الأربعاء 03 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

قلب الماء.. فصل من رواية «إيراث» لـ أدهم العبودى

حرف

فى البدء، لم يكن سوى الماء، بحر لا شاطئ له، وأعماق لا قرار لها، الماء كان السر الأول، وكان الأزل، وكانت الأرواح الأولى تنبعث منه، ثم تعود إليه.

أرانى، بعدما غيبنى أبى بإرادته، كأنى أعيش فى منفى، ظلمته أبدية، والخروج منه عبث.

وقد ألقانى أبى، باتصاله السماوى، بقدراته العظيمة، وبغير إرادتى، ها هنا، على شط ليس فيه بشر غيرى، وليس يبدو عليه أنه استحسن حضورى، كأنى الغريب الذى يحتم عليه أن يخضع روحه لهذا البحر، وإلا كتب عليه الخصام.

«بحر الحكايا السائلة»، بحر يمتد بلا نهاية، مياهه ليست ماء، بل طاقة سائلة أسميتها حين امتد بى المقام: «السيرافا»، كانت جوهر الحكايات غير المكتملة، كل موجة تحمل صورة لحكاية تكتب الآن أو ستكتب يومًا ما.

وآمنت أنى إذا غصت فى هذا البحر لسوف أصبح جزءًا من إحدى تلك الحكايات، ولن يمكننى العودة إلا إذا أكملتها.

أما تلك الكائنات التى تسكن البحر فى سلام فأسميتها: «السباحين الأزليين»، وهى أرواح تشبه أشكال النجوم، تساعد التائهين أمثالى، أو تغرقهم فى أعماق الحكايات المفقودة.

وأرى أشكالًا وأشكالًا من طير غريب الهيئة، له أعين مستطيلة أكبر من جسمه، يقف فوق رأسى، ويحدق فى كأنه يستنكر- بدوره- وجودى ها هنا، هل يمكن أن أعود إلى تلك النقطة من حكايتى؟ النقطة التى قرر أبى فيها أن يبدل هيئاتنا ويفرقنا أخا عن أخيه! الذكريات فى رأسى تتفسخ كلما طافت مشاهد المعركة فى خيالى، وأنينى لفقدى إخوتى لا أحد ها هنا يمكن أن يشعر به أو يفهمه.

طال بى المقام فردانيًا بلا عزوة ولا رفقة، قلبى يمعن فى حسرته، عشرة جماعتنا القصيرة تعترك أحداثها فى فؤادى، من وقت كنا صغارًا لوقت صرنا رجالًا، فى فؤادى ندوب ليست تمحى، كيف تمحى؟ 

أشتاق لفلسفة أمى، وشدة أبى، وفيما يقبض على أنفاسى اشتياقى، يهيج البحر، كأنما حسير مثل حسرتى وأكثر، كأن به يواسى ذهنى المكابد، بلى أكابد فراقا جرى على كما تجرى الأقدار على عاص، ورغم الزمان الذى يسترسل على، لم أقو على كبح جماح الشوق بعد، فأنظر إلى البحر المهتاج، لا نظير للأمواج التى تصطدم فى أيها البحر إذا ظننت أن موجك عال وهياجك عارم، فاظلم، احتد واشتد، كل المهالك واردة وأنا ممن لا يسلمون للمهالك فى يسر، بل فلتهلك كما شئت، طالما لم ألتئم مع إخوتى بعد.

ورأيتهم جميعًا يتراقصون فى مجاهل ظلمة البحر كأشرعة نورانية، كأنهم أدلة لحيث مقام آخر غير هذا الذى أقسرت عليه، فأسبلت جفنى، وتسربت من تحت أهدابى دموع، وفى وهلة، كنت جاثيا هناك، على الرمل، أنهنه.

ليست إلا أمى، الحاضرة روحًا، رغم ذلك بإمكانى أن أترك نفسى لحضنها، فتتلقفنى، وتضبط معى إيقاع الحياة غير المتزن، دموعى تختلط بدموعها، ونتغطى بالذكريات القديمة ما بيننا، وأنتحب، أنتحب، وأسألها: لم تركتنا؟ فلا ترد، فقط تمسد جسمى بيدها وتفرك خصلات شعرى، ثم تغيب ثانية، كما تجسدت تغيب، ككل مرة تتجسد فيها.

لكنى- مع ذلك- استشعرت الرحيل، الفراق، قبلما يحدثان.

رأيت فى حلمى، قبل أن تكون الفوضى، كأن الماء ينادينى. 

«يا ابن الماء، لا مقام لك فى اليابسة، إنما أنت خلقنا ومنا وفينا، فارحل إلى حيث تنتمى، عد إلينا، البحر لك، وأنت له، والموج أمك، والأعماق تنتظرك».

