الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المعنى الحقيقى لـ«حرف».. محاولة لإنقاذ الصحافة من أباطرة التنظير

حرف

- ليست ملحقًا ثقافيًا لجريدة «الدستور» هى جريدة مستقلة تمامًا

منذ سنوات وأنا أشارك فى جلسات وندوات ومؤتمرات لمناقشة مستقبل الصحافة الورقية، شارك فيها أساتذة وزملاء وأبناء مهنة مهمومون بها بشكل حقيقى. 

ومنذ سنوات، أيضًا، وأنا أستمع لكلام معاد ومكرر لا يصل بنا إلى تصور عملى لإنقاذ وسيلة ظلت لعشرات السنين تحمل ما ننتجه للناس وتقدمه لهم. 

كل الكلام كان يعكس نيات حسنة، لكن لا يمكن ترجمته إلى واقع فعلى، لأنه كان يخاصم الواقع، ولا يلتفت لما يحدث على الأرض من تغيرات وتحولات وتطور هائل فى الوسائط التى دخلت المنافسة بقوة مع الورق، وفرضت نفسها على عادات القراءة. 

الصفحة الاولى من العدد ال 100 لحرف

طال النقاش وأعتقد أنه سيطول أكثر ولعقود قادمة، سنظل ندور فى دوائر مفرغة، ولن نضع أيدينا على حل، ولن يكون هناك مخرج، لكننا نتمسك بما نقوله، وننفق مزيدًا من الوقت فى لغو فارغ، لا يحل المشكلة ولكن يزيدها تعقيدًا. 

الواقع الحقيقى يقول إن الصحافة فى مصر لا تعانى من مشكلة. 

الصحف الورقية هى التى تعانى ليس من مشكلة واحدة ولكن من مشاكل عديدة. 

الأزمة ليست فى مهنة إذن.. ولكنها فى وسيط واحد من وسائطها المتعددة. 

وعليه فإذا لم تكن لدينا حلول واقعية وعملية لإنقاذ هذا الوسيط، فعلينا أن نلتفت إلى الوسائط الأخرى لنطورها ونستفيد منها الاستفادة القصوى فى تطوير وتحديث وتنمية الصحافة نفسها.. وساعتها لن يكون أمامنا إلا أن ندفن الصحف الورقية فى مقبرة التاريخ، ونشيّعها إلى مثواها الأخير بكل أسى. 

سيحدث ذلك لأننا عندما تركنا أنفسنا أسرى لمشكلات الصحف الورقية انعكس نقاشنا على الصحافة كلها، وأصبحت بالنسبة لنا فى ورطة، وأوهمنا أنفسنا بأننا لا بد أن نبحث لها عن حل، رغم أنها فعليًا لا تعانى من مشكلة، فأزمات الصحف الورقية أصبحت أزمات الصحافة نفسها، وهو الباطل بعينه. 

الواقع يقول مرة أخرى إن عطب الوسيط لا يعنى أبدًا عطب المحتوى. 

ولنضرب مثلًا واحدًا حتى نرى الصورة بشكل أوضح. 

الغناء هو فى حد ذاته محتوى فنى، كان يصل إلى الناس مباشرة عبر الحفلات التى يقف فيها المغنى أمام جمهوره مباشرة، وبعد ذلك تم تسجيل هذه الأغانى على أسطوانات وأصبح الجمهور يستمع إليها فى البيوت، وجاء زمن على الأسطوانات فقدت فيه سطوتها وسيطرتها، وأصبح شريط الكاسيت، الذى كنا نسميه «ألبوم»، هو الأكثر انتشارًا وحضورًا، ثم تراجع شريط الكاسيت لحساب السيديهات التى يتم تحميل الأغانى عليها، وعندما بدأ اليوتيوب يطل علينا أصبح المطربون ينتجون أغنيات ويحملونها عليه، ووصلنا إلى التطبيقات التى أصبحت تقدم للناس الأغانى. 

تغيرت الوسائط التى تحمل الأغانى وتعددت عبر العقود الماضية، لكن ظل الغناء كما هو لم يختفِ ولم يندثر، ولم يقل أحد إن وجوده نفسه يواجه أزمة، قد تكون هناك مراحل مرّ فيها الغناء بأزمة بسبب ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، لكنه لم يختفِ أبدًا. 

