الجمعة 18 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

«ما يوقظ الرماد».. قصص قصيرة تنبش الذاكرة وتصطاد دهشة العادى

ما يوقظ الرماد
ما يوقظ الرماد

فى مجموعتها القصصية «ما يوقظ الرماد»، الصادرة عن دار العين للنشر، تخوض الكاتبة ليلى القبّانى تجربة سردية جريئة، تلامس عبرها تفاصيل الحياة اليومية بتقنيات قصصية حديثة، وتفتح نوافذ متعددة على العالم الداخلى للذات، وعلى الغرابة الكامنة خلف الوجوه المألوفة بين القص والبوح: لغة تنحت الدهشة من التفاصيل.

ليلى القبّانى

ليلى القبّانى لا تقدّم قصصًا بالمعنى التقليدى الذى يعتمد على بداية وذروة ونهاية، بل تكتب نصوصًا قصيرة جدًا، تعتمد على ومضات سردية تنفجر فى نهايتها بوعى مفاجئ أو مفارقة مشحونة بالدلالة. هى قصص تقول ما بين السطور، وتُبقى أثرها بعد القراءة، كأنها تهمس بشىء لم يُكتب بعد.

اللغة فى هذه المجموعة تتراوح بين البساطة المُخاتلة والكثافة الرمزية. الجملة القصيرة، أحيانًا الناقصة عمدًا، تخلق فراغًا داخليًا يجعل القارئ شريكًا فى توليد المعنى. إنها لغة تقتصد، لكنها لا تبخل.

على مستوى التركيب، تتنقّل القصص فى فضاءات متعددة: من بيت صغير يعجّ بالصمت، إلى مشهد داخلى فى حافلة، إلى حوار مع ظلّ قديم. الشخصيات ليست مكتملة المعالم، لكنها واضحة الحسّ والظل. إنهم ناس عاديون يسكنهم قلق غير عادى. لا تصفهم «القبّانى» بقدر ما تكشفهم، فى لحظة انكسار، أو ومضة حنين، أو سؤال لم يُطرح.

تعتمد بعض النصوص على كسر أفق التوقع، لا لتصدم، بل لتفتح احتمالات جديدة للتأويل. وهذا ما يضفى على المجموعة روحًا من الواقعية السحرية اليومية: حيث ما هو مألوف، يتشظى فجأة ليكشف عن بعدٍ غريب وموجع.

العنوان نفسه- «ما يوقظ الرماد»- ليس مجرد استعارة شعرية، بل مفتاح تأويلى لكل النصوص. فكل قصة تنبش فى رمادٍ ما: رماد العائلة، أو الحب، أو الوطن، أو حتى الذات. لكن هذا النبش لا يسعى إلى بعث ماضٍ مثالى، بل إلى مواجهة ما تم نسيانه عمدًا، أو إسقاطه فى اللا وعى الجماعى والفردى.

فى كثير من النصوص، تشعر أن الزمن متوقف، كأن الشخوص تسكن لحظة واحدة ممتدة، تبحث عن يقظة أو خلاص. وربما كانت الكتابة- فى ذاتها- هى ما يوقظ الرماد.

️تتقاطع هذه النصوص مع الشعر النثرى فى لغتها المكثفة، وحساسيتها العالية، وميلها إلى التلميح بدل التصريح. لكنّها لا تتخلّى عن جوهر القص: حدث، لحظة، موقف، أو انفعال. هذا التوازن بين الشعرى والسردى هو ما يجعل المجموعة مميزة، بل صوتًا واعدًا فى عالم القصة القصيرة العربية.

«ما يوقظ الرماد» ليست مجموعة تسعى لإثبات المهارة، بل للبحث عن صوت خاص.

هى تجربة أولى، لكنها محمّلة بالنضج، والوعى بالتفاصيل، والشغف باللغة.

قصصها تشبه المرايا الصغيرة التى نرى فيها وجوهنا متغيرة، باهتة أحيانًا، متألقة بالدهشة أحيانًا أخرى.

هى ليست قصصًا تحكى ما حدث، بل تذكّرنا بما كنّا ننساه عمدًا.