العلم الكافر!.. لماذا تتعارض بعض القراءات الدينية مع الحقائق العلمية؟
- قراءة فى كتاب «الخوف من العلم» لإنريكو بيديمونتى: التشكيك فى العلم آفة خطيرة
- شركات النفط تضخّ مبالغ هائلة فى حملات موجّهة لزرع الشك فى وعى الجمهور
فى عالمٍ تتزاحم فيه الشائعات مع الحقائق، ويختلط فيه صوت العلماء بضجيج الخوارزميات، يعود سؤال قديم متجدد: هل مازلنا نثق بالعلم؟ وهل يقدم العلم لنا حقائق مطلقة؟ ليس لأن العلم تغيّر، بل لأن العالم نفسه أصبح أكثر تعقيدًا، وأكثر قابلية للالتباس والتأويل والتوظيف.

من جائحة قلبت كوكبًا كاملًا رأسًا على عقب، إلى معارك شرسة حول الاحتباس الحرارى، ومن حكايات «فتيات الراديوم» التى كشفت الوجه المظلم للشركات العلمية، إلى الثورة الأخلاقية التى يثيرها الذكاء الاصطناعى اليوم؛ يضعنا كتاب «الخوف من العلم»، لإنريكو بيديمونتى، أمام مرآة تكشف وجهين معًا: عظمة رحلة المعرفة البشرية، وهشاشتها حين تقع فى قبضة الخطأ أو التلاعب، حيث يلقى الضوء على الأوقات التى وقع فيها العلم تحت سيطرة قوى استغلته لتحقيق مصالحها على حساب الآخرين، ويعرض أمثلة تكشف الانقسام بين العلماء والجماهير عبر العصور، كاشفًا عن الأسباب التى عمّقت هذه الفجوة ومدى تأثيرها على علاقتنا بالعلم اليوم.
الكتاب الصادر عن دار الرواق للنشر، وترجمته ندى سعيد، لا يدعو للشك، إنما إعادة النظر فى علاقتنا بالعلم؛ كيف نقرأه؟ وكيف نفهمه؟ ومن يملك حق روايته؟ ولماذا أصبح هناك غياب للثقة فى العلم؟
يطرح الكاتب تساؤلات ورؤى مهمة تضع رؤيتنا للعلم على المحّك: «كيف لمجتمع، يزداد اعتماده على نتائج البحث العلمى يومًا بعد يوم، أن يفقد ثقته بالعلم تدريجيًّا؟ كيف حدث أنه فى سنوات انتشار وباء كورونا، بعد أن أثبتت شركاتٌ كثيرة قدرتها على صنع لقاح فعال فى أقل من سنة، انتشر فى المجتمع فكر تشكيكى جعل كثيرًا من الناس يرفضون أخذ اللقاح؟ بينما، على النقيض، يفترض أن يكون واضحًا للجميع أن البحث العلمى بات بمثابة المحرك الذى سمح بمضاعفة متوسط عمر الإنسان، فى المئة سنة الأخيرة، على الأقل حياة الإنسان الغربى».
نجد الخطاب العام يتأرجح بين طرفين نقيضين: شكّ عميق فى العلم حين لا يريح قناعاتنا، وتقديس مبالغ فيه لكلمة «عالِم» وكأنها لقب لكاهن معصوم من الخطأ- كما يصف الكاتب- إحساسه بعدم الارتياح تجاه هذا التفخيم الخطابى.
إنها مفارقة تكشف التوتر الحقيقى فى علاقتنا بالمعرفة: كيف نشكّ فى العلم، وفى الوقت نفسه نمنح العلماء هالة قدسية؟

تتكلم السلطة فيصمت العلم
إن التشكيك فى العلم لم يعد مجرّد رأى مختلف، بل أصبح آفة مجتمعية خطيرة قد تخلّف أضرارًا واسعة. فالتشكيك فى فاعلية اللقاحات يعرّض أرواحًا للموت، ونشر الشكوك حول أبحاث تغيّر المناخ يعوق أى تحرك جاد تجاه أزمة بيئية باتت تغيّر ملامح حياتنا بالفعل. ومع ذلك، فإن فقدان الثقة بالعلم لا يصدر عن سبب واحد، ولا يمكن البحث عن مذنب وحيد نُلقى عليه اللوم، ولكن المتهم الرئيس فى هذا الكتاب هو السلطة بمختلف أشكالها، التى استخدمت العلم على مدار التاريخ لخدمة مصالحها. فهناك السلطة الدينية، كما فى حالة الإنجيليين الأمريكيين ومنها للعالم كله، والتى هاجمت نظرية التطور وطرحت بديلًا دينيًا يفسّر بداية الخلق. وهناك سلطة الصناعة التى أنفقت مبالغ هائلة للدفاع عن مصالحها، من شركات التبغ إلى شركات النفط، عبر زرع الشك فى وعى الجمهور حول مصداقية الإجماع العلمى. ثم تأتى سلطة بعض دعاة حماية البيئة الذين يرفضون التكنولوجيا الحيوية استنادًا إلى حجج غير دقيقة أحيانًا.
