلثوم تمارس عمال على بطال على عباد الله التنمر قبل عشرات السنين من تداول هذا التعبير. 

يحشد طارق الشناوى ما لديه من قدرة على الخيال والتحليل النظرى ليؤكد وجهة نظره، فهو يرى أن أم كلثوم بالطبع خفيفة الظل وسريعة البديهة، لكنها أبدًا لم تحرج أو تجرح أحدًا، ولا يمكن أن تخرج عن حدود اللياقة أو اللباقة. 

ولذلك فهو يطالب بما يمكننا تسميته مراجعة خطاب أم كلثوم الفكاهى. 

يقول: علينا غربلة كل ما يتردد، الأكاذيب أكثر من الحقائق، هناك من تعود أن يضيف من أجل تحلية البضاعة، وما تقرأه يدخل فى إطار زيادة التحابيش الساخنة على الحكاية القديمة حتى تصبح طازجة وسبايسى، غير مدركين أن بعض الحكايات التى أرادوا من خلالها مثلًا إثبات خفة ظل أم كلثوم تتحول مع الزمن إلى أسلحة تطعن بها، وتصبح دليلًا عكسيًا على الغلظة والتنمر. 

قد تحترم رؤية طارق الشناوى وتقدرها، فهى تحمل قدرًا معقولًا من المنطق، لكن عندما نقيس كلامه بمقياس العلم سنجده يتبع منهجًا مختلًا فى قياس واقعية سخريات السيدة أم كلثوم. 

فهو وفى نفس المقال يأتى بما يهدم رؤيته تمامًا. 

يقول طارق: روى الشاعر مأمون الشناوى، وهو عمه، أنه التقى أم كلثوم فى استديو مصر، حيث كانت تنتظر انتهاء صديقتها تحية كاريوكا من تصوير أحد الأفلام، وعندما رأت مأمون قادمًا سألته عن تحية، أجابها: سوف تأتى رأسًا، فقالت أم كلثوم: تحية كاريوكا تأتى فقط رقصًا. 

يعلق الشناوى الصغير على هذه الواقعة بقوله: هذه قفشة تليق بأم كلثوم. 

ويسوق لنا مثلًا آخر على قفشاتها، يقول: فى تسجيل حفل أغنية «ليلة حب» أعادت أم كلثوم ثلاث مرات هذا المقطع «ما تعذبناش ما تشوقناش وتعالى نعيش فرحتنا» هنا اقترب أحد المتفرجين من خشبة المسرح يريد الإعادة الرابعة، فأشارت إليه قائلة: ما تعذبناش.. فضحك الجمهور. 

يشير الشناوى إلى أن هذه القفشة موثقة ومسجلة، ولكن الكثير من نسج خيال البعض. 

ويضيف: ليست فقط أم كلثوم التى تلتصق بها مثل هذه الحكايات الملفقة، توفيق الحكيم وعباس العقاد وكامل الشناوى وغيرهم، تنسب لهم الكثير منها، وكأنهم مثل جحا، تلك الشخصية الأسطورية التى تُصنع لها فى كل يوم حكاية جديدة، وكل بلد لديها جحا، بل كل شخص أحيانًا من الممكن أن يروى نكتة وينسبها وهو مطمئن تمامًا إلى جحا. 

ويحتج الشناوى على المعاصرين لأم كلثوم الذين كانوا ينسبون إليها بعض الحكايات، مثل تلك التى رواها موسيقار، لم يحدد اسمه، قائلًا إنها رأت حمارًا يتبول فى النيل، فقالت نعم.. أليست هذه مجارى النيل. 

ويعلق على هذه الواقعة بقوله: الموسيقار لا يريد أن يسخر من أم كلثوم بالطبع، ولكنه يقدم هذه النكتة التى قرأها منسوبة إليها، على اعتبار أنها دليل على خفة ظلها، وهنا تكمن خطورة تصديق كل ما هو فى تراثنا الأدبى والفنى والسياسى، فليس كل ما هو فى الأرشيف حقيقة، رغم أنه قد يبدو ظاهريًا كذلك، فالبعض يردد الحكاية ثم مع كل إعادة تدوير يضيف لها بصمته الخاصة. 

كلام طارق الشناوى ظاهريًا يبدو صحيحًا، لكنه عمليًا ليس كذلك. 

من ناحية لأنه يقيس زمن أم كلثوم بمقياس زمننا الذى أصبحنا نعرف فيه التنمر، نرفضه ونتعامل معه على أنه استخفاف بالناس وإهانة لهم وسخرية منهم، لكن فى عصر أم كلثوم حيث لم يكن هذا التعبير متداولًا، كانت النكتة متاحة، والقفشة مباحة، والسخرية زادًا يوميًا على موائد المصريين، ولم يكن يرى أحد فيما يحدث عيبًا. 

ومن ناحية ثانية أنه يطمئن إلى أن النكتة التى رواها لها عمه مأمون الشناوى وهو أحد شعراء أم كلثوم الكبار مقبولة ويصفها بأنها موثقة، وربما يطمئن إليها لأنها جاءت على لسان عمه فقط، دون أن يمارس منهجه فى نقد كلامه ورفضه، فمن يدرينا أو يدرى طارق أن كلام عمه فى الأساس صحيح؟ 

وإذا كان طارق الشناوى يحتج بأن قفشات أم كلثوم تداولها الناس شفهيًا، وهو ما يجعلنا لا نطمئن إلى صحتها، حيث يضيف الرواة إلى الروايات ويحذفون، فإننى أرى فيما يقوله عن أم كلثوم باطلًا، لأن كثيرًا من قفشاتها موثق، نشرته الصحف على حياة عينها، ولو عاد طارق إلى الأرشيف لتأكد من ذلك، ولعرف أن أم كلثوم لم تنكره أو ترفضه أو تعلق عليه، وأعتقد لو أن هناك من نسب إليها شيئًا لم تقله لاعترضت ورفضت وطالبت بالتصحيح، لكنها لم تفعل شيئًا من ذلك. 

مراجعة خطاب أم كلثوم الفكاهى لم يتوقف عند طارق الشناوى فقط، فهناك تقرير منشور على موقع «عرب لاين» فى ٢ نوفمبر ٢٠١٧ قبل مقال طارق الشناوى بعامين، عنوانه «قلش أم كلثوم.. هل كانت قفشات الست بتضحك فعلًا؟».

يبدأ التقرير بالإقرار بأن كوكب الشرق اشتهرت بين أصدقائها ومعارفها بأنها صاحبة قفشات، حيث اعتادت أن تقلش على أصحابها فى كل موقف رأت أن لديها تعليقًا مناسبًا عليه، بالإضافة إلى مقالبها الشهيرة التى اعتادت أن تشك بها معارفها بين الحين والآخر، والتى كان القسط الأكبر منها من نصيب الملحن محمد القصبجى. 

ويصل التقرير إلى الهدف الذى وضع عنوانه من أجله، وهو التشكيك فى سخريات أم كلثوم. 

يقول: بالرغم من أنه توجد ملاحظات كثيرة على قفشات أم كلثوم، وهل كانت حقيقية تثير ضحك من حولها، أم أنهم كانوا يجاملون كوكب الشرق، إلا أن ذلك لم يمنع مجلة «الإثنين والدنيا» من أن تنشر تقريرًا عن أطرف قلشات أم كلثوم، والتى رأى محرر المجلة حينها أنها قلشات تفطس من الضحك، وتستحق أن تنشر لتعم البهجة على جميع عشاق أم كلثوم. 

