لحم قاتم.. ديفيد سالاى يحصد «البوكر» بـ«رواية لا تشبه أى كتابة سابقة»
- انتقادات واسعة لـ«تقليدية» المسابقة فى زمن «البوك توكرز»
- إطلاق مسابقة «مواز ية» لتقييم الكتب من قبل مجتمع القراء عبر الإنترنت
- «Flesh/ لحم» هى الرواية السادسة للكاتب المجرى البريطانى ديفيد سالاى
أعلنت لجنة جائزة «البوكر» العالمية، فى حفل أقيم بالعاصمة البريطانية لندن، يوم الإثنين الموافق 10 نوفمبر الجارى، عن فوز الكاتب المجرى البريطانى ديفيد سالاى بالجائزة المرموقة لعام 2025، عن روايته «Flesh/ لحم».
تُعد جائزة «البوكر» واحدة من أهم الجوائز الأدبية فى العالم، وتُمنح سنويًا لأفضل رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية أو مُترجَمة إليها، تقديرًا للتميز الأدبى والإبداع السردى. ولم يكن فوز «سالاى» بها هذا العام سهلًا، بل جاء بعد منافسة مع عدة روايات مميزة.
وتضمنت هذه الروايات: «The Land in Winter/ الأرض فى الشتاء» للكاتب أندرو ميلر، و«The Loneliness of Sonia and Sunny/ وحدة سونيا وسانى» للكاتبة كيران ديزى، و«Flashlight/ مصباح يدوى» للكاتبة سوزان تشوى، و«Audition/ تجربة الأداء» للكاتبة كاتى كيتامورا، و«The Rest of Our Lives/ بقية حياتنا» لـ«بن ماركوفيتس».

لحم
«Flesh/ لحم» هى الرواية السادسة للكاتب المجرى البريطانى ديفيد سالاى، وتتناول حياة رجل يُدعى «إشتفان» من بداية شبابه حتى منتصف عمره. وحسب رئيس لجنة تحكيم «البوكر»، رودى دويل، الفائز بالجائزة نفسها عام ١٩٩٣، فإن اللجنة «لم تقرأ شيئًا يشبهها من قبل»، مضيفًا: «إنها رواية قاتمة فى كثير من الجوانب، لكنها تمنح القارئ متعة حقيقية أثناء القراءة».
تبدأ الرواية بحادثة صادمة تقع بينما يعيش المراهق «إشتفان» مع والدته فى مجمع سكنى بالمجر، ثم تتابع مسيرته أثناء خدمته فى الجيش، قبل أن ينتقل إلى لندن حيث يعمل لدى فاحشى الثراء، وذلك بأسلوب كتابة مختزل مكثّف، مع تناول موضوعات مثل الذكورة والطبقة الاجتماعية والهجرة والصدمة والجنس والسلطة.
وأُعلن فوز «سالاى» بالجائزة البالغ قيمتها ٥٠ ألف جنيه إسترلينى، خلال حفل أقيم فى «أولد بيلينجس جيت» بالعاصمة لندن، مساء الإثنين ١٠ نوفمبر الجارى. وكان «سالاى» قد رُشح للفوز بالجائزة من قبل، وتحديدًا عام ٢٠١٦، عن روايته «All That Man Is/ كل ما هو إنسان».