ويؤكد الكاتب أن هذه الحالة من غياب الثقة بالعلم يتزايد بالتوازى مع فقدان الثقة بالدولة وحتى فى النخبة الثقافية. وإجمالًا، هى عملية محفوفة بالأخطار وتسبب تآكل مجتمعاتنا وتقوض حياتنا المتحضرة.
وهكذا ننتهى إلى أن العلم ليس شعارًا نلوّح به، ولا مجرد كلمة نتداولها، بل ممارسة بشرية تنبض بالأسئلة والتجارب والشكوك. وحين نراه بهذه الصورة، يتبيّن لنا أن أول خطوة نحو الثقة به هى أن ننزله من عليائه الخطابى إلى صوته الحقيقى على الأرض.
حسن يصطدم العلم بالمعتقد
يكشف الكاتب فى مؤلفه واحدة من أشهر صور الصدام بين العلم والمعتقدات الراسخة. فبرغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على ظهور نظرية التطور، ما زالت تُواجَه برفض واسع، وكأن الحقائق العلمية تصطدم بحاجز نفسى وثقافى يصعب اختراقه.
يشير الكاتب إلى أن من يؤمن بالإنجيل حرفيًا عادة لا يقبل نظريات داروين حول التطور. ويستعرض تجربة زيارة متحف الخلق فى ولاية كنتاكى الأمريكية، الذى أسسه قسّ يتبنى الرواية الإنجيلية للخلق ويصف نفسه بأنه يقاوم ما يسميه «ديكتاتورية العلم». فى هذا المتحف، يُقدّم تاريخ العالم، كما ورد فى حروف الإنجيل: خُلق الكون قبل ٦٠٠٠ عام فقط، وليس قبل ١٤ مليار سنة، كما تشير الدراسات العلمية، واستمر الخلق ستة أيام قبل أن يستريح الرب، وخلق الإنسان على صورته الحالية، دون أى عملية تطور أو تحسين عبر الأجيال، لأنه كيف يمكن تحسين خلق الرب؟
فى كل قسم من المتحف، نكتشف تصادمًا بين حقيقتين: الحقيقة المستنتجة بالعقل البشرى، والحقيقة المعلنة من الرب فى الإنجيل. وحتى عند مواجهة أسئلة علمية محددة، مثل عمر الحفريات الذى يُقدَّر بعشرات ملايين السنين عبر التحليل الإشعاعى، يقدم القائمون إجابات غير تقليدية: «يعتقد كثير من العلماء أن التحلل الإشعاعى ثابت عبر الزمن، لكنهم مخطئون. لو افترضنا أن الزمن كان أسرع ملايين المرات فى الماضى، نجد تفسيرًا منطقيًا للحقائق.» ومن المهم أن نلاحظ أن موقف الكاتب مرتبط بثقافته الغربية، إذ يعكس رأيه تجربة مجتمعه. وبالمثل، نجد أن كثيرًا من المسلمين لا يؤمنون بنظرية التطور، أو يأخذونها خارج سياقها، فيختزلونها بسطحية فى عبارة شهيرة تُنسب إلى داروين: «الإنسان أصله قرد»، بينما يقول القرآن الكريم إن الله خلق الإنسان فى أحسن صورة. ومن ثم يُعتبر ما يقوله داروين بدعة، ومن يصدّقها ويؤمن بها يُعد كافرًا فى نظر هؤلاء.
وهكذا، سواءً فى السياق الغربى أو فى سياقات دينية أخرى، يظهر الصدام بين العلم والنصوص المقدسة، والصعوبة التى تواجهها المجتمعات فى الجمع بين المعرفة العلمية والاعتقادات الراسخة، ما يفسر رفض البعض لنظرية التطور رغم وضوح الأدلة العلمية.
