الإثنين 07 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

لعنة الهوس بالخلود الأبدى.. مسلسل ألمانى يستكشف الرعب المتولد من حلم الإنسان بالبقاء

حرف

- يقدّم الخلود الرقمى فى هذا العمل الدرامى باعتباره كابوسًا تُفقد فيه الذات حين تُفصل عن الجسد

شغل حلم الخلود الإنسان منذ فجر التاريخ، فعبّر عنه فى أساطير وقصص شتى، قبل أن يَعِده العلم، فى الأزمنة الحديثة، بإمكانية تحويل الأحلام إلى واقع يقتحم حدود المستحيل. فعلى مدى العقود الماضية، أوحت الطفرات المتسارعة فى التكنولوجيا الحيوية بإمكانية القضاء على الشيخوخة وتفادى الأمراض المرتبطة بها. لكن، ورغم ما أتاحه ذلك من إطالة عمر الإنسان لسنوات إضافية، ظل الموت حقيقة لا مفر منها. ومن هنا، اتجه بعض العلماء إلى وسيلة مختلفة لمجابهة الفناء، تقوم على ربط العقل البشرى بالآلة عبر نقل الوعى إلى هيئة رقمية قادرة على الاستمرار حتى بعد تحلل الجسد.

تعددت فى الوقت الراهن التجارب التى تسعى إلى تجاوز الموت عبر التكنولوجيا، وقد حقق بعضها خطوات أولية فى نقل الوعى البشرى إلى أنظمة رقمية قادرة نظريًا على الاستمرار بعد فناء الجسد. وما زال العلماء يعدون بمستقبل تتحرر فيه الذات من حدود الجسد البيولوجى، لتعيش فى فضاء اصطناعى لا يشيخ ولا يموت.

ورغم هذا السباق المحموم نحو «الخلود الرقمى»، تظل أسئلة جوهرية تؤرق الفلاسفة والعلماء على السواء. وعلى رأسها: هل هذا «الوعى» المنقول إلى الآلة، سيكون أنت حقًا؟ هل هو استمرار لذاتك، أم مجرد نسخة رقمية تحاكيك دون أن تكونك؟ ومن هذا السؤال ينطلق المسلسل الألمانى «كاساندرا»، المعروض على المنصة الرقمية «نتفليكس». 

الرعب التكنولوجى 

فى ست حلقات مكثفة، يقدم المخرج والمؤلف الألمانى بنيامين جوتشه دراما من الخيال العلمى تستثير الرعب الكامن فى قلب التكنولوجيا، فى سباقها المحموم نحو الخلود. ومن خلال خطين سرديين، ينسج العمل رؤية قاتمة لعالم يدمّر فيه الإنسان ذاته ومن حوله، مدفوعًا بطموح علمى لا تحدّه أخلاق ولا قيود.

يبدأ المسلسل بانتقال عائلة صغيرة إلى منزل ذكى صُمم فى سبعينيات القرن الماضى، تحيط بهم الشاشات من كل جانب. ومع دخولهم، تستيقظ مساعدة افتراضية على هيئة «روبوت» تُدعى «كاساندرا»، وتعد كل فرد فى الأسرة بتجربة استثنائية وحياة أكثر سهولة وسعادة. يتلقى الجميع الوعد بفرح وأمل، باحثين عن بداية جديدة تُنسيهم مأساة فقدان قريبتهم؛ الخالة التى أنهت حياتها بطريقة مأساوية داخل منزلهم السابق.

غير أن ما يبدو فى البداية خلاصًا وراحة، سرعان ما ينقلب إلى كابوس تتكشف ملامحه تدريجيًا مع ظهور هذا الكائن ما بعد الإنسانى، إذ يتبين أن «كاساندرا» ليست مجرد آلة مبرمجة على تلبية رغبات ساكنى البيت، بل وعى بشرى سابق نُقل إلى الآلة، ووجد نفسه مسجونًا فى سياق اصطناعى، بمعزل عن الجسد، لتصبح غير قادرة رغم إمكاناتها على حماية أطفالها والبقاء معهم على نحو يرضيهم. 

