الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

تنفس المدينة المدوى

حرف

فى قلب القاهرة، كلُّ نفسٍ يبدو كأنّه استنشاقٌ وانفِجارٌ فى آنٍ واحد. الصفير، آلة التنبيه، الموسيقى الصاخبة، مكبرات الصوت المنتشرة فى الباصات والميكروباصات، والتكاتك، يُشكلون ما يشبه «آلة تنبيه» لا تنطفئ— كجهاز إنذار دائم فى شرايين المدينة.

كل وسيلة نقل تبدو وكأنها خصّها «حفل» موسيقى: من أغانى المهرجانات الشعبية العالية، إلى دقات الإيقاع التى تُذَكّر بأنّ الشارع ليس مكانًا للهدوء بل لمنافسة الصوت.

هذه الفوضى الصوتية ليست مجرد خلفية للمدينة، بل جزء من نبضها، جزء من تنفسها، ومثلما يُعدُّ التنفس علامة على الحياة، فإنّ «آلة التنبيه» هذه تؤشّر إلى حياة مزدحمة، غير قابلة للسكوت. لكن، كما سنرى، فإنّ ثمن هذا الصوت باهظ.

الصورة الحسية للصخب: مسرح الشارع

تصور شارعًا فى القاهرة عند ساعة الذروة:

* الميكروباصات تقفّ، السائقون ينادون: «رمسيس..». وفى نفس اللحظة، مكبّر صوت يعزف مهرجانًا، النغمة ترتفع حتى تشق الهواء.

* السيارة الخاصة، آلة التنبيه ترنّ بلا توقف، ليس فقط اعتراضًا أو انزعاجًا، بل كجزء من «لغة الشارع» التى تتطلب أن تُسمع.

* البائع المتجوّل، النداء بصوت عالٍ، الموسيقى فى المحلّ التجارى المفتوح إلى الشارع تكمّل المشهد— كل شىء يصرّخ ليكون موجودًا، مسموعًا.

* فى وسائل النقل الجماعى، أغانٍ صاخبة تُشغّل بلا اهتمام لمن لا يريدها. ويتبدّل الراكب بين أن يكون مستمعًا أو ضحية للصوت.

هكذا، يجرى يوميًّا فى القاهرة «مهرجان الصوت» من الساعة الأولى حتى الأخيرة. ولعلّ أجمل وصفٍ تحويلى للواقع أنّه «التنفس الصوتى» للمدينة: الشهيق يرهق، الزفير ينفجر، والمدينة لا تعرف أن تغلق جهاز الإنذار.

لماذا الصخب بهذا القدر؟

يمكن رصد عدّة عوامل تُجمع لتنتج هذا الصخب المتصاعد:

* النقل العام والخاص غير المنظّم كليًا: وسائل المواصلات، خصوصًا الميكروباصات والتوكتوك، تستخدم مكبّرات صوت لتجذب الركاب، أو للسائق ليعلن عن نفسه. ومع الزحام الشديد وانتشار السيارات القديمة، يرتفع مستوى الضوضاء. الدراسات أظهرت تجاوز مستويات الضوضاء فى عدة مواقع بمحاور القاهرة ما يُعدّ معيارًا صحيًا مقبولًا. 

* ثقافة الموسيقى الصاخبة، مكبّرات الصوت: فى الشارع المصرى، يُنظر إلى الصوت العالى على أنه دليل وجود، حضور، وربّما سيطرة. يعزّز أيضًا شعور «أنا هنا». الموسيقى المهرجانية وأغانٍ شعبية تُشغَّل بلا اعتبار لخصوصيات المكان أو الزمان.

* البُنى العمرانية والزراعية التى لا تُراعى الاستشفاء السمعى: الشوارع ضيقة، الأبنية عالية، الشرفات متجاورة، والزوارق الصوتية تنتقل بسهولة من مكان لآخر. أيضًا، لا توجد فواصل كافية بين مناطق الحياة اليومية ومناطق الإنتاج أو النقل المكثّف.

* غياب الرقابة أو التفعيل الكافى للقانون: هناك قوانين تحدد حدود الضوضاء، لكن التنفيذ ضعيف أو متقطع. 

آثاره على الإنسان: ما بين الأذى المباشر والضرر المزمن

الصخب ليس مجرد إزعاج، بل صنف من التلوث— تلوث سمعى، نفسى، وصحى. بعض من آثاره:

* فقدان السمع، أو تدهوره: فى مقاطِع متكرّرة من الضوضاء الشديدة، تتعرض الأذن الداخلية لأذى دائم. على سبيل المثال، قياسات فى وحدات المترو فى القاهرة أظهرت مستوى ضوضاء يصل إلى نحو ٩١.٢ د B»A»— وهو مستوى غير مقبول بمقاييس الحماية السمعية. 

* الخطر القلبى والضغط النفسى: وفق دراسات، التعرض المستمر للضوضاء يؤدى إلى رفع مستوى هرمونات التوتر، تضييق الأوعية الدموية، واضطراب فى انتظام القلب. 