ولكن إذا نظرنا إلى التطور من منظور علمى شامل، نجد أن النصوص الدينية لا تتعارض بالضرورة مع الحقيقة العلمية. فالحقائق السطحية التى ينسبها البعض لداروين، لا تعكس جوهر فكرته أو كامل نظريته التطورية، بل هى اختزال مبسّط ومشوّه لمضمون طويل ومعقد يستند إلى الملاحظة والتجربة.
العالم يتختنق والبعض مازال يشك!
بعد مناقشة العلاقة الإشكالية بين الدين والعلم، وكيف يمكن لسوء الفهم أو القراءة الانتقائية للنصوص أن يخلق صراعًا غير ضرورى مع الحقائق العلمية، يفتح الكاتب بابًا آخر لا يقل تعقيدًا: صراع الإنسان المعاصر مع العلم نفسه، حتى خارج الأطر الدينية. فكما يُساء فهم بعض النظريات العلمية فى ضوء التأويلات الدينية، تُواجَه قضايا علمية معاصرة، وفى مقدمتها التغير المناخى، بموجة من الشك والإنكار، تغذيها عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية.
هنا يصبح الخلاف ليس بين النصوص والعلم، بل بين العلم والوعى العام، وهو ما يفنده الكتاب وهو يناقش ظاهرة عدم التصديق بالاحتباس الحرارى والتغير المناخى أو التقليل من خطورته، رغم الأدلة المتراكمة.
وفوق ذلك، لا يمكن تجاهل الدور الذى تلعبه شركات النفط الكبرى عالميًا، إذ تضخّ منذ عقود مبالغ هائلة فى حملات موجّهة لزرع الشك فى وعى الجمهور، ودفع الناس إلى التشكيك فى الإجماع العلمى حول التغير المناخى. وهذه الحملات، التى تستند إلى نفوذ اقتصادى وسياسى هائل، لا تهدف فقط إلى تعطيل أى وعى بيئى متنامٍ، بل إلى نزع الثقة من العلم نفسه حين يهدّد مصالحها، مُحوِّلة النقاش العلمى إلى معركة رأى عام لا حقيقة فيها ثابتة سوى دفاع رأس المال عن نفسه.
وعليه، يشير الكتاب إلى أن البيانات والأرقام تُظهر أن إنكار التغير المناخى ليس ظاهرة هامشية. ففى دراسة لجامعة ميشيجان، يرفض نحو ١٤.٨٪ من الأمريكيين فكرة أن التغير المناخى يحدث أصلًا، بينما أفاد استطلاع حديث من Pew Research بأن ١٤٪ يرون عدم وجود دليل قوى، ويعتقد ٢٦٪ أن التغير المناخى مجرد تقلبات طبيعية. هذه الأرقام تكشف عن أزمة عالمية فى الثقة بالعلم، وتؤكّد ما يطرحه الكتاب حول هشاشة العلاقة بين المعرفة العلمية والجمهور، وكيف يمكن للسياسة أو المصالح الاقتصادية أن تستغل الشكوك لتأجيل الالتزامات البيئية أو التخفيف من حدّتها.
أما على مستوى منطقتنا العربية، التى لم يتناولها الكتاب، فإن الصورة تبدو أكثر تعقيدًا؛ إذ تتداخل المعتقدات الدينية، والتجارب المعيشية، والأولويات الاقتصادية فى تشكيل موقف الناس من القضايا العلمية. فرغم أن استطلاعات Arab Barometer (٢٠٢١–٢٠٢٢) تشير إلى أن مواطنى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يُقرّون بأن التغير المناخى يمثل تحديًا حقيقيًا، وأن القلق البيئى حاضر بقوة، فإن هذه المخاوف تتراجع غالبًا أمام الضغوط المعيشية اليومية. لذلك يُنظر إلى الأزمة المناخية أحيانًا باعتبارها «قضية علمية بعيدة»، رغم واقعها المتسارع.
وبمقارنة ما طرحه الكتاب، فإن الصورة لدى الشباب العربى تُعد أكثر وضوحًا: وفق أحد الاستطلاعات، يؤيد ٥٨٪ منهم مقاطعة العلامات التجارية الملوِّثة، بينما قال ٦٦٪ إنهم قلقون جدًا من التغير المناخى، وهى نسب تشير إلى وعى مرتفع، لكنه لا يزال بحاجة إلى فهم علمى أعمق وتواصل مباشر وفعّال من المؤسسات العلمية.
