الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

عمر خيرت.. بالقرب من موسيقار يعيش فينا

حرف

- الأعجب فى عمر خيرت كموسيقار أن الناس كلهم ذهبوا إلى حفلاته من كل الفئات من كل الطبقات

- موسيقاه جزءًا من ذاكرتنا نسمعها فى المناسبات الرسمية كبانوراما أكتوبر و100 سنة سينما وفى بيوت الناس العادية

قبل أن أكتب عن عمر خيرت، سألت نفسى: لماذا نتأثر بالموسيقى عمومًا إلى هذا الحد؟ 

ما الذى يعنيه أن أسمع ترددات لنغمات على آلة فأتأثر.. وأنفعل؟ 

كيف يحدث هذا؟ كيف يتم؟ كيف يتفاعل فى داخلى وداخل ملايين البشر؟، مع أن ما نسمعه لا هو لغة ولا خطاب ولا فكرة، بل مجرد موجات صوتية لآلات؟ 

بعد تفكير طويل، اهتديت إلى إجابة وحيدة وارتضيتها. ملخصها، أن تفاعلنا مع هذه النغمات غير المفهومة وغير المترجمة، معناها مغروس فينا فى الأصل من البداية، وأن هذه الأصوات لا تخبرنا بشىء، بل توقظ معنى داخلنا كان نائمًا. 

هذا هو إنجاز الموسيقى، أنها تحرك المعنى المختبئ، دون كلام، دون بيان، دون تفسير. 

وحين فهمت هذا، عرفت ماذا سأكتب عن الموسيقار عمر خيرت، لأن ما أكتبه عنه يخصه وحده، فهو لا عبدالوهاب ولا السنباطى ولا بليغ، لأنه مختلف وحالة خاصة، هؤلاء وغيرهم وصلوا إلى الناس نعم. كانوا عباقرة؟ ألف مليون نعم، لكنهم وصلوا ومعهم الكلمة والصوت الذى يترجم لك العاطفة والمعنى.

أما خيرت، وصل إلينا موسيقيًا فقط، دون كلام.

وصل بموسيقى تصويرية، بموسيقى لا تحمل إلا نغمها.

هذا هو الفارق وهذا هو التحدى الأعظم، أن تصبح جزءًا من الذاكرة الوطنية والشعبية بصوت البيانو والوتريات، دون أن يتولى مطرب كبير أو صغير نقل رسالتك.

ولكى أعرف سر عمر خيرت، كان علىّ أولًا أن أعرف كيف بدأ ومن أين؟ وجدت أنه بدأ من الإيقاع، كلاعب درامز، وهذا سره. كيف؟ الدرامز، يعطى صاحبه إحساسًا صارمًا بالزمن، العازف الإيقاعى لا يملك رفاهية الخطأ، نصف ثانية كفيلة بأن تفسد الجملة كلها.

هذا الإحساس الدقيق بالثوانى هو بالضبط ما يميز بصمة عمر خيرت فى أعماله. 

اسمع أى مقطوعة له. ستجد نمطًا واحدًا فى كل أعماله: دخول محسوب، خروج دقيق، تصاعد مضبوط يأتى كل مرة فى اللحظة التى يعرفها أنا وأنت وكل من يعرف موسيقاه، وحتى الذى لا يعرفها!. 

كل مقطوعاته فيها شد وإرخاء وارتفاع تدريجى ثم هبوط لطيف، ثم انكماش إلى لحظة بيانو وحيدة التى تثير كل من يستمع إليها، لأنها فى الغالب تكون لحظة حب أو شجن. 

إنه فى كل مقطوعة يسير على نفس هذه الخريطة، ويقود كل هذه الآلات ببراعة وتماسك. 

لذا منذ ولادتى، وأنا أسمع جملة مكررة من كثيرين، جملة سهلة ومريحة، تبدو فيها الوجاهة وتصلح لملء فراغ فى نقاش فارغ، لكنها فى الحقيقة كانت تكشف لى شيئًا واحدًا: أن قائلها لم يفهم معنى البصمة أصلًا. 

الجملة هى: «كل أعماله شبه بعض!»

