أنقــذوه.. قبل أن ينتقل اتحاد الكتاب إلى مدافن الواحات

- عبدالهادى تجاهل كل تحذير ونقاش منذ طرح القانون فى 2018 وحتى لحظة توقيعه
- إخلاء المكان تمامًا خلال أقل من عامين وفقًا لأحكام القانون رقم 10 لسنة 2022
- القانون معروف أثره ويُناقش منذ 7 سنوات كاملة.. ورئيس الاتحاد يتجاهل ذلك تمامًا
فى قلب حى الزمالك، حيث تهدهد النسماتُ ضفافَ النيل، ويترقرق الضوء على صفحة الماء كما لو كان حبرًا يُسكب فوق ورقٍ عتيق، فى «11 حسن صبرى» على وجه التحديد، يقع مقر اتحاد كُتاب مصر، المنارة وقلعة الفكر والإبداع، التى أسسها يوسف السباعى، الحالم باتحادٍ يحمل راية الكلمة ويصون كرامتها من العبث والنسيان.
من نافذة هذا المقر طَلَّ توفيق الحكيم يتأمل شكل مصر القادمة. لم يكن يكتب من برجٍ عاجى، بل من بيت أدبى مفتوح النوافذ على الأسئلة الكبرى، حوّل المسرح إلى مرآةٍ للفكر، وجعل من الكلمة ساحةً للتأمل، فصار صوت العقل فى زمنٍ تائه بين الصخب واليقين.
مرّ عليه نجيب محفوظ بخطاه المتأنية التى كانت تنقّب فى ضمير المجتمع، تُصغى للهمس وتحيله إلى شهادة زمن، وكان المقر بالنسبة له ليس مجرد مكان، بل بيتًا يخبئ دفاتر الحارة وهمسات البشر.
هناك جلس يوسف إدريس، الذى لم يكتب الواقع من الخارج، بل عاشه حتى العظم، فصار قلمه امتدادًا لنبض الناس.
تردّد فيه صوت أحمد رامى، يتغنّى بأشعارٍ خارجة من فم الوطن لا من حنجرته، وكان يجد فى أركان المقر صدى يشبه بيته الأول، حيث الحنين يختلط بالحرف والهوى، وجلال الحمامصى، الذى كان يدخل المقر حاملًا فى يده دفاتر الصحافة، وفى قلبه جذوة الحكاية، فكتب كما لو كان يفتح نوافذ الكلام على شارعٍ لا يغفو.

القانون رقم «10»
فى هذا المكان، يمرّ المقر التاريخى لاتحاد الكتّاب بمرحلة حرجة، ليست بسبب الإهمال فحسب، بل لأن التغافل صار عادة، ونتيجة مباشرة لتقاعسٍ امتد لسنوات، وتراخٍ فى التعامل مع إشارات الخطر المتلاحقة.
لم يكن النقص فى الوقت ولا فى المعلومات، بل فى الإرادة والرؤية. ومع مرور الوقت، تعمّقت مظاهر التدهور، وظلّ الأداء المؤسسى أسيرًا لبطءٍ غير مبرر، وعجزٍ لافت عن اتخاذ ما يلزم من خطوات، وكأن مصير هذا المكان لا يعنى أحدًا من القائمين عليه.
لم يكن هذا المبنى مجرد جدرانٍ تحتضن مكاتب ونقاشات، بل كان الذاكرة الجماعية للإبداع المصرى، مقرًا تنفست فيه الكلمات بحرية، واختُبرت فيه ضمائر الزمن، وغضب الكتّاب على التهميش والجهل والخذلان.