بهذا المعنى، تبرز الحاجة إلى خطاب علمى يتجاوز حدود نشر الحقائق، نحو بناء علاقة أكثر انفتاحًا وحوارًا مع الناس. علم لا يقدم نفسه كمُسلّمة مقدّسة، بل كعملية معرفية تشارك فيها المجتمعات بنفس القدر الذى يصنعه العلماء.
العلم حين يفقد براءته
إحدى الأفكار التى يطرحها كتاب «الخوف من العلم»، هى مناقشته كيفية ارتباط العلم بالمصالح التجارية والسياسية، وأثر ذلك على موضوعيته ومكانته لدى الجمهور. فيقول الكاتب: منذ الثمانينيات تغيّر تمويل العلم جذريًا؛ فبعد أن كان الدعم العام والخاص متساويين، صار أكثر من ثلثى تمويل البحث العلمى اليوم يأتى من الشركات. هذا الارتباط الوثيق جعل العلم أكثر خضوعًا لبراءات الاختراع والمصالح التجارية، وتحولت نتائج الأبحاث إلى ملكية خاصة، لا منفعة عامة. ورغم أن خصخصة العلوم دفعت الشركات للاستثمار والمنافسة، فإنها أضعفت صورة العلم كمعرفة موضوعية ومحايدة، وربطته بالسلطة والمصالح. وفى هذا المناخ التنافسى، ازداد سحب المقالات العلمية بسبب الأخطاء أو التلاعب، حتى إن مجلة ذا لانسيت أشارت إلى أن جزءًا كبيرًا من الأدبيات العلمية قد يكون مضللًا، ما يجعل التمييز بين العلم الحقيقى والزائف تحديًا متزايدًا.
هل علينا أن نثق بالذكاء الاصطناعى؟
يسلط الكاتب الضوء على التحدى الجديد الذى يواجه الإنسانية: الذكاء الاصطناعى يتبع منطقًا غريبًا على طبيعتنا البشرية، حيث إن الخوارزميات غير شفافة ولا تفسّر اختياراتها، مما يثير عدم الثقة بين الناس الذين اعتادوا فهم الأسباب وراء القرارات.
نحن اليوم نشهد أسرع ثورة تقنية فى تاريخ البشرية، حيث لم يعد النفط هو وقود المجتمع، بل البيانات، والذكاء الاصطناعى أصبح المحرك العلمى الأساسى. هذا يفتح آفاقًا واعدة لحل مشكلات كبرى مثل الطاقة النظيفة والحوسبة الحكومية والاندماج النووى والتغير المناخى. لكن للمعادلة وجه آخر: العالم الرقمى تهيمن عليه شركات عملاقة تتحكم بموارد هائلة وتقنيات معقدة، وتستغل نقاط ضعف الأفراد لمصلحتها الاقتصادية، من خلال خلق الإدمان ونشر الأخبار المضللة، ما يعمّق التفاوت الاجتماعى ويقوّض الديمقراطية.
العوالم الافتراضية التى تبنيها هذه الشركات تعمل كصناديق مغلقة، حيث تظل الخوارزميات غير شفافة ولا يمكن للسياسيين أو الجمهور تتبعها أو تنظيمها.
وهكذا، يتغير عالمنا بوتيرة أسرع من قدرتنا على استيعابه، وتصبح المشكلة المحورية هى قوة هذه الشركات، التى تتحكم فى البنية التحتية الأساسية، وتضع قواعد العمل، وتحدد تدفق المعلومات.
إعادة بناء الجسر المفقود
ختامًا، يكشف الكتاب عن هشاشة العلاقة بين الإنسان والعلم؛ ليست المشكلة فى العلم نفسه، بل فى الطريقة التى يُقدَّم بها ويُفهم، حيث يصعب الفصل بين المعرفة والسلطة، وبين الحقائق العلمية والمصالح الاقتصادية والسياسية، وبين وعود التكنولوجيا التقدمية ومخاوفنا من آثارها الخفية.
ما يطرحه الكتاب ليس تحذيرًا من العلم، بل دعوة لإعادة التفكير فى علاقتنا به، لإعادة بناء جسر يربط بين البحث، والشفافية، والمجتمع، بحيث يصبح العلم فعلًا إنسانيًا جماعيًا، لا مجرد أداة يُسيطر عليها الآخرون.