وأنا عادة، عندما أسمع هذا الكلام الفارغ، أهز رأسى وأسكت.

ليس لأن الكلام صحيح، بل لأن الناس مشغولة ومهمومة، وأنا أيضًا مشغول وتعبان ومخنوق، والوقت أثمن من أن نضيعه فى إقناع شخص بالفرق بين التشابه والهوية.

من العبث فى هذا الزمن أن أحدًا لديه رفاهية شرح أبجديات الفن فى كل نقاش عابر.

لكن بما أننى الآن أكتب مقالًا، ولى مساحة رأى، وأتقاضى أجرًا نظير هذا العمل، فلا بأس، لن أخسر شيئًا إن شرحت الفارق.

لعل واحدًا من هؤلاء الذين يرددون الجملة الجاهزة دون أن يفهموها، يمر على هذه الكلمات يومًا، ويعرف لأول مرة أن الكلام الذى يقولونه، ليس رأيًا، بل سوء

هضم.. هضم فنى طبعًا، والعلاج هنا أن يفهم!.

فليس من المنطقى أن ترى شخصًا يكتب بخطه الذى أنت تعرفه، فتصر كل مرة أن كل كلامه واحد، لأن الخط واحد!

ليس كل ما يشبه نفسه متشابه، هناك شىء اسمه بصمة، والبصمة تعرّف صاحبها، فتكون الهوية. 

والهوية هى ثبات العناصر مع تغير الفكرة، وما يسمونه تشابهًا هو فى الأساس أسلوب، وهندسة صوتية لها شكلها الخاص، من يسمعها فورًا يعرف أنه عمر خيرت، أنه ياسر عبدالرحمن، أنه مودى الإمام.

وربما ثبات أعمال عمر خيرت على روح البيانو وملمس الوتريات، وبناء الجملة، يصوره الناس على أنه تشابه أى عجز، أو قلة حيلة وفقر إبداعى، مع أن الذى يفعله عمر خيرت هو قمة الإبداع، يقدم هوية نغمية لا يقدر عليها إلا صاحب المدرسة، لا الهاوى، وإلا لما أصبحت موسيقاه جزءًا من ذاكرتنا، نسمعها فى المناسبات الرسمية كبانوراما أكتوبر، و١٠٠ سنة سينما، وفى بيوت الناس العادية التى لا تعرف ما معنى بوليفونى ولا هارمونى ولا حتى تعرف اسم الآلات، لكنهم يتلمسون المعنى الغريب الذى يوقظه عمر خيرت بموسيقاه فيهم. 

والأعجب فى عمر خيرت كموسيقار أن الناس كلهم ذهبوا إلى حفلاته، من كل الفئات، من كل الطبقات، من كل المدارس، من يسمع أم كلثوم، ومن يسمع عصام صاصا، ومن يسمع موزارت، ومن لا يسمع شيئا أصلًا! 

ذهبوا إليه لأن عمله صادق، اخترق المعنى، وموسيقاه جزء من ذاكرتهم. 

فأنا على سبيل المثال عشت نصف عمرى أسمع موسيقى فيلم «خلى بالك من عقلك» فى كل مكان، ولا أعرف أنها موسيقى لفيلم، حتى شاهدت الفيلم ولم أحبه، وكأن هناك شيئًا شاذًا داخل العمل، لأن الموسيقى التى عشت نصف عمرى أسمعها ارتبطت فى وجدانى بمعانٍ أخرى فشعرت بأنها فى الفيلم غريبة عن المعنى الذى أفهمه وهضمته، وكأنها مقحمة، هذا هو عمر خيرت وموسيقاه المتغلغلة فى وجداننا. 

موسيقى لا تعترف بطبقات ولا نخب، ولا بالتعالى الثقافى الذى يريد للموسيقى أن تكون حكرًا. 

لذا تألمت عندما صار خيرت شعبيًا بمعنى أنه صار محبوبًا، وخرج المتحذلقون يسخرون: «طالما أنه أصبح للجمهور، إذا فموسيقاه مبتذلة ومكررة» وهو منطق مضحك بائس، يكشف جهلًا أكثر مما يكشف ذوقًا، لأن هؤلاء يريدون موسيقى لا يسمعها كل الناس، حتى لا يشعروا بأن امتيازهم الثقافى مهدد. 