وضمت لجنة التحكيم هذا العام الممثلة سارة جيسيكا باركر، والكُتّاب: كريس باور وأيوبامى أديبايو وكيلى ريد. وقال رئيس لجنة تحكيم «البوكر» إن قرار منح الجائزة لـ«سالاى» كان بإجماع تام، مضيفًا: «الرواية تتناول حياة رجل من الطبقة العاملة، وهى فئة لا تحظى عادةً بكثير من الاهتمام الأدبى، لتقدم لنا نموذجًا معيّنًا من الرجال، وتدعونا إلى النظر خلف الواجهة».
وواصل «دويل»، مقارنًا تجربته الشخصية ببطل الرواية: «دون وعى منى أو من غيرى، كنت قد تربيت مثلًا على ألا أبكى أبدًا، ثم أدركت أن هذا كلام فارغ»، مؤكدًا أن «بطل الرواية (إشتفان) يمثل هذا النوع من الرجال».
ورواية «Flesh/ لحم» تفوقت على قائمة قصيرة قوية تشمل: الكاتب أندرو ميلر، الذى كان المرشح الأوفر حظًا بروايته «The Land in Winter/ الأرض فى الشتاء»، والكاتبة كيران ديزى عن روايتها «The Loneliness of Sonia and Sunny/ وحدة سونيا وسانى»، وهى أول أعمالها منذ فوزها بـ«البوكر» عام ٢٠٠٦ عن روايتها «The Inheritance of Loss/ ميراث الخسارة»، فضلًا عن سوزان تشوى برواية «Flashlight/ مصباح يدوى»، وكاتى كيتامورا بـ«Audition/تجربة الأداء»، وبن ماركوفيتس بـ«The Rest of Our Lives/ بقية حياتنا».
وعندما سُئل «دويل» عما إذا كانت أى من الروايات هذه اقتربت من منافسة «سالاى» على الفوز بالجائزة، أجاب: «الإجابة نوعًا ما: نعم». لكنه رفض ذكر أسماء محددة، قائلًا: «سيكون ذلك غير منصف، بل وقاسيًا بعض الشىء».
وُلد ديفيد سالاى فى مونتريال لأب مجرى وأم كندية، ونشأ فى لندن. عاش فى لبنان والمملكة المتحدة، ويقيم حاليًا فى فيينا. بعد تخرجه فى جامعة «أكسفورد»، عمل فى مجال الإعلانات المالية، وهى التجربة التى ألهمته كتابة روايته الأولى «London and the South-East / لندن والجنوب الشرقى». وهو أيضًا مؤلف روايتى «Spring/ الربيع» و«The Innocent/ البرىء»، والمجموعة القصصية «Turbulence/ اضطراب».
وكشف «سالاى» عن الفكرة التى ألهمته كتابة الرواية الفائزة «لحم»، قائلًا: «ولدت الرواية فى ظل الفشل»، وذلك بعدما تخلى، فى خريف ٢٠٢٠، عن رواية كان يعمل عليها لما يقرب من ٤ سنوات، لأنها لم تكن تسير على النحو الذى أراده.
وأضاف الفائز بـ«البوكر لعام ٢٠٢٥»: «أردت من (Flesh) أن تعبّر بطريقة ما عن إحساسى بأن وجودنا تجربة جسدية قبل أن يكون أى شىء آخر، وأن كل ما يتفرع عن حياتنا ينطلق من تلك الجسدية».

دقة قديمة
رغم تاريخها العريق وسمعتها المرموقة فى عالم الأدب، ترى صحيفة «الجارديان» أن طريقة إدارة جائزة «البوكر»، ومراسم الإعلان التقليدية، قد تبدو غير مناسبة لعصر وسائل التواصل الاجتماعى والتفاعل الرقمى السريع، بينما الوصول لجمهور أوسع يتطلب أساليب جديدة تتجاوز الطقوس التقليدية.
وأوضحت الصحيفة البريطانية أنه فى ثمانينيات القرن الماضى عندما كانت خلافات وعلاقات الكُتّاب تتصدر عناوين الصحف، كانت مراسم جائزة «البوكر» تُبث مباشرة على شاشة تليفزيون الـ«BBC»، ما منحها مكانة مميزة أشبه بـ«أوسكار عالم الكتب»، حيث لحظات الإعلان عن الفائزين مناسبة مليئة بالإثارة والاحتفال الأدبى.
أما اليوم، ففكرة متابعة المثقفين فى بدلاتهم الرسمية، وهم يتناولون العشاء فى القاعة الخشبية الشهيرة بـ«Guildhall»، باتت بعيدة المنال وغير واقعية. لذا، جائزة «البوكر» بحاجة للوصول إلى جمهور واسع ومتفاعل من القراء. السؤال الذى يطرح نفسه هنا: كيف يمكن جعل ما وصفه الكاتب جوليان بارنز بـ«البينجو الراقى» جذابًا ومفهومًا لجيل «بوك توك» الحديث؟ لم يعد يكفى أن نخبر القراء بما يجب عليهم قراءته فقط، فهم يريدون أن يكونوا جزءًا من التجربة نفسها، يشاركون فى النقاش ويشعرون بأنهم حاضرون.
هذا العام، أعلن روددى دويل، الرئيس والكاتب الحائز سابقًا على جائزة «البوكر»، عن القائمة القصيرة مباشرة أمام الجمهور، خلال فعالية أقيمت فى مركز «ساوثبانك» بالعاصمة لندن. ترافق ذلك مع محادثات حصرية من وراء الكواليس مع لجنة التحكيم، وبث الحدث مباشرة عبر الإنترنت.
ومع ذلك، لا يُسمح للقراء بدخول غرفة التحكيم. قديمًا كتبت عضوة لجنة التحكيم الشهيرة، ريبيكا ويست، إحدى أولى المُحكّمات فى الجائزة، ملاحظات صارمة عن بعض الأعمال السابقة، مثل: «مايكل فرين ممل بشكل غريب»، و«ميلفين براج يبالغ فى كتابته بطريقة مفرطة»، ومن هنا جاءت سرية الاجتماعات.