التشكيك هنا منقوص، لم يستطع صاحبه أن يقدم لنا دليلًا عليه، بل استسلم إلى تتبع قفشات أم كلثوم من خلال التقرير الذى نشرته مجلة «الإثنين والدنيا» فى يونيو من العام ١٩٤٩. 

نشرت المجلة تقريرًا بعنوان «اضحك مع البلبل العليل»، وكان المقصود بكلمة «العليل» أم كلثوم التى أصيبت بمرض فى إحدى عينيها، تسبب فى امتناعها عن إقامة حفلاتها الغنائية. 

قدمت «الإثنين والدنيا» للتقرير بقولها: إن أم كلثوم بلبل الشرق الصداح، وإن كانت احتجبت عن جمهورها المفتون بفنها، للمرض الطارئ الذى ألم بعينها، عجل الله لها الشفاء، إلا أن خفة روحها لم تحجب عن خاصتها، وهذه طائفة من أحدث قفشاتها. 

نشرت المجلة عددًا من فقشاتها على النحو التالى: 

كان الأستاذ أحمد رامى يزورها، فقال لها: إن الأستاذ حسين شوقى، نجل أمير الشعراء أحمد شوقى بك، يريد زيارتها من زمن، ولكنه «بيختشى»، فما كادت أم كلثوم تسمع هذا حتى قالت لرامى: طيب ما يدور على واحد زيك «مايختشيش» وييجى معاه. 

وحدث أن شاهدت أحد البهلوانات يسير على رأسه فأعجبت به، ولما اقترب منها لاحظت أن رأسه معفر بالتراب، فقالت له: إنت بتمشى على راسك كويس، بس ما تبقاش تمشى حافى، شوف لك برنيطة البسها. 

وكان أحد الملحنين يصاحبها فى سيارتها، حينما مرت بسرادق مقام فى طريق منزله، فسألته عن سببه، فقال: ده «أربعين» ميت.. فقالت مندهشة: يا خبر اسود.. والأربعين ميت دول من بيت واحد. 

وشكت إحدى الصديقات من أن زوجها تأخر ذات ليلة حتى الصباح، ثم عاد وهو متعب جدًا، فأخذت أم كلثوم تهدئ ثورتها، وتقول: ما علهش.. يمكن كان تايه. 

وتكره أم كلثوم أن يغتاب أحد الفنانين زميلًا له، وقد سمعت أحدهم يذم صاحبه، فيقول عنه إنه «زى التعبان يقرص ويلبد»، فقالت له: إنت لازم انقرصت فى لسانك. 

والتقت بصديق من هواة الموسيقى، له عود ضخم يستصحبه دائمًا ويؤذى بأنغامه السامعين، فدعته إلى زيارتها، ولكنها قالت له وهى تشير إلى العود: بس اوعى تيجى بمحراتك. 

يعلق كاتب التقرير الخاص على هذه القفشات بقوله: بعد ما قرأت هذه «القلشات» و«القفشات» التى كانت تعتبر من النوادر المضحكات المبهجات فى أربعينيات القرن الماضى، هل تعتقد أن كوكب الشرق كان دمها خفيفًا فعلًا ولها قلشات تضحك كما كانت تروج الصحافة فى تلك الأيام، أم أن الموضوع كان مجرد رغبة فى الكتابة عن الست، حتى ولو كان مجرد قلش رخيص؟ 

صاحب التقرير بالنسبة لى ضرب عصفورين بحجر واحد. 

الأول أنه نسف رؤية طارق الشناوى، فسخريات أم كلثوم موثقة، ونشرت فى حياتها ولم تعترض عليها، ولذلك فإن ما يستبعده من أن أم كلثوم لم تكن تسخر أو حتى تتنمر على الآخرين بلغة عصرنا ليس صحيحًا. 

والثانى أن كاتب التقرير سقط فى نفس خطأ طارق الشناوى، فقد لا تكون قفشات أم كلثوم مضحكة بالنسبة لنا الآن، لكن مؤكد أنها كانت مبهجة ومضحكة فى عصرها، وما لا نقبله الآن، قبله مَن سبقونا. 

أعرف أن محاولة استبعاد طارق الشناوى لسخريات أم كلثوم، والتعامل معها على أنها ليست حقيقية، فيه قدر كبير من حسن النية، فهو يريد أن ينزهها عن أى خطأ، لكن الواقع يقول إن أم كلثوم كانت أكثر من ساخرة، فهى بنت نكتة بالفطرة، وقد تم توثيق سخرياتها من خلال الصحافة فى حياتها، وهو ما نعتبره من تراثها مثله مثل أغنياتها تمامًا.

كان طبيعيًا أن تكون أم كلثوم ساخرة، بنت نكتة، يكفى أنها مصرية فلاحة عاشت الحياة بالطول والعرض، صاحبة تجارب عريضة، لا يمكن تجاهل جيناتها المصرية التى غذت داخلها قدرتها على السخرية من أى وكل شىء، فهى بنت هذا الشعب الذى يأخذ من السخرية وسيلة لتخفيف ما يلاقيه فى الحياة من عناء، يعتمد عليها فى صياغة رأيه والتعبير عن نفسه، وحسم كثير من مشاكله. 

لكن لا ينفصل هذا عن تكوين شخصية أم كلثوم، فالساخرون دائمًا أكثر ذكاء وإبداعًا. 

هنا يمكن أن نستعين بالعلم. 

دراسات عديدة أشارت إلى أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين السخرية والذكاء، فالذين يعبّرون عن أنفسهم بسخرية أكثر إبداعًا من الآخرين، لديهم سرعة بديهة وقدرة فائقة على التفكير العميق، كما أنهم يملكون القدرة على مواجهة المشاكل المختلفة، والتوصل إلى حلول فعالة لأزماتهم، ويسلكون مسارات مختلفة ومبتكرة للتعامل مع الآخرين. 

يلجأ الساخرون إلى السخرية من الآخرين لهدف محدد، وهو إجبارهم على إعمال العقل بصورة أكبر حتى يستطيعوا فهمهم والتواصل معهم، والحصول منهم على ردود الأفعال التى يريدونها. 

هناك ما هو أهم، فالساخرون- كما السيدة أم كلثوم- يملكون قدرة هائلة على فهم مشاعر الآخرين وحالتهم الذهنية، وهو ما يمكنهم من كشف ما يخفيه الآخرون، كما أنهم يملكون مهارة استيعاب المعلومات والتعامل معها، وهو ما يجعل لديهم القدرة على الدخول فى نقاشات مطولة، يخرجون منها دائمًا منتصرين. 

لفتت قدرة أم كلثوم على السخرية وصياغة النكتة كثيرين، ومن بينهم الفنان الكبير زكى طليمات الذى كتب مقالًا بعنوان «أم كلثوم أميرة الطرب والنكتة»، ونشره فى مجلة «العربى» الكويتية، عدد فبراير ١٩٥٩. 

يبدأ طليمات مقاله بالإقرار بأن أم كلثوم حملت ألقابًا عدة من جانب مواطنيها تقديرًا لما انتهت إليه فى فنها، فهم يسمونها «كوكب الشرق» و«أميرة الطرب» و«أميرة النكتة»، ويحكى لنا كيف تعرّف عليها عن طريق الشاعر الكبير أحمد رامى. 

كان طليمات صديقًا لرامى، وفى لمحة ساخرة يقول عنها: لو لم يكن لشاعرنا أنف يطغى على قسمات وجهه كأنف «سيرانو دى برجراك» لتغير وجه التاريخ فى حياة أم كلثوم الخاصة. 