يريدون الفن أن يبقى فوق الناس لا بين الناس، لكن الحقيقة هى العكس، أن الفن الذى لا ينزل للناس مهزومًا، وأن موسيقى عمر خيرت انتصرت ليس لأنها تنازلت بل لأنها فى الحقيقة ارتقت فارتفع الناس معها، وهذه أكبر شهادة يمكن أن ينالها موسيقى أو فنان، هو أن يصبح ملكًا عامًا دون أن يخسر عمقه!. 

ولن أحيلك فى أعمال عمر خيرت إلى أى عمل، غير موسيقى فيلم الإرهابى، والتى اختار لها اسمًا هو «تيمة الحب». 

تخيل معى فيلمًا يدور حول التطرف والإرهاب، فبدلًا من أن يجر موسيقى العمل إلى التوتر السياسى والعنف، والتأليف الحرفى للمشاهد، اتخذ قرارًا عميقًا، بموسيقى ناعمة كلها شجن، وبُعد إنسانى عميق، تغلغلت فى معنى وعمق ما وراء الأحداث، فى مواجهة الظلام، بالحب والود والسماحة، تخيل هذا القرار الفنى العميق بأن تكون موسيقى هذا العمل تحمل عنوان: تيمة حب! 

من يعقلها؟ من يتجرأ عليها؟ فقط عمر خيرت. 

لكن حقيقة، وإن كنت وصلت معى إلى هذه السطور، أطلب منك حالًا أن تذهب إلى «يوتيوب» وتسمع هذه المقطوعة، وأخبرنى بماذا ستشعر؟ ما المعنى الذى أيقظته بداخلك؟ أليس ما قلته فى البداية فى مقدمتى؟ إنه المعنى المغروس!. 

بل أدعوك إلى أن تقرأ التعليقات وستهتز لكل تعليق مكتوب، سترى وطنًا كاملًا يتذكر نفسه، ستهتز لهذا الرجل الذى كتب وقال: «بترجعنى ٢٥ سنة ورا ولازم أدمع لما أسمعها لأنها بتفكرنى بأحلى سنين عمرى إللى اتسرقت». 

ستنفعل لتعليق هذا المغربى الذى قال: «موسيقى روعة حركت شى بقلبى، كل الحب لإخوانا بمصر». 

ستدمع بكل تأكيد لهذا العراقى الذى كتب: «أنا عراقى كنت فى مصر ٨ سنوات لما أسمع هاية الموسيقى عينى تدمع وأشتاق لمصر القاهرة بكد اشتياقى لبغداد»، ستعرف معنى ما قلته لك فى المقدمة، حين تقرأ أيضًا هذا التعليق: «تذكرت طفولتى، بخاف على جيل التمانيات والتسعينات إنهم يروحوا واحد ورا التانى، موسيقى من عالم تانى لو عايز تسافر بره دنيتك اسمعها وانسى هلاك الدنيا وتعبها». 

هنا لن تملك إلا أن تصمت لأنك أمام أجيال كاملة وجدت نفسها فى نغمة. 

ولن أزيد، لن أتحدث أكثر من ذلك، لأنى إن أسهبت سأنسى نفسى. 

والمفارقة المؤلمة، أن هذا الرجل بموسيقاه التى شفتنا جميعًا، يصارع الآن المرض فى جسده، وليس غريبًا أن نقرأ هذا الخبر ونشعر نحوه بشىء يشبه الحب الجماعى، حب صادق، بلا شروط، نحو فنان، نحو رجل قدم لنا موسيقى حمل أرواحنا بها، وأعاد تهذيب داخلنا ولا نعرف كيف!.

ولهذا، لا نملك اليوم شيئًا فى لحظته الإنسانية الأصعب إلا أن نرد الجميل بالدعاء وبالاستماع لأعماله، وبالاعتراف بأن عمر خيرت، كان واحدًا من آخر الأصوات التى حافظت على الإنسان داخل الإنسان. 

فاللهم اشفه كما شفى أرواحنا من قبل.