يمكننا أن نقيس ما حدث مع الغناء على ما يحدث مع الصحافة، فقد بدأت ورقية، ووصل توزيع بعض الصحف إلى ملايين النسخ يوميًا، وكان الورق هو الوسيط الوحيد الذى يصل من خلاله المحتوى الصحفى إلى الجماهير، لكن مع التطور التكنولوجى الهائل الذى شهده العالم تراجع الورق، ووصلنا إلى مرحلة أن كل ما يتم توزيعه من الصحف المصرية الورقية مجتمعة الآن لا يتجاوز ١٠٠ ألف نسخة يوميًا على أكثر التقديرات تفاؤلًا. 

ما جرى للصحف الورقية تقف وراءه أسباب عديدة تتشابك فيها السياسة بالاقتصاد، وتتجاور فيه الثقافة مع التحولات الاجتماعية التى اعتصرت المجتمع كانعكاس للأحداث الكبرى التى مرّ بها المجتمع المصرى خلال العقود الأخيرة. 

على مستوى الأحداث الكبرى لا بد أن نتوقف عند ثورة ٢٥ يناير. 

الارتباك الكبير الذى شهدته مصر خلال مقدمات أحداث الثورة وما جرى فيها ثم ما أعقبها من تبعات كان له بالغ الأثر على الصحف الورقية، فقد ظلت الصحف الحكومية تناصر نظام مبارك وتؤيده وتدافع عنه حتى سقط مبارك، فغيرت خطابها ولهجتها وعناوينها، وهو ما أفقد الناس الثقة فيها بشكل كامل، وهو ما حدث أيضًا مع الصحف التى كانت تعارض مبارك وتريد إزاحة نظامه، فقد بالغت فيما نشرته، وهو ما أفقد مناصرى مبارك أى ثقة فيها، وكانت النتيجة أن الكل خرج خاسرًا من هذه المعركة. 

ظلت الصحف الورقية تترنح حتى جاءت كارثة كورونا، وقد لا يعتقد كثيرون أن الوباء كان وبالًا على الصحف الورقية أيضًا، لكن من يعملون فى مطابخ هذه الصحف وفى غرف صناعتها يعرفون جيدًا أن الوباء كاد أن يُخرج الصحف الورقية من المعادلة. 

فى القاهرة، حيث كانت الصحف تتمسك بالتوزيع الليلى، حدث أن انتهى هذا التوزيع بسبب الحظر التى تم فرضه لمواجهة الوباء، وهو ما أدى إلى تراجع التوزيع بدرجة كبيرة، وعندما تم رفع الحظر كان هناك كثيرون قد تخلوا عن عادة شراء الصحف مساء. 

هذا غير الشائعة التى انتشرت بقوة، وهى أن الوباء يمكن أن ينتقل عبر الورق، فامتنع الناس عن شراء الصحف خوفًا من الإصابة، ورغم نفى الشائعة والتأكيد على أن أوراق الصحف لا يمكن أن تكون سببًا للإصابة، إلا أن المحظور كان قد وقع، وامتنع كثيرون عن شراء الصحف. 

أدى الوباء إلى كارثة حقيقية، فتحت ضغط هذه الحرب اضطرت الصحف إلى تخفيضين. 

الأول كان تخفيض عدد صفحاتها، وهو ما ترتب عليه تراجع الخدمة الصحفية التى تقدمها الصحف. 

والثانى كان تخفيض عدد النسخ المطبوعة، فلم تعد الصحف قادرة على الوصول إلى القراء فى كل مكان، ولدينا صحف كثيرة الآن لا تستطيع بحجم المطبوع منها أن تغطى كل أرجاء الجمهورية، وتكتفى بالتوزيع فى عدد قليل من المحافظات، وهو ما يعنى أن هناك محافظات لا يعرف ساكنوها أن هناك صحفًا تصدر من الأساس. 

الصفحة الثانية من العدد ال 100 لحرف

كان يكفى هذا لضرب الصحف الورقية فى مقتل. 

