الجمعة 26 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

حياة بلا تبذير.. فن اقتناء الأشياء التى تعيش طويلًا

حرف

- كتاب «فن تفويت الفرص» يقدم رؤية جديدة حول طرق الشراء

- تحكى الكاتبة كيف تبدّلت حياتها كليًا بعدما تبنّت فلسفتها الجديدة للشراء الواعى

نعيش فى زمنٍ صار الاستهلاك فيه عادة يومية، نشترى أكثر مما نحتاج، ونُبدّل أغراضنا قبل أن تبلى، ونغرق فى كراكيب لا تمنحنا سوى المزيد من التوتر. هل وقفت أمام دولابك المكدس بالملابس يومًا وشعرت بأنه ليس عندك ما ترتديه؟ كم مرة شعرت بأن أغراضك تزداد بينما راحتك تقلّ؟ هل يمكن أن نصنع فارقًا فى حياتنا بمجرد تغيير طريقة شرائنا؟

هذا ما يناقشه كتاب «فن تفويت الفرص.. كيف نشترى ما يدوم؟» للكاتبة البريطانية تارا باتون، الصادر حديثًا عن دار الرواق للنشر، وترجمته سمر حجازى. 

تكشف الكاتبة عن كيف تحوّل الهوس بالشراء من متعة عابرة إلى عبء ثقيل على النفس والوضع المالى والبيئة. تضع إصبعها على جرح مشترك نعيشه جميعًا، وتقترح علاجًا بسيطًا لكنه ثورى: أن نتعلم فن شراء الأشياء التى تدوم. وتُبيّن لنا كيف نعيش سعداء فى عالمٍ لا يهتم إلا بالربح التجارى.

إنه كتاب موجه لمُدمنى الشراء والتسوق، ولمن يجدون أنفسهم مفلسين بعد أيام من صرف الراتب، والمدينين بالطبع. فهو يجمع بين السيرة الشخصية للكاتبة وتجربتها مع الكراكيب والديون، وبين رحلة أوسع لاكتشاف الجمال الحقيقى فى الأشياء القليلة، المتينة، والمستدامة.

أصدرت الكاتبة البريطانية كتابها استنادًا إلى خبرة طويلة كمُستهلكة؛ إذ كانت عضوًا فى «نادى المتسوقين الاندفاعيين». تقول: كنت أدفع الفواتير دون أن أتساءل عن جدوى ما أشتريه، ولطالما أسرفت فى الإنفاق.. وفى نهاية المطاف أدى شرائى الاندفاعى المتكرر إلى تراكم ديون باهظة، ما ولّد داخلى شعورًا بفقدان السيطرة على نفسى والغضب.

تضيف: اعتدتُ أن أعود فى نهاية اليوم إلى بيتٍ مصاب بـداء كراكيب مزمن، مثّل ترتيبه وتنظيفه مهمة مرهقة. كنت أحدّق بلا تعبير فى أكوام ملابس من صيحات الموضة سريعة الزوال، متسائلة: لماذا أشعر بأنه لا يوجد لدى ما أرتديه؟ وكحال كثيرين، عاشت حياتها متخبطة، مقتنعة بأن الحصول على ما ترغب فيه سيجلب لها السعادة.

لماذا لا تسعدنا مقتنياتنا؟

تطرح الكاتبة فى مقدمة كتابها مشكلة باتت جزءًا من حياتنا اليومية: منازلنا- بل وحيواتنا بأكملها- مكتظة بأشياء تخذلنا، فتزيد مستويات توترنا بشكل صاروخى وتستنزف حساباتنا المصرفية. وتشير أيضًا إلى مأزق آخر، وهو أن معظم هذه المقتنيات رديئة الصنع أو مجرد صيحات عابرة، تدفعنا إلى شراء المزيد والمزيد. ثم تطرح سؤالها الجوهرى الأهم: ألا يمكن أن نعيش بطريقة مختلفة؟ ماذا لو أحطنا أنفسنا بأغراض جميلة، متينة، جيدة الصنع، تدوم طويلًا بدلًا من أشياء سرعان ما تبلى وتحتاج إلى استبدال وتغيير؟

هذه المشاعر دفعت الكاتبة إلى إنشاء موقع إلكترونى يحمل اسم «Buy Me Once»، أى «اشترنى مرة واحدة فقط»، فى إشارة إلى منتجات تُشترى مرة واحدة فى العمر بفضل متانتها وطول عمرها. جاء هذا المشروع بهدف تحرير الناس من الضغط المستمر للتجديد والاستبدال، وتقليل الكراكيب والتعاسة والديون الناتجة عن الاستهلاك المفرط، فضلًا عن تخفيف الأثر البيئى الذى يخلّفه مجتمعنا المولع بالمنتجات قصيرة العمر، مع توفير المال على المدى البعيد.