* اضطرابات النوم والتركيز: عندما لا يهدأ الصوت حتى الليل، ينقطع النوم، وتتراجع الجودة، ويُصاب الأشخاص بانخفاض التركيز، تراجع الأداء، وحتى الاكتئاب. مثلًا، عدد من المناطق فى القاهرة تسجّل أصواتًا تفوق ٧٠-٩٠ د B صباحًا. 

* تأثيرات على الأطفال والتعليم: الضوضاء العالية قرب المدارس تؤثّر على قدرة الاستماع، التركيز، والتعلّم لدى الأطفال. 

* الجانب الاجتماعى-النفسى: الإحساس بعدم السيطرة، الغضب المستمر، الاضطراب، يمكن أن يؤدى إلى مزيد من العنف أو الانسحاب.

الصوت كمتجر: مكان لبيع الذات أو التثبيت؟

فى القاهرة، الصخب ليس فقط بيئة تُفرض على المستمع، بل كذلك سوق. الصوت يُستخدم كأداة لجذب الانتباه، للإعلان، حتى لإظهار الهوية: سائق الميكروباص يرفع الميكروفون ويُعلن: «يا القاهرة/ طنطا..». الموسيقى تنتشر فى الشارع كأنّها إعلان حىّ عن الحياة الحافلة.

لكن هذا «المتجر الصوتى» يحمل ثمنه: هو أرباح اللحظة— لكن خسائر الصحة، التركيز، السكينة تبدأ بالظهور لاحقًا. يمكن أن نرى الصوت العالى كسلعة رخيصة تُباع بلا رقيب، ويشتريها الجميع بلا وعى بتأثيراتها. فهل يمكن إعادة تقييم هذه السلعة؟

ما الذى يمكن فعله؟ مقاربات للتخفيف

التصدى للصخب فى القاهرة ليس أمرًا مستقلًا عن التصدى لتخطيط المدينة، للنقل العام، للثقافة الحضرية. هنا بعض المقترحات:

* تحسين وسائل النقل وإدارة الصوت فيها: يجب أن تتبنّى وسائل النقل العامة مقاييس للضوضاء داخل العربة «مثل مترو القاهرة». إذا كانت مستويات الصوت فى المترو تصل إلى ما يقارب ٩٠ د B، فهذا يعنى الحاجة لتدخّل تقنى.

* تطبيق حدود الضوضاء فى الشوارع: تحديد قوانين واضحة لمستوى الضوضاء فى ساعات النهار والليل، مع تكثيف الرقابة— على مكبّرات الصوت فى الشوارع، أغانى السيارات، آلات التنبيه غير الضرورية.

* تثقيف الجمهور حول أثر الضوضاء: نشر الوعى بأن الصوت العالى ليس «علامة طبيعية» للحياة بالضرورة، بل يمكن أن يكون عدوًا. إدخال تعليم فى المدارس حول الصحة السمعية، وتشجيع المجتمعات للحفاظ على هدوء الشارع المحلى.

* تصميم حضرى يُراعى الهدوء: إنشاء مناطق سكنية وعزلها نسبيًا عن محاور النقل المكثّف، تشجير الشوارع، إنشاء «حواجز صوتية» طبيعية أو صناعية— مثل الأشجار، الشجيرات، أو جدران صوتية.

* ثقافة مجتمعية جديدة للصوت: ربما نحتاج إلى إعادة صياغة «الشهرة الصوتية» فى الشارع: أن يكون السائق والمارة قادرين على أن يُسمعوا بلا أن يصرخوا، أن يعلنوا عن وجودهم بلا صخب، أن يغنّوا بلا أن يزعجوا غيرهم.

الموسيقى أو الصمت؟

فى النهاية، لا يدور الأمر عن رفض الصوت أو الموسيقى فى المدينة— فالحياة تحتاج إلى موسيقى، إلى حركة، إلى نبض. لكن السؤال يبدأ بأن نُميّز بين «أن يسمعنا الآخرون» و«أن نسمع الآخرين بلا أن نبترهم بالصوت».

القاهرة، بهذه اللحظة، تنبض بصخبٍ كبير لدرجة أن «آلة التنبيه» لا تهدأ، وقد أصبح الصوت وسيلة للبقاء فى الحلبة الحضرية. لكن ماذا لو اخترنا أن نحتفظ بهذه الآلة ولكن نخفض شدة إطلاقها؟ ماذا لو اعتبرنا أن التنفس الصوتى للمدينة لا يجب أن يكون صفّارة إنذار بلا توقف، بل إيقاعًا متوازنًا يمكن أن يعيش فيه الجميع، من سائق الميكروباص إلى الطفل الذى يحاول النوم؟

إنّ إعادة التفكير فى الصخب علاقةٌ بعلاقة الإنسان بالمدينة، وبالوقت، وبالآخرين، وبأنّ المدينة ليست مجرد حلبة صوتية بل فضاء للمعيشة، الراحة، والإنسانية.