الأحد 14 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

صوت من غزة.. مصعب أبوتوهة: أهالى القطاع مرهقون لدرجة تمنى الموت

مصعب أبوتوهة
مصعب أبوتوهة

- أحارب بشعرى مَن تربوا على رواية: «إسرائيل خير مطلق والفلسطينيون شر مطلق»

- أمريكا تزوّد إسرائيل بالسلاح ثم تطلب منها «ضبط النفس» كبائع مخدرات يوصى بعدم السهر

- ابنى غطى شقيقته ببطانية لحمايتها أثناء قصف إسرائيلى فى 2021 

- أشارك تجربتى كما فعل اليهود تحت شعار «الهولوكوست لن تتكرر أبدًا»

استضاف الإعلامى الأمريكى الشهير جون ستيوارت، فى أحدث حلقات بودكاست «ذا ويكلى شو»، الشاعر والكاتب الفلسطينى مصعب أبوتوهة، الذى يُعد أحد أبرز الأصوات الشعرية الفلسطينية المعاصرة، وحاز على جائزة «بوليتزر» لعام 2025، تقديرًا لإبداعه الشعرى، والذى يعكس مآسى الحرب واللجوء، وتجارب أهل غزة تحت الحصار.

تحدث «أبوتوهة»، خلال الحوار الذى تترجمه «حرف» فى السطور التالية، عن واقع قطاع غزة، الذى يعانى من إبادة جماعية منذ عقود، وليس بعد السابع من أكتوبر 2023، مؤكدًا أن رغبته الدائمة هى توصيل تجربته إلى العالم، كما فعل اليهود بعد «الهولوكست»، تحت شعار: «لن يتكرر ذلك أبدًا».

ورأى أن شعره يواجه مَن تربوا على رواية: «إسرائيل خير مطلق والفلسطينيون شر مطلق»، ويكتب عن تجارب مثل ابنه الذى غطى شقيقته ببطانية لحمايتها من قصف إسرائيلى غاشم فى عام 2021، منتقدًا إمداد الولايات المتحدة لإسرائيل بالسلاح، ثم مطالبتها بـ«ضبط النفس»!

 

■ مَن هو مصعب أبوتوهة لمن لا يعرفه؟ 

- وُلدت فى غزة، فى مخيم «الشاطئ» للاجئين، وهو المخيم نفسه الذى وُلد فيه والدى عام ١٩٦٢، والمخيم ذاته الذى عاش فيه أجدادى حتى وفاتهم، بعد أن طُردوا من منازلهم فى يافا عام ١٩٤٨.

■ إذن المخيم تحوّل إلى ما يشبه مدينة؟ 

- يصدمنى أن أرى تعليقات تسخر من صور مخيمات اللاجئين مثل «جباليا» لأنهم لا يرون خيامًا. مرّ ٧٧ عامًا على الاحتلال، فهل يُعقل أن يبقى الناس فى خيام طوال هذه العقود؟! المخيمات كان يفترض أن تكون مؤقتة لكنها تحولت إلى واقع دائم.

فى غزة وحدها هناك ٨ مخيمات: مخيم «الشاطئ» حيث وُلدت أنا وأبى. و«جباليا» و«رفح» و«النصيرات» و«البريج» و«المغازى» و«خان يونس» و«دير البلح». إسرائيل دمّرت على الأقل مخيمين بالكامل: «جباليا» و«رفح»، وأنا كنت ألجأ إلى «جباليا» قبل مغادرتى غزة فى ديسمبر ٢٠٢٣، والآن لم يتبقَّ منه شىء.

■ كيف ترى واقع المخيمات الفلسطينية خارج غزة؟

- قضيت بعض الوقت فى الأردن، حيث يوجد عدد هائل من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التى تحولت إلى مدن. لكنها ما زالت غير أردنية، هم لاجئون فلسطينيون. وهناك أيضًا مخيمات فلسطينية فى لبنان وسوريا. كل هذا بدأ مع أولئك الذين طُردوا من تلك المنطقة عام ١٩٤٨ مع «تأسيس إسرائيل». 