فى إشارة واضحة إلى أن شكل رامى كان سببًا من أسباب صدود أم كلثوم عن الوقوع فى غرامه كرجل، فهى لم تكن تنكر غرامها به كشاعر. 

طلب زكى طليمات من رامى أن يعرّفه على أم كلثوم، فقال له: أخاف عليك، ولما سأله عن سبب هذا الخوف، أجابه رامى: لأنها خطرة.. وذات لسان لا يرحم. 

عرف طليمات أم كلثوم فى العام ١٩٢١. 

يقول عن ذلك: عرفت أم كلثوم من الباب الكبير عام ١٩٢١، وهو العام الذى يؤرخ على وجه التقريب لاستقرارها بالقاهرة بعد أن تركت ريف مصر بمديرية الدقهلية حول مشارف مدينة «السنبلاوين»، حيث ولدت وترعرعت، وذاع لها صيت فى إنشاد المدائح النبوية وكرامات أهل البيت، وهى تبدو فى زى بدوية، يعتصب رأسها بالكوفية والعقال، وتلبس فى قدميها أحذية الرجال. 

ويصفها طليمات بقوله: كانت أم كلثوم إذ تلك الصبية الناهدة، وكنت الفتى اليافع، شاهدتها على تخت الغناء، وعلى رأسها العقال، ولكنها استبدلت بحذاء الرجال حذاء نسويًا أنيقًا، وقد جلس إلى جانبها والدها الشيخ إبراهيم، وشقيقها الشيخ خالد، وشخص ثالث من أولاد عمها، واجتزت مراحل النمو والتطور، وأنا أشاهد هذا الصوت الفتى بدوره ينمو ويتطور، وله فى كل مرحلة طابع ومذاق، الصوت المشبوب بالفتوة، الصوت المثير بفعل نضج الأنوثة فى صاحبته، الصوت الذى يجمع بين عربدة الفتنة ووقار العاطفة وصفاء الذهن، ثم الصوت الذى تتوازن فيه الموهبة الفطرية مع الصناعة المكتسبة. 

تعرّف طليمات على أم كلثوم بعد ذلك بسنوات، ويمكننا من عرضه عليها أن تقدم عملًا مسرحيًا معرفة سر قدرتها على السخرية المستمرة والمطلقة. 

يقول طليمات: قطعت مع أم كلثوم شوطًا طويلًا لأزيد من رغبتها فى اعتلاء المسرح، ولأحيل هذه الرغبة عملًا إيجابيًا، وكانت لنا جلسات، كنت خلالها أذلل كل عقبة تضعها أمامى، وقد لاحظت أنها حائرة ومترددة، ولا أعرف سببًا لهذا، فقد كان كل شىء مهيأ لاستقبالها.

لم تترك أم كلثوم زكى طليمات حائرًا كثيرًا، ففى ذات مرة- ولعلها أشفقت على ما يبذله من جهد فى سبيل إقناعها- صارحته قائلة: لا تغتر بمظهرى الباسم، وبتحاملى على العمل، إننى إنسانة مريضة، لقد عرفت الفاقة والحرمان منذ كنت طفلة وصبية، كنت أطوف مع والدى فى قرى الريف ونجوعه نقيم الأفراح ونحيى الموالد، من أجل عشاء دسم وبعض دريهمات، وكنت أشرب من ماء الترع والمجارى، فكان أن أصبت بمرض «الدوسنتاريا»، شفيت من هذا المرض فى مظاهره، ولكن أعقابه ما برحت تلاحقنى حتى الآن كما تسمع، والعمل بالمسرح، كما عاينته، يتطلب أن أكون على صحة تسعفنى على العمل طيلة شهر أو أكثر فى حفلات متتابعة، وهذا لا يسعه جهدى، فكيف يكون حالك، وحال الفرقة، إذا حجزنى المرض عن العمل أسبوعًا، كما يقع فى حياتى الجارية؟ إنه الخراب لك، وإنه العذاب لى. 

يقول زكى: أمسكت عن الكلام.. وسادنا صمت ثقيل، سرعان ما أحالته نغمًا شجيًا وهى تقول: لا تحزن.. لا تغضب. ولا أذكر بما أجبت، ولكنى أذكر جيدًا أننى تناولت يدها وطبعت عليها قبلة الإجلال والاحترام.

المعاناة إذن هى سر من أسرار أم كلثوم التى خلقت لها هذه الروح الساخرة، ولأن طليمات كان يتحدث عن أم كلثوم كأميرة للنكتة، فقد أثبت فى مقاله بعضًا من سخرياتها التى عرفها من علاقته بها.

يقول: مواقف أم كلثوم من كل ما هو ناشز من الأمور، ومتكلف فى الطباع، وما يجافى الطبيعة السمحة والاعتدال كثيرة، وترسم جانبًا من شخصيتها، ونكاتها فى محاربة هذا الانحراف، تتناقلها الألسن، لأنها تجرى بداهة، ومن غير عناء، وفى صدق، ولها أدب كامل من نحو وصرف وفصاحة وبيان، وهى تتناول العظيم والتافه من الناس، ولا تقف عند حد من الجرأة.

كانت أم كلثوم تستقبل مع المستقبلين، فى حفل، رئيس الحكومة المصرية سابقًا أحمد ماهر، وكان، رحمه الله، قصير القامة، الأمر الذى جعله يحس نقصًا فى نفسه، فإذا مشى كان يجنح فى مشيته إلى القفز ومد القامة من غير وعى، وقفت السيدة تلاحقه بنظراتها، ولاحظ أحمد ماهر هذا الأمر، فبعد أن صافحها همس فى أذنها: لماذا تنظرين لى... من فوق لتحت؟

وكان الجواب اللاذع: هو أنت لك فوق.. أو لك تحت. 

وتقلّد المحامى الشاب الأستاذ فريد زعلوك وزارة الشئون الاجتماعية فيما قبل الثورة، فطرأت عليه حالة جديدة من الرزانة والوقار جعلته، من غير أن يشعر، يتعالى بعض الشىء فى حركاته، وذات مرة أقبل يصافح أم كلثوم، وعلى وجهه ابتسامة تتعارك مع ما خلعه على وجهه من جد واستعظام.

وضعت السيدة يدها فى يده، وهى تهمس: تروح فين «يا زعلوك» بين الملوك. 

انفجر الوزير الشاب يضحك وقد عاودته طبيعته المرحلة الأصيلة، وأدرك أن بين اسمه «زعلوك» وكلمة «صعلوك» قرابة فى كل الحروف إلا فى الحرف الأول، وهنا عقدة المسألة، وهنا براعة النكتة.

ويعود طليمات فيقول: فى أم كلثوم يقوم تناقض عجيب، إن أميرة الطرب، وأميرة النكتة، السليمة طبعًا وذهنًا، صاحبة جسم غير سليم، يشكو دائمًا تمرد الأمعاء، وعصيان الكبد، ولها مع الأطباء صداقة لدودة، وهكذا تكذب المقولة المعروفة «العقل السليم فى الجسم السليم»، ولكنها لا تتبرّم من مرضها، بل هى تهدهده وتسميه «الرفيق الذى لا يخون». 

ويضيف: عرفت هذا بعد أن توثقت بيننا صلات فنية، فقد كلفتنى اللجنة الحكومية المشرفة على «الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى» بأن أكون فى تحقيق رغبتها فى أن تعتلى المسرح ممثلة ومطربة فى مسرحية غنائية، وكنت أزورها فى منزلها، وأتناول الطعام على مائدتها، وأعترف بأنها مائدة تحفل بالشهى من الطعام، ولكن لغيرها من المدعوين إليها متعة تناوله، قلت لها، وقد اقتصر غذاؤها على صحفة من الخضر المسلوقة بالماء: هذا فدية النبوغ يا ست.