كان الذاكرة الحيّة للإبداع المصرى، حاضنًا لصرخات الكلمة الحرة، ومرآةً لضمائر لم تساوم، وميدانًا صاخبًا بالأسئلة والرفض. وقف هذا المعلم الثقافى شاهدًا على عقود من الإبداع والوعى. لم يكن مجرد عنوان جغرافى، بل جذرًا عميقًا فى تربة الثقافة المصرية، امتدت فروعه فى ضمير الوطن.
اليوم، يواجه هذا المكان تهديدًا وجوديًا، إذ لم يتبقَ أمامه سوى أقل من عامين قبل أن يُقتلع من أرضه، وتُجتث روحه، وتُغلق أبوابه، وتُطوى صفحته، لا بسبب كارثة طبيعية، ولا بقرار ترميم، بل بفعل القانون رقم ١٠ لسنة ٢٠٢٢، الذى أنهى العلاقة بين الهيئات الاعتبارية والمقار المؤجرة لغير غرض السكن.
قانونٌ خرج إلى النور بعد سنوات من النقاش داخل أروقة البرلمان منذ عام ٢٠١٨، وظل ينضج ببطء حتى صدر رسميًا فى مارس ٢٠٢٢، ليبدأ عدّه التنازلى نحو الإخلاء النهائى فى مارس ٢٠٢٧.

وما كان ينبغى لهذا السيف أن يُشهر فى وجه اتحاد الكتّاب لولا أن المجلس الحالى، الواقف عند بوابة الانشغال بالهامشى، قد تجاهل كل تحذير، وتغافل عن كل نقاش، منذ لحظة طرح القانون وحتى لحظة توقيعه.
لم يكن الغياب عرضيًا، بل كان تقاعسًا مستمرًا منذ ٢٠١٨. لم يُبادر المجلس بإعداد ملف دفاع، لم يتحرك للتفاوض، لم يصدر حتى بيانًا يعلن فيه موقفه الواضح، وكأن الأمر لا يخص اتحاد كتاب مصر ، بل اتحادًا آخر فى بلدٍ آخر.

أوهام عبدالهادى
لم يقتصر الأمر على التقاعس وحده، بل امتد إلى ترويج أوهامٍ لا يُسندها واقع. لقد تحدث المدعو علاء عبدالهادى، فى أكثر من مناسبة، عن تخصيص قطعة أرض لإنشاء مقر جديد للاتحاد فى العاصمة الإدارية الجديدة.
قال «عبدالهادى» إن المشروع قائم. لكنه، حتى هذه اللحظة، لم يُقدّم عقدًا واحدًا، أو صورة موثقة، أو حتى خريطة مكانية تثبت صحة هذا الزعم... حديث فى الهواء، دون أى وثيقة رسمية، وكأن ذاكرة الكتاب يمكن تضليلها بالوعود لا بالوقائع.

وما يزيد من فداحة المفارقة، أنه فى الوقت الذى يغيب فيه الدليل على «مقر العاصمة»، خرج علينا الرجل بصور لـ«تشطيب» مقبرة فى طريق الواحات، قال إنها ستكون مدفنًا لأعضاء الاتحاد! كأنما الأحياء لا يستحقون مقرًا يُحترم فيه أدبهم، بينما يُجهّز لهم مثواهم الأخير بعناية تليق بكرسى لا يُمس، حتى ولو تحلّل الجميع!
هل نسى هؤلاء أن المقر لم يكن يومًا عقارًا إداريًا، بل بيتًا للرؤية والموقف؟
هنا كان ثروت أباظة صوتًا فكريًا يُنير دروب الثقافة والوعى، يناضل بالكلمة والقلم من أجل حرية الفكر والضمير. هنا ناقش يوسف القعيد القضايا الوطنية بشجاعة المثقف لا بمراوغة السياسى.
هنا خطّ أحمد عبدالمعطى حجازى أشعاره فى الحُلم والغضب، وكان محمد عفيفى مطر يُدخل الفلسفة إلى بيت القصيدة، ويصوغ محمد البساطى حكايات الفلاحين كأنها ترانيم خلاص.
هنا جلس خيرى شلبى يستعيد روح الحارة المصرية.