لا يزال أعمامى يعيشون فى مخيمات اللجوء بالأردن. لكن فى كل المخيمات الناس يعيشون فى ظروف مستحيلة. لا ماء ولا كهرباء. يعانون كما يعانى أهل غزة، لأنهم ليسوا مواطنى الدول التى لجأوا إليها.

زرت الأردن لأول مرة عام ٢٠١٩، بعد قبولى فى برنامج «باحث فى خطر» بجامعة «هارفارد»، إذ منعتنى إسرائيل من دخول القدس لمقابلة السفارة الأمريكية، واضطررت للسفر عبر مصر. هناك التقيت عمتى لأول مرة منذ ١٩ عامًا.

كانت تلك أيضًا أول مرة أغادر غزة وأنا فى السابعة والعشرين.

غزة صغيرة ومحاصرة منذ سنوات طويلة. إسرائيل دمّرت المطار الوحيد، ومنعت بناء ميناء، وأغلقت المعابر، حتى قبل سيطرة «حماس». مدن مثل بيت حانون والشجاعية تعرضت للتدمير الموثق حتى بطائرات إسرائيل نفسها. غزة محرومة من أبسط تفاصيل الحياة، لا مطار ولا ميناء ولا حتى اتصالات حديثة.

■ هل تمر بلحظات تجد أن الأمل لا يزال ممكنًا وهناك فرصة للتغيير، أم أن الإحساس كان دائمًا باليأس؟

- هذا سؤال مؤلم بالنسبة لىّ. فأنا كشاعر كتبت عن إصابتى فى غارة عام ٢٠٠٩ عندما كنت فى السادسة عشرة. أصابتنى شظايا فى الرأس والعنق بقيت شهورًا بعد الحرب. كنت فى طريقى لشراء طعام لأختى الصغيرة حين وقع القصف فى شارع «الجلاء»، فرأيت سبعة أشخاص يُقتلون أمامى وأصبت بينهم. أتذكر الدم الذى كان يقطر من جبينى، ورائحة مَن كان بجانبى فى سيارة الإسعاف وقد قُتل. حتى إن عائلتى بحثت عنى فى المشرحة معتقدة أننى متّ.

منذ ذلك الحين نجوت من غارات كثيرة، آخرها قصف بيتنا فى أكتوبر ٢٠٢٣، بعد نزوحنا بأسبوعين فقط، ولولا ذلك لكانت عائلتى كلها، نحو ثلاثين شخصًا بينهم عشرون طفلًا، قد أُبيدت.

أنا شاهد وضحية فى الوقت نفسه. فقدت أقاربى وأبناء عمومتى مع عائلاتهم كاملة. من الصعب أن أشعر بالأمل، لكن الأمل الوحيد بالنسبة لىّ هو مشاركة قصصى وتجربتى مع العالم، تمامًا كما فعل اليهود بعد «الهولوكوست» بقولهم: «لن يتكرر ذلك أبدًا». نحن أيضًا نكتب قصصنا لنصرخ: «لن يتكرر ذلك أبدًا. حررونا. لا نريد أن نعيش تحت الاحتلال».

■ وماذا عن التحركات الدولية لوقف العنف ضد الفلسطينيين؟ أيمكن أن تمنحك هذا الأمل، أم تراها مجرد تكرار لنفس المواقف السابقة بلا تغيير؟

- سأكون صريحًا. بصفتى لاجئًا وناجيًا وشاهدًا، أرى أن بعض الإسرائيليين تحدثوا بصدق عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية. لكن آخرين، سواء إسرائيليين أو غيرهم، لم يتكلموا بدافع التعاطف معنا، بل خوفًا على سمعة إسرائيل فى الخارج، وكأنهم يريدونها أن تتوقف كى لا تُرى كدولة شريرة، لا لأن الفلسطينيين يعانون منذ ٧٧ عامًا.

■ كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة.. هل ترى طريقًا آخر بخلاف تدخل المجتمع الدولى للفصل بين الطرفين؟

- هناك طريق واحد: أن يهتم العالم قادةً وإعلامًا بأمن الفلسطينيين كما يهتمون بأمن إسرائيل. نحن بلا جيش لأن إسرائيل لا تسمح، فمن يحمينا من الاحتلال وهجمات المستوطنين؟ الصراع غير متكافئ، إسرائيل تملك أسلحة قوية من أمريكا بينما نحن لا نملك شيئًا.

لذلك يُدفع الفلسطينيون باستمرار إلى مساحات أصغر. إسرائيل ليست وحدها المسئولة عن نكبتنا منذ ٧٧ عامًا، بل العالم كله. حتى الأمم المتحدة التى اعترفت بإسرائيل كعضو كامل عام ١٩٤٩، بينما لا تزال فلسطين محرومة من العضوية الكاملة رغم طلبها منذ ٢٠١١، وآخره عرقلة ذلك من قبل واشنطن بـ«الفيتو» فى أبريل الماضى.

■ كيف ترى تأثير الروايات المهيمنة عن إسرائيل والخلفية التاريخية على فهم الناس للصراع الفلسطينى الإسرائيلى؟

- أعرف أن كثيرين تربوا على رواية ترى «إسرائيل خيرًا مطلقًا والفلسطينيين شرًا مطلقًا». لكن ما أقدمه هو قصتى وقصص من عاشوا هنا فعلًا. ما يهمنى أن يسمع الناس التجربة من أصحابها لا من روايات الخارج.

شعرى يكتب عن حياتنا اليومية وسط الحصار والقصف، عن اللحظات الإنسانية الصغيرة التى تجعل القصة حقيقية. مثل ابنى الذى غطى شقيقته ببطانية أثناء قصف ٢٠٢١ ليحميها. فى السنوات الأخيرة تحدث الآخرون عنّا، وشكك الإعلام الغربى فى معاناتنا. لكن حان الوقت أن تُروى القصة بأصواتنا، نحن الذين عشنا النكبة والحصار واللجوء.

■ هل عائلتك ما زالت فى غزة؟

- كنت أتحدث مع عمى إبراهيم من معبر «زيكيم»، وقد وصف لىّ مشهدًا أشبه بـ«يوم القيامة»: جرحى ينزفون وآخرون يُقتلون قرب شاحنات المساعدات دون مستشفى قريب.

حتى زوجة عمى فقدت ٣٠ كيلوجرامًا من الجوع. لهذا سميت ما يحدث إبادة جماعية منذ اليوم الخامس، حين أعلنوا أنهم سيقطعون الطعام والدواء والماء، وطلبوا منّا الرحيل. كنت أعرف أنهم سيبررون قتل من يبقى بأنه «إرهابى». ما يجرى ليس جديدًا، إنها إبادة مستمرة منذ عقود، وليست فقط ما يحدث الآن.

■ ألا توجد أى أدوات ضغط داخل غزة؟ 

- الناس فى غزة مرهقون لدرجة أن بعضهم يتمنى الموت. والد زوجتى قُتل قبل ٣ أيام فقط بصاروخ من طائرة مسيّرة وهو فى طريقه لمعبر «زيكيم». دخلت شظايا إلى دماغه، بعد أن نجا ٦٥٠ يومًا من القصف والجوع وتدمير بيته ومزرعته، كان يزرع الفراولة. كثيرون يسألون: لماذا ننجو كل هذا الوقت لنُقتل فى النهاية؟ أما عن وقف إطلاق النار، فقد خرقته إسرائيل فى يناير. 

■ لقد احتُجزت فى إسرائيل لفترة.. هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك؟

- اختُطفت من زوجتى وأطفالى لـ٣ أيام، تعرضت خلالها للتحرش الجنسى والإذلال، إذ أُجبرت على خلع ملابسى أمام ٣ جنود، وأدرت جسدى أمامهم، ثم نُقلت إلى مركز احتجاز حيث ضُربت وحُرمت من العلاج. حتى الطبيب اكتفى بسؤالى عن اسمى ورقمى بدلًا من فحص إصاباتى. كنا نتلقى نصف قطعة «توست» مع قليل من اللبن وبضع قطرات ماء، وفى المرحاض بلا ورق ولا ماء. هذه ليست طريقة لاعتقال إنسان، بل إهانة وتجويع وتعذيب.