ورغم أن هذا الموقع أجنبى ويعمل خارج نطاق مصر، فلا يمكننا الاستفادة منه مباشرة، إلا أن الكتاب يقدّم إرشادات دقيقة حول كيفية اختيار الأشياء المستدامة وشرائها والاحتفاظ بها لأطول فترة ممكنة، وربما مدى الحياة. وقد أرفق به ملحق بعنوان «عشر خطوات لإجادة الانتقاء الواعى»، يوضح أهمية فهم الحيل التجارية وألاعيب التسويق التى تروّج للاستهلاك غير الواعى، مع التركيز على تحديد أولويات طويلة المدى، والتخلى عن الأشياء غير الضرورية، واختيار ما نحتاج إليه فعليًا.

كما يضم الكتاب ملحقًا آخر بعنوان «العناية والإصلاح»، يمكن اعتباره دليلًا عمليًا لمساعدتنا فى الاعتناء بمعظم ما فى منازلنا: من أعمال الصيانة البسيطة، إلى العناية بالمنتجات الجلدية والملابس والأقمشة، وأدوات المطبخ، بل وحتى إصلاح الملابس وحل مشكلات الأجهزة المنزلية وصيانتها.

وقدمت الكاتبة تحليلًا لظاهرة الإسراف والرغبة المُلحّة فى الشراء، مبيّنةً ارتباط عادات الاستهلاك المفرط بقلة تقدير الذات، والاعتماد على المتعة اللحظية بدلًا من السعادة طويلة المدى. وأشارت إلى أننا كثيرًا ما نتعامل مع الرفاهيات كأنها ضروريات، ونجعلها وسيلة لإثبات مكانتنا بين الآخرين. وتستشهد بمقولة لمؤسسة دار أزياء جوتشى: أفضل أن أبكى فى رولز رويس على أن أكون سعيدًا على دراجة.

شراء هادف

فى أحد الفصول تؤكد تارا باتون أن العيش بما يفوق إمكاناتنا يعنى أننا نجبر «ذواتنا المستقبلية» على دفع ثمن ما تنفقه «ذواتنا الحالية». وترى أن الحياة الأقل إهدارًا تقوم على تفويت هذه الإغراءات، والاعتناء بجميع مراحل ذواتنا. وتشير إلى أن زيادة نفقاتنا بمجرد الحصول على علاوة فى العمل مثلًا، أو إنفاق أموال نتوقعها فى المستقبل، يعرّضنا لمخاطر كبيرة إذا تعثرت الظروف.

ولمعالجة هذه المعضلة، تقترح تارا مجموعة من الأسئلة التى ينبغى طرحها قبل شراء أى غرض: هل أحتاج هذا الشىء فعلًا، أم أننى فقط أرغب فيه؟ هل يمكننى الانتظار حتى موسم التخفيضات؟ ما أهمية وجود هذا الشىء فى حياتى، وهل يضيف قيمة حقيقية يوميًا؟

إلى جانب ذلك، تقدّم الكاتبة تمارين مفصلة تساعدنا على تحديد أهدافنا فى الحياة أولًا، ثم مقارنتها بأسباب شرائنا الأشياء، انطلاقًا من سؤال محورى: هل يخدم هذا الشىء الذى أرغب فى شرائه هدفى؟ وتفسر: أريكة مريحة تسمح لى بالتواصل مع الأسرة والأصدقاء تعد هادفة، بينما سيارة ملوثة للبيئة تتعارض مع هدفى فى الحفاظ على الكوكب، ما يقتضى البحث عن بديل أقل تلويثًا للبيئة. كذلك قبعة للحماية من الشمس تحافظ على صحتى، فهى هادفة، فى حين أن امتلاك خمس قبعات مماثلة لا يخدم الهدف، بل يسبب كركبة وفوضى.

كيف يؤثر فينا الشراء الواعى؟

تحكى الكاتبة كيف تبدّلت حياتها كليًا، بعدما تبنّت فلسفتها الجديدة للشراء الواعى، فقد أصبحت أكثر قدرة على ضبط نفقاتها، وتخلصت من صناديق لا حصر لها من كراكيب منزلها حتى صار التعامل مع أى فوضى لا يستغرق أكثر من دقيقتين. كما أن امتلاك أشياء تدوم لسنوات جعلها تهتم بها تلقائيًا على نحو أفضل، ولم تعد تشعر بضغط مواكبة الجيران أو الأقارب. والأهم، أنها أعادت التواصل مع ذاتها الحقيقية، وارتفعت قيمتها الذاتية، لتصبح تقدّر العلاقات المبنية على التواصل الممتع لا الحاجة.