فى هذا المكان تحدث رجاء النقاش عن «الكاتب ضمير الأمة»، وسجّل إحسان عبدالقدوس أنّ الحرية لا تورّث، وأن الثقافة لا تُصادر.
من هذا المبنى خرجت مقالات فكرى أباظة كصوت القانون والحق، ومنه كتب أمين يوسف غراب وعبدالحميد جودة السحار وعبدالتواب يوسف عن الإنسان والهوية والعدل، لا عن الأوهام والشعارات.
كان محمد جبريل يقرأ من روحه، ومحمد مستجاب يكتب من فطرته، وسعد الدين وهبة ينظم المؤتمرات كأنه يهيئ المسرح لعرض وطنى لا ينسى.
نسج محمد عبدالحليم عبدالله من الحارة والصعيد والريف سرديات عن المحبة والألم والوطن. بينما كان فاروق شوشة يكتب بلغةٍ تليق بالمقام، لا بالزمان.
وفى ظل هذه الشجرة المثمرة التى امتدت جذورها عبر الزمن، برز الكاتب الكبير محمد سلماوى، صاحب التاريخ الأدبى الحافل فى المسرح والقصة والمقال والترجمة، كأحد أغصانها الوارفة، يحمل فى طيّاته ثمار الأدب والقيادة الثقافية، مع حضور مؤثر لدى السلطة، جعل صوته يصدح بقوة فى أروقة القرار الثقافى.