■ ماذا حدث لقوات حفظ السلام الدولية.. لماذا إسرائيل هى التى تتحكم فى كل شىء؟ 

- ما يربكنى هو غياب التدخل الدولى. والولايات المتحدة تلعب دورًا محوريًا. هى تزوّد إسرائيل بالسلاح، ثم تطلب منها «ضبط النفس» كمن يبيع المخدرات ثم يوصى بعدم السهر. بعد «٧ أكتوبر» قال العالم: «لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها». لكن هل قال أحد إن للفلسطينيين الحق فى الدفاع عن أنفسهم من الاحتلال والإبادة؟!

منظمات حقوقية وباحثون فى الإبادة أكدوا أن ما يجرى إبادة جماعية، لا مجرد توصيف شخصى. ومع ذلك الولايات المتحدة زوّدت إسرائيل بالمزيد من السلاح، وغطتها بـ«الفيتو» ضد أى قرار بوقف إطلاق النار أو حماية الفلسطينيين.

إسرائيل ارتكبت جرائم موثقة، ووصفتها دائمًا بأنها «أخطاء»، مثل قصف مدنيين يملأون الماء وقتل ٦ أطفال، فى يوليو ٢٠٢٥، وقصف كنيسة بعد أيام وقتل ٣، وقتل ١٥ مسعفًا فى رفح، إلى جانب مجازر أخرى مثل مجزرة مخيم «المغازى» أو مطبخ «وورلد سنترال كيتشن»، ومع ذلك لم تُحاسَب.

عائلتى وحدها خسرت أكثر من ٥٠ فردًا فى غارتين بينهم أطفال ونساء. إبادة غزة لا تمحو البشر فقط بل تمحو عائلات كاملة. ٧٠٪ من الفلسطينيين لاجئون أصلًا واليوم يُبادون من جديد. هناك مجازر لم يُذكر عنها شىء فى الإعلام الغربى، مثل إبادة عائلة «جوهر» التى قُتل منها نحو ٨٠ شخصًا فى غارة واحدة. التقيت بالناجين وأطفال يبحثون عن جثث آبائهم تحت الركام. كل شىء فى غزة صار تحت الركام، الناس والبيوت والكتب والمدن.

عندما أقرأ آن فرانك أو بريمو ليفى أو إيلى فيزل، أسأل نفسى: لو وصلت شهاداتهم يومًا بيوم إلى الإعلام الغربى كما تصل شهاداتنا الآن، هل كان العالم سيتحرك؟!

■ أنت شاعر وإنسان وفلسطينى وأب وزوج كيف لا تستهلكك مشاعر الغضب المطلقة؟ 

- أتشبث بإنسانيتى، وأحاول أن أكون سندًا لزوجتى وأطفالى وعائلتى فى غزة، حتى لو كان ذلك بمجرد مكالمات أُشعرهم فيها بأن أحدًا يستمع. أهل غزة لم يفقدوا بيوتهم فقط، بل فقدوا أيضًا من يصغى إليهم. لذا يكون للأصوات القادمة من الخارج أثر مختلف يمنحهم قليلًا من الأمل.

إسرائيل منعت دخول الصحفيين الدوليين، فحُرم الناس من نقل الحقيقة. ومع ذلك أثبتت الصور والتقارير أن ما نقوله ليس دعاية بل واقع نعيشه يوميًا. طوال حياتى لم أرَ طائرة ركاب فى سماء غزة، فقط طائرات حربية أو مُسيّرة أو مساعدات.

الكارثة الحقيقية ستنكشف حين يُسمح للعالم برؤية ما يحدث عن قرب. الفلسطينيون اليوم بلا سلطة أو قدرة على التحكم فى حياتهم، وما يحتاجونه بشكل عاجل هو حماية دولية حقيقية.