فأجابتنى: روح.. الله يبتليك بالنبوغ. 

يمكننا الآن أن نبقى مع عالم أم كلثوم الساخر، وقد حرص كثيرون ممن كتبوا عنها بعد معرفتهم بها أن يوثّقوا سخرياتها، التى يمكن أن نعتبرها جزءًا مهمًا من تاريخ الفكاهة فى مصر. 

نفتح معًا كتاب فكرى صالح «أم كلثوم وأنا.. ٥ شارع أبوالفدا.. ذكريات وأحاديث نادرة مع أم كلثوم»، وهذا هو عنوان الكتاب كاملًا. 

ولفكرى صالح قصة خاصة مع أم كلثوم. 

فقد جرت وقائع كتابه ما بين عامى «١٩٦٣ و١٩٦٩»، وهى السنوات التى شهدت تألقًا واضحًا لأم كلثوم، لكن انقطعت علاقتهما بعد هجرته إلى كندا فى نهاية الستينيات. 

كان فكرى قد أسس جمعية باسم أم كلثوم فى كلية الهندسة جامعة عين شمس، وفى يوم من أيام العام ١٩٦٦ ذهب إلى منزلها فى الزمالك لكى يترك لها مع البواب مجموعة من صور رحلة وندوة لجمعية أم كلثوم، وصادف وصوله عودتها من ساعة المشى التى كانت معتادة عليها كل يوم على كورنيش النيل فى الزمالك. 

رحبت أم كلثوم بفكرى، وفتحت الظرف الذى كانت فيه الصور، نظرت إليها، واستمرت فى الضحك، وقالت له: حقول لك حاجة بس ما تقولهاش لزملائك طول ما أنا عايشة. 

حكت أم كلثوم لفكرى أنها كانت تجد امرأة مسكينة على الكورنيش تسترزق بعمل الشاى وبيعه للمشاه، فأحضرت الست كوبًا معها من منزلها، وكانت تجلس على حصيرة على الرصيف مع هذه المرأة الفقيرة وتشرب معها الشاى، دون أن تخبرها أنها أم كلثوم.

وفى يوم من الأيام كانت السيدة الفقيرة تستمع إلى أغنية جديدة لأم كلثوم وهى تجهز الشاى، وجلست الست تسمع نفسها، وتقول أحيانًا: الله.. دى حتة مظبوطة، وأحيانًا تنتقد نفسها وتقول: كان ممكن يكون أحسن، ثم انفعلت وصوتها ارتفع، فغضبت بائعة الشاى، وقالت لها: اسكتى بقى خلينا نسمع الست أم كلثوم، ده إنتى بعد شوية حتغنى ولا إيه، إزاى تقولى ممكن يكون أحسن، مفيش أحسن من أم كلثوم. 

بدأت العلاقة بين الشاب والست، التقى بها كثيرًا، وأجرى معها حوارات عديدة، وكان من بين ما رصده سخرياتها الكثيرة، والتى كان من بينها.. 

كانت أم كلثوم تجلس فى حجرة الاستراحة فى إحدى حفلاتها، ومعها بعض الأصدقاء، ودخل رجل موظف فى الحكومة معروف عنه أنه غير أمين فى معاملاته المادية وأنه يسرق أموال الناس، حاول أن يسلم عليها، فلم تمد يدها، قال إنه يريد أن يقبّل يدها بالرغم من أن فمه يوجعه، قالت له: ولما بقك بيوجعك أمال بتاكل فلوس الناس إزاى؟ 

لم يستطع الرد، فقالت له: إنت لازم تزلطهم. 

جلس بجوار السيدة أم كلثوم فى نادٍ رياضى أحد باشوات زمان، كان قصير القامة وصغير الحجم، وكان معروفًا بحب الاستطلاع بدرجة شديدة، فتحت أم كلثوم حقيبة يدها لتبحث عن شىء، فاقترب منها الباشا ونكس رأسه ليرى ماذا تبحث عنه فى حقيبتها، فقالت له السيدة أم كلثوم على مسمع من الحاضرين: حاسب يا باشا تقع فى الشنطة. 

التقت السيدة أم كلثوم فى إحدى المناسبات بصحفى غليظ، فاقترب منها وعرّفها على زوجته، وقال لها: إيه رأيك فى مراتى؟ فقالت له فورًا: إنت ذوقك حلو.. بس هى لأ. 

كان فيه أزمة زيت وسكر فى مصر فى الستينيات لفترة قصيرة، وزادت أسعارهما كثيرًا، وكانت السيدة أم كلثوم تجلس مع أصدقاء فى حجرة الاستراحة بين وصلتين فى حفلة، دخل رجل معروف عنه أنه يحب المبالغة، وأنه لا يهتم بالأناقة والنظافة فى ملابسه، قال للسيدة أم كلثوم: أنا اشتريت الكرافتة دى بعشرة جنيه عشان ألبسها فى حفلة حضرتك الليلة. 

وكانت العشرة جنيه مبلغًا محترمًا وقتها، فضحك الحاضرون وقال أحدهم: إن الكرافتة متسواش أكتر من خمسين قرش. 

فردت أم كلثوم وقالت: لا دى تساوى أكتر.. عليها زيت فوق العشرة جنيه. 

عند خروجها من إحدى حفلاتها صاح أحد الأشخاص الذين كانوا يحاولون النظر إليها عن قرب بلهجة أهل صعيد مصر وقال: إنتى جاموس الفن، فدهش الناظرون، ولكن أم كلثوم فهمت ما كان يعنى وردت بسرعة وبنفس اللهجة: وفين العجول اللى تفهم. 

توقفت عند هذه النكتة قليلًا، فقد تم استنساخها بعد ذلك نصًا، ولكن مع البابا شنودة، فمن بين ما يروى عنه أن أحد المسيحيين من الصعيد كان يحضر عظته الأسبوعية- التى كان يقدمها يوم الأربعاء فى الكاتدرائية الكبرى بالعباسية- ومن شدة إعجابه بما يقوله البابا صرخ من بين الحاضرين: إنت جاموس يا سيدنا، وفهم البابا ما يقصده، ورد عليه بنفس ما ردت أم كلثوم، وقال: المهم يا ابنى العجول اللى تفهم. 

كان البابا شنودة خفيف الظل أيضًا، ولا أدرى هل حدثت هذه الواقعة معه بالفعل، أم أنه استوحاها من أم كلثوم، وكان كثيرًا ما يردد النكات على جلسائه، خاصة أنه لا يوجد تسجيل أو فيديو لهذه الواقعة، رغم أن هناك تسجيلات لوقائع كثيرة لتنكيت البابا مع جمهوره.

ورغم احترام أم كلثوم الشديد لفريق عملها من شعراء وملحنين، إلا أنها لم تكن ترحمهم من لسانها، ويمكننا أن نرصد عددًا كبيرًا من نكاتها وسخرياتها منهم وعليهم.

يحكى أنيس منصور أنه قابل الست ودار بينهما الحوار التالى: 

أم كلثوم: كنت فين؟ 

أنيس: عند عبدالوهاب. 

أم كلثوم: وقبل كده؟ 

أنيس: عند عبدالحليم. 

أم كلثوم: وقبله؟ 

أنيس: عند كامل الشناوى

أم كلثوم: ياااه.. ده النهارده يوم الكذب العالمى. 