رغم كل شىء، من المؤكد أن ريبيكا ويست كانت تقدر غنى وتنوع القائمة القصيرة لهذا العام، التى تضم ٦ روايات متميزة تم اختيارها بعناية من بين ١٥٠ عنوانًا مُقدمًا للجائزة، وجميعها أعمال قوية ومؤثرة تستحق القراءة والمتابعة عن كثب.
جائزة «البوكر» لهذا العام لا تضم أى روايات هى الأولى لكاتبها، إلا أن الكُتّاب الجدد سيحصلون على فرصة مميزة من خلال جائزة جديدة، أُنشئت تخليدًا لذكرى الكاتبة هيلارى مانتل، الحائزة على «البوكر» مرتين، وتهدف إلى تسليط الضوء على المواهب الأدبية الصاعدة وتشجيع الأصوات الجديدة على الإبداع والتميز فى عالم الأدب.
وفى مؤشر واضح على التحولات الثقافية الحديثة، أُطلقت الأسبوع الماضى جائزة جديدة تهدف للاعتراف بالكتب المفضلة على منصات «Bookstagram»، حيث يقدم أعضاء مجتمع القراء عبر الإنترنت عناوينهم المفضلة ويقيمونها، ما يعكس دور القراء الرقميين فى تشكيل النقاش الأدبى ومواكبة الثقافة المعاصرة.
فى زمن «Bookfluencers» أو «مؤثرى الكُتب»، لم يعد الاعتماد على لجنة تحكيم الخبراء وحدهم كافيًا. فالجائزة أصبحت أيضًا نقطة جذب للقراء على الإنترنت، حيث يمكنهم النقاش والمشاركة بحرية عبر جمهور متزايد بسرعة على «تيك توك»، ونادى كتب رقمى نشيط يضفى الحيوية والتفاعل على التجربة.
لكن فى ظل التقارير المقلقة عن تراجع عادة القراءة للمتعة، وما يرافق ذلك من تأثير على مستوى مهارات القراءة والفهم، والأزمة التى تمر بها المهرجانات الأدبية، والمخاوف من تراجع مكانة الرواية، يبدو أن هناك سببًا للاحتفال. فجائزة «البوكر» لا تزال مؤسسة ثقافية لها مكانتها المرموقة ليس فى بريطانيا فقط، بل على المستوى العالمى أيضًا.
وبعد النجاح الكبير الذى حققته روايات مثل «Shuggie Bain» لـ«دوجلاس ستيوارت» و«Orbital» لـ«سامانثا هارفى»، التى كانت أسرع الروايات مبيعًا فى تاريخ الجوائز- تمكنت «البوكر» أخيرًا من إيجاد توازن بين الرصانة الأدبية والجاذبية الجماهيرية، بين الاحترافية وروح التفاعل مع القراء.
مع هذه القائمة القصيرة القوية والمتنوعة، يبدو أن الفائز بجائزة ٢٠٢٥ سيكون إضافة بارزة لنجاحات الجائزة المستمرة. جميع الروايات الست، التى تستكشف طرق العيش مع الآخرين وفنون الحب والتفاهم، تتميز بأنها «إنسانية ببراعة» كما وصفها «دويل»، مذكّرةً القراء بالتحديات التى يفرضها «الذكاء الاصطناعى» على الإبداع الأدبى والإبداع الفكرى الإنسانى.
القراءة قد تكون نشاطًا فرديًا، لكن تجربة الرواية المشتركة تجمعنا بطريقة حميمة جدًا. الجوائز توفر مكانًا للالتقاء، وفى زمن ملىء بالانقسامات، يمكننا أن نجد راحة فيما وصفته إحدى أعضاء لجنة التحكيم هذا العام، أيوبامى أديبايو، بـ«روح المشاركة فى الأدب».

بقية حياتنا
رواية عن رجل يُدعى «توم»، ينتظر أكثر من عقد لينفذ نيّته بالابتعاد عن زوجته الخائنة، عندما يبدأ أصغر أبنائه الدراسة الجامعية. بعدها ينطلق فى رحلة على الطريق عبر مشاهد الولايات المتحدة، التى تجمع بين بساطتها وحيويتها.
فى أثناء الرحلة، يروى «توم» ذكرياته ومشاعره بطريقة تمزج بين الصراحة والتحفظ، ما يجعل القارئ يشارك فى المشهد بصمت، متأملًا شخصيات العائلة المختلفة: الزوجة الباحثة عن تأثير عاطفى، الابن الذى يحافظ على مسافة ودية، الابنة التى تواجه التغيير، الشريكة السابقة الناجحة لكن غير الراضية، علاوة على «توم» نفسه. ورغم العقبات، لا يشعر «توم» بالندم على الفرص التى لم يخضها، ويكتشف متعة الروتين والحياة العائلية العادية والعمل المستقر.