يومذاك انتفض جسدى، واهتزت مياهه، وعلمت أن الرحيل قد آن أوانه، علمت أنى سوف أغادر أرض أبى وأمى، ولن ألتفت، فالماء لا يرتد إلى الوراء، لكن إخوتى!

الآن أسير، أسير رغبة أبى، أيها البحر العظيم، ترى إلى أى زمن يمكن أن أبقى أسيرًا لديك! أنت هادى فى الصباح، وفى الليل يستبد بك الخبل، كأن الحكايات التى تعتلج فى أحشائك لا تبعث إلا ليلًا، كل الأفكار تلتهج على شطك، أرشدنى إذا إلى إخوتى طالما أنك سيد الحكايات.

أقمت على الشط كوخًا يشبه كوخًا قديمًا لم تزل صورته فى خيالى، أقمت كوخًا من الصدف النافق إلى حيث مقدمة الشط، وعبرت الزمن فالزمن، وحيدًا بلا صحبة ولا هداية، قالت أمى لدى خصائص سوف أعرفها مع الوقت، أين تلك الخصائص يا أمى؟ لم لم أبلغ شيئا منها بعد؟

وفى ليلة موحشة، رأيت البحر ينتفض كأنه حى، ورأيت الأمواج تتسامق كأنها كائن يتشكل، وكان هناك صوت، صوت لم يكن من الماء ولا من الشط، بل من شىء أعمق، شىء أقدم، لعله منى!

بدت الأمواج تنازع البقاء، وبدا لا جدوى من المنازعة، أينتحب الموج! أيستصرخنى! لا أعرف! لكن أصواتًا تصفر فى أذنى، كأن بها تئن أنينًا صافيًا مستخلصًا من عذابات الأرواح التائهة التى غرر بها البحر فأهدرها.

الأمواج تتصاعد من حولى، تتقاذف فى الهواء، ومع الرياح، تضربنى، تحلق كأن لها أجنحة، تخفق كأنها صوت هطول المطر على أرض جدبت.

أدركت أنى لم أعد وحيدًا، كما أدركت أن البحر لم يكن بلا أعداء، فهناك، فى الأعماق السحيقة، ثمة كائنات لم يصفها لسان، بل لم ترها عين بشر، كأنها كانت أرواحًا شريدة من الأساطير.

أشباح تسكن ظلمة الماء، تغار من النور، وتكره المد، وتعيش حيث لا ضوء يصل، ولا حياة تنبض.

أسميتها: «الكظماء»، ذلك بعد أن أخبرنى البحر- فيما بعد- حكايتها، وبعد أن اطمأن لى وصاحبنى غير مكره، تحدث إلى وتفهامنا، وصرت كأنى جزء منه، أشرب من مائه المالح، ولا أعود فى حاجة لطعام، بل وأنجبت له حفيدًا من ابنته الأمواج وأسميته: «بحرًا»، نسبة إليه، إلى جده.

«الكظماء» كانت مخلوقات بلا وجوه، بلا أجساد، بل ظلالا تلتهم النور، وتبخر المياه الحية، وتسجن الأمواج فى دوامات أبدية. 

وقد كانت «الكظماء» تلك، الكائنات الأولى، وكانت أولا أعجوبة الخليقة، إذ كانت نصفها ماء ونصفها رمل، ففى يوم العهد الأول، وعندما تعانقت السماء والمياه، ولدت، من عتمة البحر ولدت، كأطياف لم يكن لها شكل ولا اسم. 

لكنها عرفت بشىء واحد: كرهها للمد، وحقدها على الحياة التى تجرى فى الماء، وكانت أول الكائنات التى تركت البحر وسارت على الأرض، فلما تمردت، وراحت تضرب فى الأرض الفساد، سجنها البحر فى أعماقه باتفاق مع الآلهة.

وفيما رأيت البحر ينتفض كأنه حى، علمت أنى سأحمل إرث الماء، هاتفنى حدس بذلك، إذ شعرت بأن البحر فى حاجة إلى، إلى قواى التى لم تختبر بعد.

لم يكن هناك يوم يشبه ذلك اليوم، حيث تناهى إلى نداء البحر، بدا يستجدينى عونًا، فوجدت جسدى يسيل إذ تحركت فى الرغبة لجس ما هو مجهول، وبدأ جلدى يتحرشف، ويداى امتدتا حتى صارتا شاطئين التحما بشاطئ البحر.