تولى «سلماوى» رئاسة اتحاد كتاب مصر والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب طوال ١٠ سنوات، كانت من أزهى عصور الاتحادين. كان يجوب المحافل الدولية ممثلًا لهذه المؤسسات الثقافية العريقة، وحقق إنجازات مهمة، من بينها الوساطة التى أسفرت عن وديعة ٢٠ مليون جنيه أهداها سمو الشيخ «القاسمى» لكُتّاب مصر من أجل علاجهم. إلا أن هذه الوديعة، التى شكلت أملًا لرعاية الأدباء، غابت أخبارها اليوم، بينما ما زال الكتاب يكافحون للحصول على العلاج من أجهزة الدولة المختلفة
رؤساء وأمناء وكتاب وأعضاء مرّوا من هنا، بعضهم رحل جسدًا، لكن بقيت أرواحهم معلّقة بجدران هذا المقر، كأنهم لم يغادروه يومًا.
واليوم، يُهدد هذا المكان بالطرد، ويُطعن فى ظهره باسم القانون، لا لأن القانون ظالم بالضرورة، بل لأنّ الذين جلسوا على مقاعد المسئولية لم يملكوا الحد الأدنى من الشجاعة أو الحكمة للتصدى.
الخطة البديلة
كيف تغيب الخطة البديلة؟
كيف لم يُشكل وفدٌ لمقابلة رئاسة الوزراء أو وزارة الثقافة أو حتى رئيس الجمهورية نفسه؟.
كيف لا يكون البحث عن مقر بديل، بنفس القيمة الرمزية والمكانة الجغرافية، أولويةً مطلقة منذ اللحظة الأولى لصدور القانون؟
هل يُعقل أن ينتظروا حتى نُطرد، ثم يبدأوا فى تقديم الأعذار؟
لكن الأعذار هنا ليست مجهولة المصدر، بل تحمل توقيعًا معروفًا، واسمًا لا يمكن نسيانه.
رئيس المجلس الحالى، المنتهية ولايته منذ مارس ٢٠٢٠، الذى ظلّ جالسًا على المقعد رغم انتهاء شرعيته القانونية، لم ينشغل يومًا بحماية المقر أو الدفاع عن مكانته، بل كرّس جلّ طاقته لتصفية الحسابات الشخصية، وتمديد البقاء فوق الكرسى، كأن الكيان نفسه مجرد سُلّم لطموحه الشخصى.
هذا «المدعو»، لم يكن غافلًا عن المصير. لقد صرّح بنفسه، فى اجتماع الجمعية العمومية مطلع عام ٢٠٢٢، بأنه «لم يتبقَ أمامنا سوى ٥ سنوات فى المقر»... قالها ببساطة، كمن يُخبرنا بتاريخ انتهاء الصلاحية، دون أن يُحرّك ساكنًا بعدها لحمايته، أو حتى للتفكير فى بديل يليق بالاتحاد وتاريخه.
يكفى أن نتأمل ما حدث لمقارٍ أخرى كانت نبضًا فى جسد الثقافة المصرية، وضاعت الواحد تلو الآخر، بينما كان أصحاب القرار يفتلون خيوط مصالحهم.
مقر نادى القصة التاريخى بوسط القاهرة ضاع، تلاشى من الذاكرة المكانية، انتقل إلى شارع فيصل ثم بات بلا عنوان، إلى أن تدخّل الكاتب الكبير محمد سلماوى لدى وزارة الثقافة، فحصل على قاعة رمزية بالمجلس الأعلى للثقافة، تكريمًا لما تبقى من ذاكرة.
ضاع أيضًا مقر جمعية الأدباء، أول كيان للجماعة الأدبية المصرية، الذى كان يواجه البرلمان المصرى بعنفوان الكلمة، إلى أن انتهى كأن لم يكن.
بل إنّ أتيليه الإسكندرية، الذى احتضن أصواتًا حرة لعقود، هو الآخر تلاشى من المشهد، وصار ماضيًا لا يُسترد.
لا نعلم اليوم ما آل إليه حال مقر الاتحاد فى القلعة.. هل لا يزال قائمًا؟ أم بات صفحة مطوية كغيره من الرموز المهجّرة؟
ما يحدث الآن ليس نهاية مكان فحسب، بل انقطاعٌ فى شريان الذاكرة. أن يُهجّر اتحاد الكتّاب من بيته، هو أن يفقد الأدب المصرى أحد أهم ملامحه الحيّة، وأن يُجبر على الترحال فى شوارع لا تعرفه، ولا تحفظ تاريخه.
هذا المقر ليس رفاهية، وليس عقارًا ضمن خريطة الأملاك المؤجرة، بل هو معلم من معالم الضمير المصرى، ومرآة لروح مصر التى كتبت نفسها بنفسها، عبر حروف رجالاتها ونسائها، لا عبر مراسيمها فقط.
إننا اليوم لا نكتب سطورًا فى جريدة، بل نقرع آخر أبواب الذاكرة قبل أن تُغلق، ونشهِد هذا الجيل على لحظة انكسار قد لا تُجبر.
ليُسجل التاريخ إذن أن من باعوا المقر لم يكونوا من خارجه، بل من داخله.
وأن من تخلوا عنه لم يكونوا الغرباء، بل من وُكل إليهم أن يحرسوه.
وأن الجريمة، وإن جاءت بوجه قانون، فإنها لا تُغتفر حين تكون فى حق الروح، والهوية، والوطن.
فيا كبار الكتّاب، يا من حملتم مشاعل الفكر، وسطرتم للتاريخ ما لا يُمحى.. هذا النداء إليكم. أنتم أصحاب الكلمة، وأهل الهيبة، وأنتم من تعرف الدولة قدرهم وتحترم صوتهم. تدخّلوا لإنقاذ المقر، لا من أجل الحجارة والجدران، بل من أجل ما يمثله من روح وقيمة وذاكرة.
تدخّلوا الآن، دون النظر إلى من جثموا على صدر الاتحاد اليوم، فالاتحاد أكبر من كل عابر عليه، وأبقى من كل من توهّم أن بوسعه مصادرته لحساب نفسه.
اللهم اكفنا شر ضياع المقر، أما «علاء»، فضمير الجمعية العمومية كفيل به.