لكن كان هناك ما هو أكثر، فخلال السنوات الماضية ارتفعت تكاليف إنتاج الصحف الورقية بصورة مرعبة، زاد سعر الورق، وزادت أسعار الأحبار، وأصبحت كل العناصر التى تدخل فى الصناعة مكلفة إلى الدرجة القصوى، وبدلًا من أن تضطر الصحف إلى إغلاق أبوابها، لجأت إلى حلول أضرّت بها، ومرة ثانية انخفض عدد الصفحات، بما جاء أكثر على الخدمة التى تقدمها الصحف، وزاد سعرها، وهو ما جعل شرائح من القراء تخرج من سوق قراءة الصحف الورقية إلى الأبد بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التى يعيشها الناس. 

وكما خرجت شرائح عديدة من سوق قراءة الصحف الورقية، خرج عدد كبير من الموزعين من السوق. 

منذ سنوات كنت تجد فى كل شارع فرشة لتوزيع الصحف، الآن لا يمكن أن تجد موزعى الصحف بسهولة، اختفى الموزعون الكبار، للدرجة التى يمكننا أن نقول معها إن جهاز توزيع الصحف فى مصر انهار تمامًا، وعليه فالنافذة التى يتم عرض المنتج الورقى للصحف من خلالها لم تعد موجودة من الأساس. 

السلعة ليست متاحة، فكيف يمكن أن نسأل عن إقبال الناس عليها أو إحجامهم عنها. 

هذا وضع عبثى فى حد ذاته. 

كل هذه العوامل لا يلتفت إليها أحد، يتمسكون بالحديث عن عامل واحد، وهو أن المحتوى الذى تقدمه الصحف الورقية أصبح جافًا متكلسًا لا روح فيه ولا حياة، الصحف كلها أصبحت تشبه بعضها، لا تقدم ما يُقبل عليه الجمهور ويفضله، وكان طبيعيًا أن ينصرف عنها، إذ كيف يشترى صحفًا لا يجد فيها نفسه؟ 

لا يمكن أن أنكر أن هذا الرأى له وجاهته، ولا يجب أن نغفله. 

لكن من يقولون ذلك لا يلتفتون إلى أن رداءة المحتوى الذى تقدمه الصحف الورقية يعود فى النهاية إلى مجموع العوامل التى أثرت على الوسيط نفسه، فكان طبيعيًا أن يتدنى المحتوى، لأن كل العناصر التى تدعم جودته لم تعد موجودة. 

أضف إلى ذلك أن الأجيال الجديدة التى دخلت عالم الصحافة خلال السنوات الماضية ليست على القدر المطلوب من الكفاءة لإنتاج محتوى صحفى قوى، وهذه قضية أخرى لا يجب أن نتعالى عليها، فجودة الصحفى المصرى الآن تراجعت بدرجة كبيرة. 

هل أخذتكم بعيدًا عن «حرف» وتجربتها ومعناها؟ 

هل ابتعدنا عن حديث مفروض أن يكون احتفاء بجريدة ثقافية نحتفل بصدور عددها الـ١٠٠ هنا؟ 

الحقيقة أن احتفاءنا بمئوية «حرف» الأولى لا ينفصل أبدًا عن كل ما قلته عن الصحف الورقية وما تعانيه. 

كانت فكرة «حرف» سابقة لصدورها فى يناير من العام ٢٠٢٤، فكرت فيها للمرة الأولى أثناء الحظر الذى تم فرضه علينا بسبب كورونا، وبدأت جلسات عمل مع الزملاء فى «الدستور»، لكننا لم نتمكن من إصدارها إلا بعد ما يزيد على عامين، فقد كان ما أفكر فيه مخاطرة وخارجًا عن المألوف. 

الصفحة الثالثة من العدد ال 100 لحرف

جريدة تصدر إلكترونيًا فقط، لا نقوم بطباعتها، يتم نشرها على موقعنا الإلكترونى، وتكون متاحة للجميع مجانًا، بضغطة واحدة يصبح العدد كاملًا ملكًا لمن يريد أن يقرأه، وقررت أن أقوم بإرسالها إلى أكبر عدد من خلال جروبات الواتس بشكل مباشر، وهو ما أفعله صباح كل أربعاء الساعة الحادية عشرة تمامًا، وكأننى أمام إصدار له موعد محدد لا نخلفه، وقام الزملاء بتأسيس جروبات أخرى على الواتس ينشرون العدد عليها. 