تصادمت قواى مع ذلك الكيان الذى راح يزحف من شقوق البحر لأعلى، خارجًا من الأعماق السحيقة، آلاف الأرواح السوداء، لا ملامح لها إلا الجوع، إلا الحقد، بدت تريد أسر المد، وسحب البحر إلى جحيمها وابتلاع الموج، فلما صرخت صرخة هزت غيوم السماء، ونثرت الرمل بذراعى على مدى الشط، هاج البحر كما لم يهج من قبل، استثرته، فارتفعت أمواجه حتى غطت السماء، وانشقت الأعماق، ودار الشط برماله. 

كانت تلك معركة لم يعرفها البحر من قبل، وأخذت الأعماق تمور، والليل يختلط بالملح، وانفتحت دوامة، صنعتها «الكظماء» لتشفطنى، لكنى قاومت، مقاومة عاتية، وصحت فى صرخة مدوية وأنا أسحب كل رمال الشاطئ إلى يدي: 

- أنا البحر، ابن روح الماء، لن أسجن فى الدوامة.

وطوحت الرمال نحو «الكظماء»، وفيما كانت الرمال تتدفق بداخل كيان «الكظماء» ظلت تضوى، كأنها هوام من ضوء النجوم، فغطست «الكظماء» ثانية من حيث جاءت، ثم كان الصمت، لم يعد لها أثر.

وبعد انتهاء المعركة سلم لى البحر نفسه، آمن لى، وظل يوشوش ويهمس ويسرد لى حكاياته حكاية بعد حكاية، وعرفنى إلى الكائنات التى تحتمى به. 

عندما انتهت المعركة، عندما هزمت «الكظماء»، عاد البحر ملكًا على مملكته، لكن لم يكن هناك فرح فى داخلى، رغم انتصارى واستئناسى المفاجئ، بل كان هناك صمت عظيم، صمت لعل المياه لم تعرفه من قبل، صمت يشبه الفقد حين يكون فقد الموت، هذا الفقد الأبدى.

أقف أنظر إلى البحر وعيناى تخبرانه بوجيعتى.

ولما أحس بوحدتى، أرشدنى قائلًا:

- سر إلى حيث يتعانق معى الأفق، إلى حيث يكون المد بلا جزر، وإلى حيث لا تعرف الحدود، لعلك تجد راحتك، وثق أنى قد جهزت لك هناك عطية كبرى، قد تعوضك قليلًا. 

فسرت حتى بلغت أقاصى الماء العظيم وتخوم البحر العتيقة، هنالك وجدت الجبال تنتصب كالحرس الصامت، كأنها تحرس عالم اليابسة من زحف البحر الثائر يتقلب بدون موعد، بدت جبالًا كأن لم يصعدها أحد، ولم يعرفها بشر. 

حين اقتربت منها، شعرت بأن الصخور تنبض، كأنها تعرفنى، كأنها تتحدث معى بصمت عظيم، لامست الصخور، فاهتزت الجبال، كأنها تحيى ابنًا غريبًا عاد من منفاه.

همست لى الجبال:

- أنت روح الماء، الذى لا يحجزه غم ولا يكسره اشتياق، ترى هل يكفى البحر وحده للتسرية! اقترب، أنت تحتاج إلى رفقة.

فاقتربت، وهناك، على حواف الموج المتكسر، رأيتها، وتعرفت إليها، لم تكن موجة ضالة، ولم تكن مجرد واحدة من بنات البحر الصغيرات، المتدللات اللاهيات، بل لم تكن ماء مجردًا، كانت روحا ناطقة، هادرة، تتشكل بما يشاء الحب والغضب. 

أدركت معنى أن يقول لى البحر جهزت لك عطية كبرى، إنها صغرى بناته، التى وقعت فى غرامها من فورى، والتى، أسميتها على أقرب الأسماء لقلبى: «أولًا».

عشت أتلاطم معها دهورًا لا تحصى، أهمس لها فتعصف، أغضب فتثور، أرق فترتاح على شواطئى، أحببتها ليس كحب البشر، بل كان عشقنا اتحادًا، ذوبانًا، اندماجًا فى السر الأزلى، ظللنا نجيش معًا، تتلاقى مشاعرنا على الرمل، تحت الصخور، على حواف الجبل، ثم لما اكتمل اندماجنا، حيث لا فاصل بين الماء والموج، ولا بين الجسد والروح، أنجبنا «بحرًا».

كان كائنًا يحمل هيبة جده «إيراث»، وحكمة جده البحر، كائنًا لا يكسر، ولا يحبس، ولا يخمد، كان خليطًا بين الغضب والهدوء، بين الصمت والهدير، بين الماء والريح.

فرحتى به لا يمكن أن توصف، كلما حملته بين يدى قلت لنفسى: أنت الذى بعثنى من جديد. 