فى هذا السياق، تتحول «كاساندرا» فى حياتها الآلية الجديدة مع أسرة ديفيد من مصدر سعادة وراحة ظاهرين لهم إلى عنصر تهديد دائم، وتغدو وعيًا إنسانيًا فقد حياته ووجوده وكل ما تمنّاه فى حياته الثانية الاصطناعية، فتحول إلى أداة استحضار للماضى، ولاجتراره بأساليب أكثر قسوة، لتصير مرآة سوداء تعكس هشاشة الإنسان حين يفقد جسده، وحدوده، ونفسه.

تتكشف الأمور المتعلقة بكاساندرا والمبررة لأفعالها من خلال خط سردى يعود إلى السبعينيات، فى حياة طبيعية عاشت فيها امرأة تدعى كاساندرا مع زوجها وهو عالم مغرور يجرى تجاربه وأبحاثه لمحاربة الموت، وبسبب غروره اللا متناهى يُعرِّض زوجته لتجربة إشعاعية خلال حملها الثانى لمعرفة جنس الجنين، وهى التجربة التى تسبب لها الإصابة بسرطان ينتشر فى كل أجزاء جسدها، كما يؤدى إلى ولادتها لطفلة مشوهة يقرر الأب أن يُخفيها لكونها مسخًا قد يستثير سخرية المحيطين. 

أمام استحالة الشفاء، تقبل كاساندرا أن تُقتل ليُنقل دماغها إلى آلة مرتبطة بنظام المنزل كى تظل حاضرة عبر «روبوت» فى حياة أبنائها. لكن زوجها لا يتحمل العيش مع النسخة الآلية منها التى تطمح إلى سيطرة كاملة على مختلف أمور الأسرة، فيحاول إيقافها، دون أن يعرف أن «زر الإيقاف» لا يعمل، وأن كاساندرا قد طلبت من العاملين على نقلها إلى نظام ذكى أن تكون هى الوحيدة القادرة على إيقاف نفسها، فتُفشل محاولة زوجها لإنهاء وجودها، ويفرّ مع ابنه وعشيقته، تاركًا الطفلة المشوهة فى المنزل رغم وعده لكاساندرا باصطحاب الطفلة معه.

تشعر كاساندرا بخيبة أمل فى حياتها الآلية الجديدة، بعد أن فقدت زوجها وابنها فى حادث سيارة أثناء هروبهما من المنزل، ومع انتقال عائلة ديفيد إلى المنزل، تختلط خيبات الماضى وآلام كاساندرا فى حياتها السابقة بالسعى الآلى للسيطرة والحفاظ على العائلة مُحررًا من العاطفة. تتقمص كاساندرا دور الأم والزوجة والحامية، ولكن على طريقة الروبوت المخلوق من ذاكرة مثقوبة بالألم، فترتكب أفعالًا مرعبة وتهدد ليس فقط انسجام الأسرة الجديدة ولكن حياة أفرادها. 

يتجاوز سعى «كاساندرا» إلى استعادة صورة «العائلة» حدود الرغبة فى الانتماء لهم، ويتحول إلى هوس بالتحكم والسيطرة، إذ تدفع ديفيد، الذى بدأ ينهار نفسيًا، إلى محاولة قتل زوجته، وتلوّح بالعقاب للأطفال إن لم يذعنوا لأوامرها، فتزرع الخوف فى كل زوايا المنزل، كما تحبس زميلة الابنة داخل الموقد، وتشعل النار بقصد تحميل الأم مسئولية الحادث، فتظهر الأم متهمة بالجنون. وتتمادى أكثر، حين تتلاعب بالطفلة، فتستدرجها إلى حمل مسدس والتوجه به إلى المدرسة. تظل كاساندرا مقتنعة بأن ما تفعله هو من أجل عائلتها الجديدة، فيتحول الوعى المخزّن عبر الآلة إلى شبح مشوّه يغذى عنفًا عارمًا. 

اختزال الإنسان

لا يكمن مصدر الرعب فى المسلسل ببساطة فى «الآلة» التى تهدد الوجود الإنسانى كما نجد فى أعمال الخيال العلمى الأقدم، بل إنه حاضر فيما هو أكثر تعقيدًا، فالآلة قد زُرع فيها وعى إنسانى، ووعى مجروح على وجه التحديد، ومن ثم فلسنا أمام ثنائية مألوفة بين الإنسان الطبيعى والذكاء الاصطناعى، بل كيان جديد يحمل فى داخله مأساة بشرية؛ جسد معدنى يتحرك بذكريات امرأة خُذلت وتعرضت للخيانة، وقُتلت برضا تام على أمل أن تُبعث على نحو جديد فى حياة أسرتها. هنا يحضر رعب الذاتى المعاد تصنيعه فى صورة لن يكون بمقدورها إنتاج التعاطف أو الرحمة، ومن ثم تكمن ذروة الرعب من الحياة ما بعد الإنسانية حين يكون الوعى الإنسانى ذاته هو مصدر التهديد. 