مقاومة عالم يصنع منا أشخاصًا مفلسين وحيدين

وفى فصل بعنوان «كيف نقاوم عالمًا يحاول أن يحولنا إلى أشخاص مفلسين وحيدين» تشير تارا إلى أن زيادة الوعى بما نشتريه يحمينا من الإنفاق الاندفاعى ويمنحنا القدرة على الصمود أما ألاعيب الإعلانات وأساليب التسويق. ومع مرور الوقت سنكتشف أننا نوفر المال ونحرر أنفسنا من كل ماهو تافه وممل وردىء. 

وتوضح أن العالم التجارى، عبر حملاته وإعلاناته، يبذل جهدًا هائلًا ليبعدنا عن الاستفادة الكاملة من العمر الافتراضى للأشياء. غير أن هذا لا يخدم سوى نزعة الاستهلاك النهمة، بينما يتركنا نحن فى مواجهة المشكلات اليومية: سحّابات مكسورة، غسالات ملابس دائمة الاهتزاز، وبناطيل جينز تتمزق عند الفخذين. كلها منتجات رديئة الجودة وغير قابلة للإصلاح.

كما تكشف الكاتبة، فى فصل آخر، عن عشر حيل إعلانية تُستخدم لإجبارنا على الإنفاق، والطرق الفعالة التى يعتمدها المسوّقون لسحرنا بمنتجاتهم. أبرز هذه الحيل: استهداف الأطفال فى سن مبكرة عبر شخصياتهم المفضلة، وتوظيفها فى بيع منتجات لا علاقة لها بهم وغالبًا ما تكون أطعمة سريعة. أما البالغون فيتأثرون بالمشاهير، أو بالخوف من تفويت الفرص «الفومو». والأخطر، بحسب تارا، هو استغلال علم الأعصاب لمعرفة كيف يستجيب المستهلك بشكل غير واعٍ.

أما عن الاستهلاك غير الواعى، فتوضح تارا أنه يعرّضنا لخطر التحول إلى أشخاص ماديين بشكل مَرَضى، حيث ينصبّ قدر كبير من انتباهنا على الثروة والممتلكات والمكانة الاجتماعية. وتضيف صدمة غير متوقعة: فالأشخاص الماديون- من دون وعى- غالبًا ما يكونون أقل كرمًا ولطفًا وصحة، وأكثر ميلًا إلى تجنّب مساعدة الآخرين. كما أنهم أقل رضا عن حياتهم ووظائفهم، وأقل اهتمامًا بالبيئة. وفوق ذلك، فهم أكثر عرضة للديون والشعور بالوحدة.

كما تشير إلى أن معظمنا يقضى وقتًا فى التسوق أكثر مما يقضيه فى التواصل الاجتماعى مع الآخرين، وتقضى المرأة العادية أكثر من أربع سنوات من حياتها وهى تشترى شيئًا أو آخر.

كيف نقاوم ونلتزم؟

ما يميز هذا الكتاب أن كاتبته واجهت المشكلة بنفسها وعاشت سنوات فى دوامة الشراء غير الواعى، ثم غيرت حياتها للأفضل. لذلك فهى تقدّم حلولًا عملية فى كل فصل تقريبًا. تدرك تارا أن الالتزام بما تقوله ليس سهلًا، خصوصًا لمن أدمن التسوق الاندفاعى فى عالم يغذّى هذه الرغبات، لذا وضعت مجموعة من التمارين التى يمكن تطبيقها أثناء التسوق.

كما خصصت فصلًا كاملًا لمساعدة المتسوق الاندفاعى على التخلص من عاداته، ليصبح متسوقًا واعيًا، مع نصائح وتقنيات عملية يمكن استخدامها فى البيت أو السوق. من أبرزها: إعداد قائمة بالأشياء غير المرغوب فيها، مثل: «أجهزة غير ضرورية كصانعات الوافل، ساعة يد إضافية، مزيد من الكراسى أو تحف الزينة، أدوات تجميل تفوق الأساسيات، أو حتى الأقلام والمفكرات الكثيرة»، وقائمة أخرى بالأشياء التى نملكها بالفعل ولا نحتاج إليها، لنكشف الفئات التى نكرر شراءها باندفاع.

ومن النصائح الفعّالة أيضًا: إذا كنت تميل لشراء منتج معين بشكل اندفاعى، ذكّر نفسك بما تملكه بالفعل من أشياء جميلة؛ اجمعها فى مكان واحد والتقط لها صورة. وعندما يغريك المنتج فى السوق، ألق نظرة على الصورة لتدرك أن لديك ما يكفى، فتغادر المتجر راضيًا وسعيدًا.