اشترى بليغ حمدى سيارة جديدة وكانت صغيرة بشكل ملحوظ، وفى أول زيارة لأم كلثوم رأته من شرفة الفيلا، وهو يقوم بركنها، وعندما قابلته هنأته على السيارة الجديدة، سألها عن رأيها فيها، فقالت له: حلوة وصغيرة.. مطلعتهاش معاك ليه؟. 

وأثناء بروفة أغنيتها «يا مسهرنى»، التى لحنها لها الشيخ سيد مكاوى، طلبت منه تعديل بعض الجمل الموسيقية، لكنه تجاهل ملاحظتها وطلبها، فأعادت عليه الطلب، وحتى يهرب من إلحاحها قال لها: لما أشوف، فردت عليه: يبقى كده عمرها ما هتتعدل يا شيخ سيد. 

ولأن الشيخ سيد مكاوى كان هو الآخر سريع البديهة، حاضر النكتة، فقد ردها إلى أم كلثوم بعد ذلك، عندما كان يهبط السلالم بصحبتها، وفجأة أحس بأن خطوتها اختلّت، فسألها: فيه إيه يا ست؟ فردت: النور قطع، فقال لها: طيب.. سيبينى أنا أسندك بقى. 

ورغم محبتها الشديدة لمحمد القصبجى إلا أنها لم ترحمه من سخرياتها. 

كانت أم كلثوم تستعد للذهاب إلى الإسكندرية لإحياء حفلة خيرية، وفى هذا اليوم مرض سواق سيارتها، فقررت الذهاب مع بعض أعضاء فرقتها بالقطار، وكان معهم الأستاذ محمد القصبجى، أخرج القصبجى من جيبه قلمًا أسود مخصوصًا لحواجب السيدات ودهن به شاربه، فضحكت أم كلثوم وقالت: شوفوا الراجل قدر يرجع شبابه بجرة قلم. 

وكانت تجلس فى مكتبها تمارس عملها كنقيبة للموسيقيين ومعها القصبجى، الذى كان مشهورًا بأنه يصبغ شعره دائمًا، دخل عليهما موظف من موظفى النقابة وقال لها: يا ست فيه ورق مش عارفين نبعته عشان مش لاقيين الختّامة. 

التفتت أم كلثوم للقصبجى وقالت له: وحياتك تقلعله الطربوش يختم بيه الورق.

ما زلنا مع القصبجى الذى كان معروفًا بحرصه الشديد. 

اشترى القصبجى رابطة عنق بأربعة جنيهات، وظل يرتديها لسنوات، وبعد ما عفا عليها الزمن، أراد أن يبيعها إلى أحد العازفين فى فرقة أم كلثوم. 

طلب القصبجى أربعة جنيهات وأصر العازف على دفع جنيهين فقط. 

حاول القصبجى أن يغريه بأن الكرافتة حرير أصلى ومن ماركة شهيرة، لكن العازف تمسك بالجنيهين نظرًا لأنها مستعملة. 

سمعت أم كلثوم هذه المساومات فتدخلت فى الحديث، وقالت للعازف: أعطه أربعة جنيهات. 

فأجاب العازف: أربعة كتير.. اتنين كفاية. 

فعلّقت الست: وفيها باتنين جنيه دهن، يبقى الحساب مزبوط. 

وحدث أن جرى خلاف بين أم كلثوم والكاتب الكبير محمد التابعى، انقطع بسببه الكلام بينهما، لكن تصادف أنه رآها وهى تهم بركوب سيارتها فى وسط البلد، فسألها: رايحة فين؟، وكأنه يريد أن يفتح معها حوارًا، قالت له: رايحة حدايق القبة، فقال لها: خدينى معاكى، فردت: بقول لك حدايق القبة مش حدايق نفسى.

قابلت أم كلثوم إسماعيل ياسين وكان معها أحمد رامى صدفة فى صيدلية فى محطة الرمل بالإسكندرية، وأول ما شافت إسماعيل خدت بالها إنه كان لسه بيوزن نفسه قالت له: ها يا سمعة وزنك طلع كام كيلو؟

قالها: طلع ٧٨ كيلو. 

قالت له: مش معقول.. أكيد وزنت نفسك من غير بؤقك. 

أصر إسماعيل ياسين على أن تزن أم كلثوم نفسها هى الأخرى، فرفضت بعد تحذيرات أحمد رامى لها، حيث أخبرها بأن إسماعيل سريع البديهة ونكتته حاضرة هو الآخر، ويمكن أن يبادلها قفشتها بقفشة أكثر سخرية. 

لاحظ إسماعيل ياسين تردد أم كلثوم، فقال لها: أكيد نسيتى صوتك فى مصر، وخايفة توزنى نفسك من غيره. 

ولم تكن أم كلثوم تتخلى عن السخرية حتى وهى مندمجة فى عملها رغم إرهاقها وجديتها البادية فى أدائها. 

كانت تغنى على مسرح سينما ريفولى وعندما وصلت فى غنائها إلى الثلث الأول من أغنية «أهل الهوى يا ليل»، اقتحم الصالة الصحفى صالح البهنساوى المحرر بالأهرام واتجه إلى مقعده فى الصفوف الأولى بسرعة، وكأنه أراد أن يعتذر عن تأخره لأم كلثوم التى تكره أن يحضر أحد حفلتها بعد بدء الغناء. 

لاحظت أم كلثوم ما حدث وأرادت أن تعاقب البهنساوى عقابًا فوريًا، ولأنه كان قصير القامة فانتهزت أم كلثوم الفرصة وراحت تسخر منه بطريقتها أثناء غنائها للمقطع الذى تغنى فيه: «يطولوك يا ليل ويقصروك يا ليل». 

فكانت كلما وصلت إلى عبارة «ويقصروك ياليل» ألقتها بطريقة خاصة وهى تنظر إلى البهنساوى الذى قبع فى مقعده وكاد يختفى من نظرات الحاضرين وسخرية أم كلثوم، وأطالت أم كلثوم فى عقابها للبهنساوى حتى صاح أحد المستمعين: حا يقصر أكتر من كده. 

خلال فترة الاستراحة فى إحدى الحفلات جلست أم كلثوم فى غرفتها بمسرح الأزبكية تستقبل بعضًا من أصدقائها المعجبين، وعاتبها أحدهم على أنها لم تسأل عنه أثناء مرضه، وكان بدينًا بشكل لافت فنظرت له ثومة وضحكت قائلة: اعذرنى هاسأل عن مين ولا مين. 

فى أحد أيام تصوير فيلم «عايدة» الذى قامت ببطولته كوكب الشرق، تأخر العمل حتى وقت متأخر من الليل وكانت أم كلثوم واقفة تحت وهج الأضواء تنتظر استئناف التصوير، حتى أصابها الضيق، فسألت مصور الفيلم محمد عبدالعظيم عن سبب التوقف فأجاب: أنا بعت أجيب البيبى من المخزن، والبيبى عبارة عن مصباح كهربائى صغير يستخدم فى تسليط الضوء على وجه الممثل. 

فردت أم كلثوم: بلاش وقوف بقى ده مجايب البيبى فيها تسعة أشهر. 

ولما جاء المصور بالبيبى ظل يحركه مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ويقدمه ويؤخره حتى يضبط الإضاءة على وجه أم كلثوم. 

فقالت له: وليه الغلب ده كله ياعبدالعظيم ما تجيب البيبى ده على حجرى أحسن. 