الآن أستطيع أن أقول إننا أحدثنا انتشارًا وتأثيرًا مُرضيًا، صحيح أنه لا يحقق طموحنا، إلا أنه يؤكد أن التجربة نجحت، وهو ما يشهد له من يعارضوننى بالقدر نفسه الذى يشهد به من يؤيدون الخط الصحفى والسياسى الذى اخترته. 

بعد الأعداد الأولى من «حرف» كانت المفاجأة أن هناك من يطالبنى بأن تصدر مطبوعة، وكنت أتعجب من ذلك، فالجميع يتحدثون عن انصراف القراء عن الصحف المطبوعة، وإذا بى أمام من يطالبوننى بطباعة «حرف». 

كنت أعتبر هذه شهادة ثقة فى الجريدة، وأكدت لى أن الصحف إذا قدمت خدمة صحفية محترمة يمكن أن يُقبل عليها القراء، لكنى أعرف أن هذا ليس حقيقيًا، فلا توجد لدينا إمكانات مادية لطباعة «حرف»، ولو حدث وتوافرت الإمكانات فإننى لا أضمن أن نحقق التوزيع المنتظر، فلا يمكن أن أتجاهل عادات القراءة الجديدة، فالأجيال الفاعلة فى سوق القراءة الآن تميل أكثر إلى القراءة الإلكترونية. 

وإذا احتج أحد علىّ بأن سوق الكتاب تشهد رواجًا كبيرًا، ومعرض الكتاب يشهد على ذلك، سأقول إن هذا ليس حقيقيًا، وبحسبة بسيطة يمكن أن أفنّد ذلك. 

خلال العام الماضى صدر فى مصر، طبقًا لإحصائيات رسمية، ما يقرب من ٢٣ ألف كتاب، ولو افترضنا أن متوسط النسخ التى طُبعت من كل كتاب ١٠ آلاف نسخة، وهذا من رابع المستحيلات، فبعض الكتب لا يُطبع منها أكثر من ٣٠٠ نسخة، لكنى سأفترض معكم أن المتوسط ١٠ آلاف، فمعنى ذلك أن لدينا ٢ مليون و٣٠٠ ألف نسخة، وعلى فرض أنها تباع جميعها، وهو ما لا يحدث أيضًا، فإن إجمالى ما يباع من الكتب لا يمثل نسبة ٢ بالمائة من عدد السكان، وعليه فإن الحديث عن قراءة الكتب الورقية ليس إلا أسطورة، ويمكننا أن نسأل الناشرين فى ذلك. 

«حرف» دون تنظير، وتجربتها دون سفسطة، يمكن أن تكون وسيلة لإنقاذ الصحافة المصرية. 

هى جريدة ثقافية، وهنا أحب أن أصحح ما يردده البعض، فهى ليست ملحقًا ثقافيًا لجريدة «الدستور»، هى جريدة مستقلة تمامًا، لكن هذا لا يمنع أن تصدر صحف سياسية واقتصادية وفنية ورياضية بالصيغة الإلكترونية، ويمكن أن نبحث معًا عن الطريقة التى تسود بها هذه الصحف السوق، ويمكن أن نطور طرق تمويلها ومساهمة القراء فى ذلك. 

لقد كانت «حرف» بالنسبة لى محاولة للإفلات من كثير مما تعانيه الصحافة فى مصر، ويمكننى أن أعتبرها الآن بيت خبرة نقدمها لكل من يريد أن يسير على هذا الطريق، فلدينا كلام كثير نقوله عما قدمته هذه التجربة من تطوير فى الأشكال الصحفية والتوضيب وأسر القراء وجذبهم دون خداع. 

وإذا كان لى أن أقول شيئًا بين يدى العدد المائة من «حرف»، فإننى أبشّر من يلتفون حولها الآن بأننا سنخطو خطوات مهمة فى سبيل تحويل «حرف» من مجرد صحيفة إلكترونية تصدر أسبوعيًا إلى مؤسسة صحفية ثقافية متكاملة.. لن أفصح عما سنقوم به إلا فى وقته، لكننى أَعِد كل من وثقوا فى «حرف» بأننا سنكون على قدر هذه الثقة ولن نخذلهم أبدًا.