كيف نشترى أفضل الأشياء جودة؟

فى فصل بعنوان «كيف تجد أفضل الأشياء على ظهر الكوكب»، تتناول الكاتبة طرق اختيار المنتجات الأكثر جودة فى السوق، التى تعيش لأطول مدى. وتنصح بترتيب أولويات الاختيار عند الحيرة على النحو التالى: طول العمر، صداقة البيئة، الشكل، الحجم، ثم السعر.

لكن ربما لا يبدو هذا الترتيب واقعيًا تمامًا للقارئ العادى؛ فالأغلب حين يشترى يفكر أولًا فى الشكل أو المتانة، بينما تظل معايير مثل «صداقة البيئة» بعيدة عن ذهن الكثيرين. كما أن عناصر مثل الحجم أو السعر بديهية فى أى قرار شراء، ما يجعل النص أقرب إلى طرح مثالى أكثر منه وصفًا لتجربة المستهلك اليومية.

وتشدد الكاتبة على أهمية تحقيق التوازن بين المتانة والشكل؛ فشراء مطرقة بضمان مدى الحياة أفضل من مطرقة ذات مقبض بلاستيكى جميل لكنه سريع التلف، لكن فى الوقت نفسه يجب أن تكون الأشياء التى نستخدمها يوميًا مُرضية بصريًا لنا.

وانطلاقًا من هذه الفكرة، تقدّم الكاتبة أمثلة عملية عن كيفية اختيار أثاث المنزل وأغراضه: من الغرف والأثاث والتنجيد، إلى الأرضيات والستائر والسجاجيد والإضاءة والمكاتب والمطابخ وأدواتها، وحتى الهواتف والسماعات والأجهزة اللوحية. كما توصى بمنتجات صديقة للبيئة تقلل النفايات، مثل الأدوات القماشية والمعدنية القابلة لإعادة الاستخدام بدلًا من الورقية والبلاستيكية.

وفى مقابل الشراء، توضّح الكاتبة طرقًا للتخلص من الكراكيب التى لم نعد بحاجة إليها: بالتبرع بها، أو بيعها، أو إعادة تدويرها. أما المتعلقات التى نحبها لكن لا نستخدمها، فتنصح بتحويلها إلى أشياء تضيف قيمة جديدة لحياتنا أو استخدامها بشكل مختلف؛ فمثلًا يمكن تحويل كوب مكسور لا يصلح للشرب إلى مقلمة أنيقة أو جزء من تحفة فنية».

وبالحديث عن الكراكيب، خصصت تارا جزءًا من الكتاب لشرح كيفية تجنّب ضياع مقتنياتنا، مشيرةً إلى إحصائية تكشف عن أن الفرد يهدر ما يقارب ١٥٠ يومًا من عمره فى البحث عن أشيائه المفقودة. وتوصى بتخصيص أماكن ثابتة لوضع الأشياء، سواء فى المنزل أو فى الحقائب أثناء الخروج. كما أشارت إلى أن أكثر خمسة أشياء نفقدها باستمرار، هى: «الهواتف، المفاتيح، النظارات، أقلام الحبر، والإكسسوارات»، وقدمت إرشادات عملية للحفاظ عليها.

القليل الذى يدوم

فى النهاية، لا يمكن اعتبار كتاب «فن تفويت الفرص.. كيف نشترى ما يدوم؟» مجرد دليل للتسوق الذكى أو إدارة النفقات، بل هو بمثابة دعوة صريحة إلى إعادة النظر فى أسلوب حياتنا كله. فالفوضى التى تملأ منازلنا ليست مجرد أشياء مكدّسة، بل انعكاس لفوضى داخلية، والديون التى نغرق فيها ليست سوى نتيجة طبيعية لاستهلاك غير واعٍ يُشبع لحظةً ويترك فراغًا بعدها.

تارا باتون تذكّرنا بأن السعادة لا تأتى من كثرة المقتنيات، بل من القليل الذى يدوم ويخدم أهدافنا الحقيقية. بتطبيق خطواتها وأسئلتها البسيطة قبل كل عملية شراء، يمكننا أن نستعيد السيطرة على نفقاتنا، نقلل من فوضانا، ونسهم فى تخفيف الأثر البيئى لاستهلاكنا. فتخيّل أن تفتح دولابك ولا ترى سوى ما تحب وترتدى فعلًا، أن تعيش فى بيت بلا كراكيب، وأن تشعر أن أموالك تُصرف فيما يستحق.