الأرض فى الشتاء
دراما عائلية تدور أحداثها خلال شتاء ١٩٦٣ القارس فى جنوب غرب إنجلترا، وتروى حياة زوجين وزوجتين: «إريك» و«إيرين»، و«بل» و«ريتا»، على مدار عدة أشهر شديدة البرودة. بسبب كثافة الأحداث على فترة قصيرة، وعدد قليل من الشخصيات، يشعر القارئ أحيانًا بأن الجو مشحون ومكثف، كما لو كان يشاهد مسلسلًا دراميًا.
الزوجتان حاملتان، وتربط بينهما علاقة متوترة وحذرة بسبب قرب الولادة. رغم أنهما الشخصيتان الرئيسيتان، فإن «ريتا» و«إيرين» تبدوان وكأن الأحداث تُفرض عليهما أكثر من أن يكون لهما إرادتهما الخاصة. الحمل يزيد من شعورهن بالالتزام غير القابل للتجنب، وليس كظرف سعيد مرغوب فيه.

مصباح يدوى
تبدأ الرواية بحدث صادم: «لويزا»، ذات الـ١٠ أعوام تمشى مع والدها «سيرك» على حاجز بحرى عند الغروب، ومعها مصباح يدوى. فى الصباح، يُعثر عليها وهى بالكاد حيّة، بينما والدها مفقود ويُفترض أنه غرق.
الرواية تتابع حياة «لويزا»، ووالدها «سيرك» ووالدتها «آن»، عبر قارات وعقود من الزمن، لتروى قصة عائلة تتعامل مع الغياب والخسارة، مع تأثير الأحداث التاريخية على حياتهم. «سيرك»، كورى الأصل وُلد فى اليابان، يهاجر للولايات المتحدة ويعيش حياة مليئة بالتحديات، بينما «آن» الوالدة أمريكية، تمثل جانبًا آخر من الانفصال والتوريث العاطفى.
الرواية تكشف بطريقة رائعة موضوعات الهوية والهجرة والغياب، وتقدم قصة مؤثرة وغنية بالعاطفة تستحق القراءة بعناية.

وحدة سونيا وسانى
الجزء الثانى من الرواية الأولى للكاتبة كيران ديزى، التى كتبتها منذ نحو ٢٠ عامًا. تدور الأحداث بين التسعينيات وأوائل الألفينات، وتنتقل بين الولايات المتحدة والهند وإيطاليا والمكسيك، لتروى قصة مهاجرين هنديين: «سونيا شاه»، الكاتبة الطموحة التى تدرس فى فيرمونت، و«سانى بهاتى»، الصحفى المكافح فى نيويورك.
تدخُّل أجدادهما فى شمال الهند يعرقل علاقتهما. الأجداد الذين يعيشون فى قصور متداعية تعكس تراجع ثرواتهم وانحلال الاستعمار، وتعتبر الرواية ملحمة عائلية متعددة الأجيال، وتكشف تأثير الدولة والطبقة الاجتماعية والجنس والعرق والتاريخ على الشخصيات، وتتناول مفاهيم الوحدة والفردية الصارمة والانحلال ما بعد الاستعمارى والعنف.

تجربة الأداء
تتكون الرواية من جزءين يبدو أنهما متناقضان. فى الجزء الأول، تلتقى ممثلة مسرحية وسينمائية فى أواخر الأربعينيات من عمرها رجلًا أصغر منها بكثير، داخل مطعم فى مانهاتن. يطلب لقاءها لأنه يشُك فى أنها ربما تكون أمه التى عرضته للتبنى، وتؤكد له أنه مخطئ لأنها أجهضت ابنها.
فى الجزء الثانى، يتضح أن الرجل هو ابنها بالفعل، وتربى معها هى وزوجها، لكنه كبالغ كان قد تشاجر مع والديه وترك المنزل، والآن يريد العودة مع صديقته.
تتعامل الرواية مع هذين السيناريوهين المتناقضين بطريقة متوازنة، لتبرز التوتر والشكوك وعدم اليقين، وتقلبات الحياة بأسلوب مختصر ومباشر. أيضًا تقدم الرواية تأملًا غامضًا وعميقًا فى موضوعات الأبوة والأمومة والعلاقات والالتزام.