أقبل زميل لكوكب الشرق طويل القامة وفى يده صندوقان ملفوفان، وفتح أحدهما وفيه حذاء جديد، فقالت له أم كلثوم: مبروك على الأرض. 

وحينما فتح الصندوق الثانى، فإذا به طربوش جديد، فنظرت إليه أم كلثوم وهو يضع الطربوش على رأسه معجبًا به، فضحكت وقالت: مبروك عالسقف. 

قام أحد أعضاء فرقتها بشراء بدلة جديدة، فراح للست ياخد رأيها فى البدلة قالتله بعدم اهتمام: مش بطالة. 

الراجل ماقتنعش باللى قالته وحس إنها بتجامله وخلاص، فحب يجيب رجلها فى الكلام أكتر. 

قالها: طيب يا ست إنتى مش شايفة إنها واسعة شويتين؟ 

قالت له: معلش يا حبيبى خلاص روح ربنا يضيقها عليك.

زارت أم كلثوم أحد أعضاء فرقتها الموسيقية بعد أن اشتد به المرض، فقال لها: أنا تعبان أوى يا ست، فردت عليه قائلة: وهى تضع يدها فوق رأسه أنت بخير.. شد حيلك يا راجل.. بكرة تخف.. وتروح الجنة.

وكان لأحد الموسيقيين فى فرقتها عدد من الزوجات المطلقات، يدفع لهن نفقات شهرية، وذات يوم زارها وأخذ يشكو لها من فداحة تقدير مصلحة الضرائب لأرباحه، فقالت لهُ: ما تتظلم يا أخى، وتقول لهم إنك بتدفع للضراير.

لم تكن سخريات أم كلثوم بالكلام والنكت والقفشات فقط، ولكنها كانت بارعة فى نسج المقالب، ويبدو أن المقالب كانت واحدة من طرق الست لتسلية نفسها. 

فى كتابه «أم كلثوم وزكريا أحمد أمام القضاء» يروى كمال سعد هذه الحكاية: 

حدث ذات يوم بعد ظهور فيلم «سلامة» أن ذهب بيرم إلى نقابة الصحفيين فى المساء كعادته، وجلس مع أصدقائه الذين كان من بينهم رسام الكاريكاتير رخا، والصحفى محمد غريب، وفجأة لاحظوا انسحابه ليتحدث فى التليفون ويعود إليهم وهو فى حالة سعادة كما لو كان قد أدى عملًا جليلًا، ثم تغيرت الصورة عندما رأوه واجمًا ذات ليلة، وظل جالسًا فى صمت لا ينطق بحرف واحد، حتى لاحظ عليه رسام الكاريكاتير رخا هذا الوجوم، فسأله: مالك متضايق يا بيرم؟ 

وهنا انفجر بيرم فى عصبية قائلًا: يا سيدى مقالب الست مش عايزة تنتهى. 

قال له رخا: مقالب الست مين.. مراتك؟ 

وبدأ بيرم يروى قصة المقلب الساخن الذى شربه، فبينما كان يجلس معهم فى النقابة منذ أسبوعين، استدعاه عامل التليفون، ليرد على مكالمة لصوت نسائى رقيق، وجاء على الخط صوت سيدة تركية، لها نبرات حزينة لدرجة أنه أحس أثناء كلامها أن الدموع تكاد تذرف من عينيها. 

بدأت المكالمة ودار الحوار: 

المتصلة: مش حضرتكم بيرم التونسى الملحناتى بتاع أم كلثوم؟ 

بيرم: لا يا فندم أنا بيرم التونسى المؤلفاتى بتاع الست، أنا أكتب الأغانى والمطربون يغنون والملحنون يضعون الموسيقى، وعلى فكرة الملحناتى اسمه زكريا أحمد. 

المتصلة: آه فهمت.. طيب يا أستاذ أنا واقعة فى عرضك وطولك، عندى مشكلة فظيعة بس توعدنى إنك تساعدنى فيها وبدون ما تتضايق. 

بيرم: والله يا هانم لو كان فى الإمكان على العين والرأس، الناس كلها لبعضها ولازم يعاونوا بعض. 

المتصلة: أنا أم.. تعرف يعنى إيه أم؟ 

بيرم: طبعًا عارف.. وعارف كمان إن الجنة تحت أقدام الأمهات. 

المتصلة: أنا يا أستاذ بيرم أم فى محنة، وبنتى الوحيدة جميلة بشكل غير معقول، لكن نعمل إيه فى حكمة ربنا، عمرها ١٧ سنة ومريضة باضطراب عصبى، وأنا شايفة إنك ممكن تساعدنى فى علاجها. 

بيرم: إزاى؟ 

المتصلة: هى بتحب أغنية «حبة - حبة». 

بيرم: قصدك شوية شوية. 

المتصلة: أيوه تمام، أصلها بتحب الأغنية دى جدًا، قالت لى نفسها تسمعها بصوت الملحن بيرم التونسى، تصور فاكراك ملحن. 

بيرم: لا طبعًا.. لازم تقولى لها إنى مؤلف. 

المتصلة: أرجوك.. فى عرضك، أحسن تحصل لها صدمة، خليك فى نظرها ملحن الأغنية، وكل اللى عايزاه منك إنك تغنى لها الأغنية بصوتك مرة واحدة كل يوم فى التليفون يمكن يكون الشفا على إيديك. 

بيرم: أيوه.. بس يا فندم أنا مابغنيش.. وصوتى وحش جدًا، ويمكن لو غنيت أطفش بلد. 

المتصلة: والله يا أستاذ بيرم ده رجاء، رجاء من أم بتحاول إنقاذ بنتها الوحيدة، هو أنت ما عندكش أولاد. 

بيرم: عندى يا ست.. بس..

المتصلة: بس إيه ما دام فى إمكانك تساعد شابة مريضة وأم حزينة، إيه اللى يخليك تتأخر عن عمل إنسانى هافضل أتذكره لك مدى الحياة؟ 

بيرم: طيب يا ست أمرى لله، هاتى البنت على التليفون. 

أخذ بيرم يغنى للفتاة المريضة طوال أسبوعين بلا انقطاع، إلى أن اكتشف أنه ضحية أحد مقالب أم كلثوم التى قلدت صوت الأم التركية الحزينة، وأيضًا صوت ابنتها المجنونة.

وكان لأم كلثوم نوادرها مع الصحفيين الذين كانت تلتقى بهم كثيرًا. 

ذات مرة استقبلت فى فيلتها فى الزمالك أحد الصحفيين القريبين منها لإجراء حوار صحفى معها، وكان الصحفى قصير القامة إلى حد ما، صافحته أم كلثوم وهى واقفة وقالت له: أظن أنت الواحد يقعد لك أحسن.

وفى إحدى المرات قرأت مقالًا منشورًا عنها فى إحدى المجلات الأسبوعية، كتبه صاحبه بلغة صعبة للغاية. 

قالت لمحمود عوض إن المقال لم يعجبها. 

فسألها عن السبب.

فقالت له: لأن كل كلمة فيه لابسة عمة. 

ومن بين الوقائع المهمة فى تاريخ أم كلثوم الفكاهى الساخر ما نشرته مجلة «الموسيقى والمسرح» فى عدد ١ يوليو ١٩٤٨، تحت عنوان «حديث مع أم كلثوم .. إجابات أم سخريات .. أسئلة وإجابات لم تنشر». 