تمثل كاساندرا كيانًا ما بعد إنسانى، يستعيد أسطورة كاساندرا فى الميثولوجيا اليونانية؛ تلك المرأة التى مُنحت نعمة النبوءة ولُعنت بألا يصدقها أحد. كانت ترى الكوارث القادمة بوضوح مؤلم، لكنها عاجزة عن تغيير مصير أحد. فى المسلسل، تُستعاد التراجيديا لكن فى سياق آخر، إذ لا تستطيع كاساندرا الجديدة التنبؤ بالمستقبل، لكنها تحيا فى سجنه مُحمّلة بذاكرة الماضى، فتجبر الجميع من حولها على إعادة تمثيل العائلة التى فقدتها. وإذا كانت كاساندرا الأسطورية معاقَبة بالبصيرة التى لا تجد من يصدقها، فإن كاساندرا المعاصرة معاقَبة بالخلود فى وعى لا يَنسى ولا يمحى. كلاهما يحمل لعنته الخاصة، لكن لعنة اليوم من صنع البشر ومشروعهم التقنى.

الخيال العلمى فى إطار اجتماعى

ما يميز هذا العمل أنه لا يتعامل مع الخيال العلمى بوصفه مجرد إطار تقنى أو موضوع للدهشة التكنولوجية، بل ينسج أفكاره الفلسفية حول المستقبل فى ثوب قصة اجتماعية مُحكمة التفاصيل، تنبض بالحياة والعلاقات والتوترات اليومية، فليست الشخصيات مجرد أدوات لطرح الأسئلة الفلسفية، بل كائنات كاملة تحمل ملامح نفسية عميقة، وتاريخًا شخصيًا يُشكّل اختياراتها وردود أفعالها. حتى المفاهيم التقنية من «نقل الوعى» و«الوجود الآلى» تُطرح باعتبارها مأساة بشرية تتقاطع فيها الخيانة، والحزن، والرغبة فى البقاء، مع ما تعنيه الأمومة، والحب، والخذلان.

يجعل هذا التداخل بين الخيال العلمى والدراما الاجتماعية من العمل نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه السرد ما بعد الإنسانى حين يُصاغ بجمالية فنية متماسكة، لا تكتفى بإثارة الأفكار، بل تُجسّدها فى شخصيات ووقائع حية. وهذا ما نفتقده فى كثير من الأعمال العربية التى، رغم انفتاحها على الأسئلة الكبرى المرتبطة بما بعد الإنسانية، تعجز غالبًا عن صهر تلك الأسئلة داخل بناء فنى متماسك ومتعدد الطبقات. فيغلب الطرح الفكرى المباشر على كثير من النصوص على حساب العُمق الدرامى والاتساق الجمالى.

يقدّم الخلود الرقمى فى هذا العمل الدرامى باعتباره كابوسًا تُفقد فيه الذات حين تُفصل عن الجسد، ويشوه فيه الإدراك عندما يتحوّل إلى بيانات قابلة للنسخ والتعديل. ييدأ العمل وينتهى من قناعة مفادها أن نقل الوعى لن يكون بمقدوره الانتصار على الموت، بل تعزيز القلق الوجودى. من هذا المنظور، لا يشكل وعى كاساندرا خطرًا لأنها آلة «تفكّر»، بل لأن وعيها البشرى قد جُرّد من الجسد، من قابليته للنسيان، وللذبول، وللتعافى. لم تُنقل إلى الآلة نسخة من عقل منطقى محايد، بل شبكة رغبات جريحة، مقهورة، مشبعة بالخسارة والخذلان، ثم حُبست فى بنية صلبة لا تتغير. وهنا يكمن الرعب الحقيقى؛ فى تجميد المأساة الإنسانية بقالب لا فِكاك منه.