أراه يسامر أمه على الشط مبتسمًا، مفترشًا حواف الموج، فيختلج به قلبى، وأشاهد عوضى عن فقدى فى ملامحه، لكنى، وكلما بدا لى جماله، خفت عليه، من مكر كائنات البحر، من حسدها، فلا أنام، أبقى أراقبه، وفى الليل أضمه لصدرى، أدردش معه، مع أمه، مع الريح، مع «السيرافا» و«السباحيين الأزليين»، وفى الشمس، نلجأ معًا للدفء، أقول لـ«أولًا»:

- أرأيت كم هو جميل «بحر»؟!

فتنظر إلى أبيها، مهمهمة بدلال:

- «بحر» ابنى، لا أنت أيها العجوز!

فيسحبهما جده بحر إلى حيث أعماقه، يغيظها، فيتقافز «بحر» على جسم أمه، ملوحًا لى، وكنت أخشى عليه، لا أريده أن يصحبه جده، حيث الشطوط المترامية البعيدة، ماذا لو اختفى أعوامًا! أجن من بعده.

وإذ كبر «بحر» واشتد، علمت أنه حتمًا سيواجه الخطر، كائنات الظل، «الكظماء»، كانت تستدعيه، وكان يبحث عنها، لم يستجب لنصحى، الأدهى لم يعد يرانى، بل صار يتجاهلنى، لا يفهم أنه لن يكون له نجاة ما لم يلذ بى، لا أعرف ما الذى دفعه للاستعصاء على! أهو جده! أمه! أم طبيعته الثائرة! لا أعرف!

كنت أنظر إليه، وأرى فيه سيدًا لا ابنًا، قاهرًا لا محبًا، أنظر إليه وقد صار مفردًا، فأعلم أن دورى قد انتهى عند تلك المرحلة، على أية حال هو ابن الماء فى النهاية، والماء لا يستقر، إنه هائم حتى الأبد.

صار «بحر» كائنًا مستقلًا، كائنًا كأن لا أب له ولا أم، ولا ماض، بل كيانًا أزليًا لا يحتاج إلا إلى ذاته.

لا أعرف.

كل الذى أعرفه أنه انطلق إلى الأبدية، عاد إلى تخوم البحر يتبع مصائره. 

سار، ثم انحل فى البحر، فلم يعرف له موت، ولم يعرف له قبر، ولم ير له أثر، سوى فى كل موجة تحمل صدى اسمه، مع أنه ظل يسمع، فى كل همسة موج، فى كل مد يقترب من الشاطئ، فى كل ليلة يهمس فيها البحر للجبال: «أنا روح الماء، روح الماء لا يموت».

تلاشى «بحر» تمامًا كما يتلاشى السراب فى الأفق، لم يكن موتًا، لأن الماء لا يموت، لكنه كان ذوبانًا فى المجهول، سيبانًا فى الزمن، عودة إلى أول الخليقة، إلى اللا وجود.

قبل أن يختفى، قال لأمه: 

- ابكينى إذا شئت، أو انسينى، لكن لا تتوقفى عن الحركة، لأنك إذا سكنت، سيبتلعك العدم.

ثم اختفى.

ولم يقل لى شيئًا، لم يلتفت نحوى، أردت أن ألمسه، لكن الأمواج انحسرت به، أردت أن أناديه، لكن الصدى تلاشى، عندها، فهمت الحقيقة، لقد فقدت ابنى، فقدته ليس لأنه مات، بل لأنه لم يعد بحاجة إلى.

وانتحبت عليه أمه كثيرًا من بعد انحلاله فى البحر، أمه التى أحبته، واحتضنته، وأنجبته، قد صارت بعده موجًا بلا روح، بلا عشق، بلا همسات، راحت تتحطم على الشواطئ بغضب، وكأنها تصرخ، وكأنها تبحث عنه فى الأعماق التى لم يعد يسكنها إلا الفراغ، صارت أكثر حزنًا، أكثر شراسة، أكثر وحدة.

ثم أصبحت أمواج الليل أكثر عتمة، وأمواج النهار أكثر اضطرابًا، المد يعلو فجأة ولا يكتمل، الجزر ينسحب ببطء كأنه يرفض الرحيل. 

بدا كل شىء ناقصًا من بعده، قالت «أولًا» فى ليلة حزينة:

- تركنا، فماذا سنكون بعده؟

لم أجب، لم أكن أملك إجابة.

وفى الليالى التى يكون فيها القمر غائبًا، وفى العواصف التى تهز الأبحر، كان هناك من يقول إن البحر ينوح، يئن، يهمس باسم حفيده الذى لم يعد موجودًا:

- «بحر».. «بحر».. أين أنت؟

لكن، ما من أحد يجيبه.