قدمت المجلة للحديث بقولها: من الطبيعى أن يتقدم صحفى إلى فنان بأسئلة، تضيف الإجابات عليها ثروة إلى الفن نفسه، كأن يتجه الصحفى فى أسئلته إلى تاريخ حياة الفنان وبيئته ومذهبه الغنائى، والأسلوب الذى تخيره لتحقيق طموحه وإبلاغ رسالته، وليس من حرج على السائل أن ينشد الأهداف العليا حين يتخذ من أسئلته سبيلًا إلى التوجيه ومعرفة بالاتجاه ليضع بتلك الأسئلة والإجابات عليها صلة بين القراء والفنانين، أما أن يتقدم السائل باستجواب خال من المعنى والهدف، فذلك ما تنبو عنه مهمة الصحافة، ويتسامى عنه دورها الخطير، ولا مأخذ على الفنان إذا لم يجب السائل بتاتًا، أو إذا أجابه بسخرية مريرة تعطيه درسًا بليغًا يرغمه على عدم نشر الأسئلة والإجابات، وهذا ما حدث فعلًا. 

ما جرى أن مندوب إحدى المجلات الأسبوعية كان قد تقدم إلى كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم بأسئلة نشرتها المجلة مع إجاباتها، لأن المندوب تهيب من نشرها. 

وتضيف المجلة: وفى التعليق على ما جرى مجال يتسع لضحكات القراء، خصوصًا إذا راعينا الدقة واللياقة اللتين انتهجتهما كوكب الشرق فى إجاباتها السديدة ، ونحن ننشر الأسئلة والإجابات عليها ونترك لجمهور القراء مهمة الشرح والتعليق: 

المحرر: أى الألحان تفضلين غناءها؟ 

أم كلثوم: اللحن الجميل. 

المحرر: ما هى أحرج المواقف التى صادفتك فى حياتك الفنية؟ 

أم كلثوم: الإجابة عن هذه الأسئلة. 

المحرر: ما هى أول أغنية سجليتها على الأسطوانات؟ وكيف كان شعورك عند سماعها؟ 

أم كلثوم: قصيدة «مالى فتنت»، وعندما سمعت صوتى انبسطت طبعًا. 

المحرر: بماذا تنصحين المطربات والمطربين الناشئين؟ 

أم كلثوم: أنصح لهم بأن يعلموا بأنهم ما زالوا ناشئين. 

المحرر: تعزف بعض المطربات على العود أثناء الغناء، والبعض لا يعزف، فما هو رأيك فى هذه المسألة؟ 

أم كلثوم: رأيى رأيك. 

المحرر: كيف يمكنك السيطرة على المستمعين أثناء الغناء فى الحفلات العامة؟ 

أم كلثوم: أغنى لهم. 

المحرر: لماذا لا تغنين ألحانًا خفيفة من نوع التانجو والفوكس مثلًا؟ 

أم كلثوم: لأن المطربين الأجانب لا يغنون القصائد. 

المحرر: من هو أقدم ملحنيك الثلاثة؟ وهل ليس هناك غيرهم الجدير بأن تغنى له؟ 

أم كلثوم: كل منهم ممتاز فى نوعه، وأرحب بكل لحن جديد. 

المحرر: لماذا تفضلين الغناء أمام الميكروفون فى حفلات عامة؟ 

أم كلثوم: لأنى أغنى فى الحفلات العامة أمام الميكروفون. 

المحرر: اشتهر عنك أنك تحبين المادة.. فهل هذا صحيح؟ 

أم كلثوم: الله يحنن عليك. 

فى بدايات العام ١٩٦١ كان الكاتب الكبير طاهر الطناحى يكتب سلسلة من الحلقات أطلق عليها «حديقة الأدباء» وهى المقالات التى جمعها بعد ذلك فى كتاب أطلق عليه نفس الاسم. 

فى مقدمة كتابه يقول الطناحى: وضعت هذا الكتاب وضعًا جديدًا عن حياة طائفة من أدباء العربية وأهل الفن، لم أهدف فيهم إلى ترجمة حياتهم ترجمة تاريخية على نحو ما هو متبع فى كتب التراجم، ولم أرسم فيه هؤلاء الأدباء والفنانين رسمًا كاريكاتوريًا على نحو ما يفهم رجال التصوير فى فن الكاريكاتور الذى يتوخى المبالغة فى التعبير عن العيوب الجسيمة، أو عن الأزياء النابية، والحركة المصطنعة، بطريقة هزلية تلفت النظر، وتثير السخرية. 

كان هدف الطناحى هو تحليل دقيق لحياة هؤلاء الأدباء بطريقة فنية جديدة، تمتزج برموز من أنواع الطيور والحيوانات البرية والبحرية، توافق كل منهم فى الكثير من الخصال والميول والعادات. 

بهذا المنهج شبه طاهر الطناحى أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد بالنسر، والعقاد بالعقاب، وميخائيل نعيمة بالطاووس، وأم كلثوم بالبلبل القيثارى الذى وهبته الطبيعة جمالًا فى الصوت والشكل، وجعلت له ذيلًا جميلًا على شكل القيثارة، وطه حسين بالكروان، وتوفيق الحكيم بالعصفور وأحمد أمين بالطائر المسمى مالك الحزين، والدكتور محمد عوض محمد بالتمساح. 

وعندما بدأ الطناحى نشر مقالاته وكما يقول: بعض الأدباء قبل كتابة مقاله اختار لنفسه الطائر أو الحيوان الذى رمزت به إليه، كالأستاذ فكرى أباظة الذى اختار «البولدج»، وعبدالرحمن صدقى الذى اختار «البطريق»، وسليمان نجيب اختار «الببغاء»، وإبراهيم ناجى الذى اختار «السنجاب». 

غضب بعض من تناولهم طاهر الطناحى، لكن المفاجأة كانت فى أم كلثوم. 

نشر الطناحى المقال الخاص بها بعنوان «قيثارة الله.. أم كلثوم» فى عدد مارس من العام ١٩٦١ من مجلة الهلال، وبدأه بقوله: لو أن «أم كلثوم» خلقت خلقًا آخر، لما كانت إلا بلبلًا يصدح فوق الأغصان، بأعذب الألحان، أو زهرة مبتسمة بين الرياض والأشجار، أو نغمًا حلوًا يهزج به النسيم فوق الجداول والأنهار، ولقد كانت فى نشأتها الأولى كثيرة النشاط، كثيرة الحركة كالبلبل القيثارى ينتقل من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى أخرى فى مرح وبهجة، وقد مالت إلى اللطف والفكاهة والظرف منذ الصبا فى وقار واحتشام، وفى أدب وانسجام، وأحبت ساجعات الطيور، وعاشت معها بين الدساكر والزهور، وهى بالطير أشبه فى خفته وحلاوته، وفى رقته وبراءته، وفى عشقه للألوان الزهراء، وهيامه بالجو الأزرق، وهى تغنى للغناء، كما تشاء وحين تشاء، لا كما يشاء الآخرون، أو كما يحبون ويفرضون، فليس لأحد أن يفرض على «أم كلثوم» لحنًا من الألحان مهما كان الزمان والمكان، وإذا غنت شعرت بجو جميل من النغم يحيط بها من كل جانب، لا تدرى من أين يفيض حين تغنى أى أغنية من الأغنيات، بل يوحى إلى صوتها نغم عجيب ينسجم مع التلحين الرتيب، ويرقى به رقيًا إلى طبقات الفضاء فيسرى فى النفوس والأرواح. 

أما المفاجأة فهى أن أم كلثوم أرسلت إلى طاهر الطناحى رسالة نشرتها الهلال فى عدد مايو ١٩٦١ كان عنوانها «من السيدة أم كلثوم إلى كاتب حديقة الأدباء». 

قدمت الهلال لرسالة أم كلثوم بقولها: نشرنا فى هلال مارس الماضى تحت باب «حديقة الأدباء» مقالًا عن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم بطريقة تحليلية جديدة بعنوان: «قيثارة الله» وقد ورد إلينا خطاب رقيق من سيدة الفن وفخر الغناء العربى. 

كان نص رسالة أم كلثوم كالتالى: «الأستاذ الشاعر الفنان.. تلقيت العدد الأخير من الهلال يحمل إلى ما أرسلته قيثارة الأدب إلى قيثارة الفن فى مقالك الذى جمع بين الشعر والنثر فى انسجام بديع، ونغم مطرب، والذى يشف عن دوافع نبيلة، وعن تقدير كريم، أعتقد أنه تحية للغناء العربى وتقدير للفن، بأكثر مما هو موجه إلى شخصى، وإنى بدورى أوجه، باسم هذا الفن، صادق الشكر، وعظيم الامتنان بقدر ما أرجوه لأدبك من ازدهار، ولشخصك من سعادة وتوفيق». 

والتوقيع.. أم كلثوم إبراهيم. 

وعلق طاهر الطناحى على رسالة أم كلثوم بقوله: وإنى أنشر هذا الكتاب كنموذج جميل لأسلوب كوكب الشرق، شاكرًا لها هذه العبارة السلسة الشفافة التى تدل على عاطفة سامية، وذوق سليم، وشعور أدبى نبيل، ولا عجب أن تكون «قيثارة الله» غنية بالأنغام، وقيثارة فى حديثها وكتابتها، كما هى قيثارة فى غنائها، وفى كل ما وهبها الله من خلق رفيع، ولحن فى الحياة بديع.

وفى مقدمة الكتاب الذى صدر بعد نشر الحلقات فى مجلة «الهلال» بشهور، عاد الطناحى للتعليق على رسالة أم كلثوم بقوله: إننى لم أسجل هذه الرسالة هنا إلا لأطمئن القارئ وأطمئن نفسى بأننى لم أسئ فى هذا الكتاب إلى أحد من الأدباء والفنانين الذين حللت شخصياتهم بهذا الأسلوب، وكشفت عن حياتهم النفسية والأدبية والاجتماعية، وقدمت عنهم للقراء صورًا بارزة حية. 

وفى العام ١٩٦٣ صدر فى القاهرة كتاب «صور حية.. مقابلات ضاحكة مع شخصيات عربية» للكاتبة جاذبية صدقى عن سلسلة الكتاب الذهبى التى كانت تصدرها مؤسسة روزاليوسف. 

ولمن لا يعرف جاذبية صدقى فهى كاتبة صحفية مصرية عاشت ما بين عامى ١٩٢٠ و٢٠٠١، ولها كذلك إنتاج أدبى عبارة عن مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية القصيرة والدراسات المسرحية وكتب الأطفال، كما أسهمت بجهد ملحوظ فى الترجمة من خلال عملها الصحفى الذى ساعده فى تكوين صداقات مع عدد كبير من الكتاب والمفكرين والفنانين، وكان من بينهم السيدة أم كلثوم. 

تقدم جاذبية كتابها بقولها: هى مقابلات مرحة شائقة تمت مع مجموعة من شخصيات إنسانية، تحيا حياتها بيننا ونعرفها نحن ونحبها، ونرقبها فى ود وفضول، ونلتقط أخبارها، مجموعة متناقضة فى نظرتها إلى الحياة، وفى أسلوب ممارستها لها، ثم فى منطقها وفى عمقها وفى نفسيتها. 

وتقول جاذبية: على مدى سنين طويلة كان لقائى بهم، لقاء هو دراسة استمتعت بها أبعد استمتاع، ولكن اليوم وأنا أضمهم فى صحبة واحدة، أضم آراءهم وآمالهم وآلامهم، طمعت عيناى، فمنهم من هاجر دنيانا إلى دار خير وأبقى، ومنهم من مد الله فى عمره، من تسلق مصعد سلم العلا وراح يتلألأ كنجم براق فى سمائنا، يسعدنا بعلمه أو بفنه أو بفلسفته. 

من هؤلاء الذين أجرت معهم جاذبية صدقى مقابلات ضاحكة كانت السيدة أم كلثوم. 

المقال الذى كتبته جاذبية عن السيدة أم كلثوم أعتبره وثيقة من الوثائق الصحفية المهمة فى تاريخ أم كلثوم، فعمره يزيد على الستين عامًا، نادر هو لا تستطيع أن تحصل عليه بسهولة، وهو ما جعلنى حريصًا على الإشارة إليه، لكننى هنا توقفت فقط على طريقة تعامل أم كلثوم المنطلقة مع جاذبية والتى تؤكد كم كانت سيدة مرحة ومشاغبة. 

بدأت جاذبية مقالها بقصة تعرفها على أم كلثوم. 

تقول: التقيت بها أول مرة فى حفل عيد زواج طبيب مشهور، حفل ضاحك مرح، فيه ما لا يقل عن مائة نفس - بين رجل وزوجته، ويومها دار رأسى ودار بصرى الكليل وزاغ، وأنا أخطو وسط الجمع الصاخب حتى وقع على «ثومة»، فلم أتردد، توجهت من فورى إلى حيث جلست وسط لمة من معجبات ومعجبين احتلوا الكراسى جميعها حولها، بل افترشوا الأرض عند قدميها ورفعوا وجوههم إليها فى تعبد صامت، فوقفت كالبلهاء على بعد أحملق فيها، أدرسها فى الحقيقة، فلمحتنى اللماحة، وصاحت بى: تعالى معنا.. تعالى. 

شكرتها جاذبية على البعد أيضًا.. وهى ترميها بنظرة تقول بها: كلك نظر.. أين أجلس؟

أشارت أم كلثوم إلى ملحن معروف كان يجلس بجوارها، فقام من مكانه، لتقترب جاذبية من الست وتجلس إلى جوارها. 

تقول جاذبية: بادرتنى ثومة: أنت يا بت - كتابتك دى إيه؟، فرفعت حاجبى بسذاجة وبراءة: مالها؟، فشهقت: شوفوا يا إخواتى.. البت!، فألححت بالسذاجة عينها: مالها كتابتى، والنبى؟، قالت: معفرتة، فسألتها: أنا، فقالت ساخرة: أمال أنا. 

سألتها جاذبية: معفرتة إزاى يا ست؟ 

فلوحت أم كلثوم فى وجهها ضاحكة: ما أعرفش، أهو معفرتة والسلام.. صحيح ما فيش «كلمة خارجة»، لكن عفاريت الدنيا فيها.

وكما عاشت أم كلثوم طوال حياتها تسخر وتطلق النكت، فإنها لم تعدم بعد موتها مَن يطلق عليها النكات، وكان من بين ما قرأته ما كتبه أحدهم: 

أم كلثوم عندها أغنية طولها ساعة و١٩ دقيقة اسمها «أنا مش فاضية أعاتبك» .. أمال لو كانت فاضية كانت عملت فيه وفينا إيه؟ 

بالطبع لا توجد أغنية لأم كلثوم اسمها «أنا مش فاضية أعاتبك»، ولكنه مقطع من أغنيتها «حاسيبك للزمن» التى كتبها لها عبدالوهاب محمد ولحنها رياض السنباطى، وغنتها أول مرة فى العام ١٩٦٣ على مسرح سينما قصر النيل.. لكن القافية حبكت كما يقولون.. وكما كانت تقول الست.