الثلاثاء 05 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

المزعج الأبدى.. معادلة الوطن عند زياد الرحبانى التى لم يفهمها أنصاف الثوار

حرف

- زياد كان أصدق من كل اليساريين العرب والثوار الذين يقولون عن أنفسهم أحرارًا

مات زياد الرحبانى، ومات معه آخر فنان عاش كما يحس وكما يفكر، لا كما يطلب منه الجمهور والثائرون. مات ولم يعتذر لأحد، لأنه لم يخطئ فى حق أحد. كان متفردًا فى كل شىء، ألحانه وأشعاره وكتاباته المسرحية، حتى فى صمته كان فيلسوفًا، لكنه كان ضد الجميع، ضد الجمهور، حتى أمه كان ضدها، لأنه لا يهادن ولا يجامل، ولا يكتفى بأن يدهشك بل يهزك. 

عاش زياد حياته وكان لديه هم واحد، الإنسان البسيط، كان يهمه قلق هذا الفرد وأرقه وجوعه وحياته فى هذه اللحظة الراهنة، لا الشعارات ولا النضالات المسرحية ولا الغد كان فى اهتمامات زياد، لذلك كان غريبًا حتى عن الثوار، فهم يريدون الفعل الثورى كفعل فى حد ذاته بغض النظر عن النتيجة المؤسفة المدمرة.

كانوا يريدون التغيير وهو كان يخشى الثمن.. ثمن المعاناة للمواطن البسيط، لهذا زايدوا عليه، وادعوا حبه.. وهم لا يحبون أحدًا ولا يرون إلا أنفسهم.. فلا هم أحبوه ولا عرفوه، فهل تعرفون زياد حقًا؟

الحقيقة لكى تعرف هذا الرجل، عليك أن تعود إليه طفلًا، تخيل طفلًا فى الثالثة عشرة من عمره يفكر فى شراء مسدس ليقتل أباه وأمه، لأنهما يتشاجران دائمًا!. نعم هذا ما حدث وهو ما حكاه بنفسه وعن نشأته فى بيئة فنية تعتبر هى قبلة الفن العربى، لكنها كانت بيئة متشظية، على حد تعبيره، رأى فيها البيت ينقسم، ورأى فيروز تبكى فى غرفتها، وشهد كيف يمكن للعبقرية أن تعذب صاحبها، كما عذبت والده!. 

وهو من صغره كان لديه حس نقدى وثورى، نزعة بالفطرة لكره الظلم والفقر، حتى إنه مرة كان يجلس فى السيارة مع السائق فى طريقه للمدرسة، ورأى طفلًا يتسول تحت المطر، فسأل: لماذا هذا الطفل يعانى وأنا أجلس فى هذه السيارة؟، هذه اللحظة حسمت مسار حياته، فصار الطفل الفقير قضيته. لا الأديان ولا الطوائف ولا الأحزاب السياسية!. 

فى فنه وأغلب ما قدمه على المسرح كتب وغنى للفقير، وأعلن أنه ضد كل هؤلاء، ضد الفقر وضد السياسيين وضد رجال الدين، فى أغنيته «أنا مش كافر»، أعلنها صراحة، قال لهم: «أنتم تصلّون وتصومون، لكنكم لا ترون الإنسان الذى يتألم جواركم».. وتساءل: ما قيمة صلاتكم.. قالها بلا مواربة، ودفع الثمن.

كان موقفه طوال مشواره حادًا ضد الطائفية، لكن انهالت عليه الشتائم حين أيد حزب الله الشيعى، فرد بما هو أصعب، وحطم الأيقونة، وقال: «فيروز أيضًا تحب حسن نصرالله». جملة بسيطة، مباشرة، لكنها كلفته قطيعة مع أمه وهى التى بنت حولها جدارًا ضخمًا من الصمت والغموض طوال مسيرتها، جاء هو وحطم هذا الجدار ليثبت للجميع أن الفنان إنسان، ككل الناس، له مواقفه وأهواؤه.

وقد رد على هذا التناقض من وجهة نظره، أنه لا يرى الحزب، بل يرى الفعل. لا يرى الهوية الطائفية، بل يرى الوظيفة الوطنية التى قام بها الحزب. 

لأن فى رأى «زياد» وتحليله القاسى للواقع اللبنانى، كانت الدولة غائبة، والجيش مقيدًا، وكل طائفة من الطوائف الأخرى غارقة فى مصالحها الصغيرة، تنهب ما تبقى من الوطن أو تحتمى بسفارة أجنبية. 

وفى هذا المشهد الخرب الضائع، كانت هناك قوة واحدة فقط من وجهة نظره، هى قوة حزب الله، التى تقوم بالوظيفة التى تخلى عنها الجميع، وهى: تحرير الأرض والدفاع عنها. لذلك كان يرى أن سلاح جماعة حسن نصرالله هو السلاح الوحيد الذى لم يستخدم فى الحرب الأهلية الداخلية.. كما فعلت باقى الطوائف، لذلك هو مع السيد حسن.. وأمه أيضًا.

وفلسفة زياد فى الحياة كانت فى جملته الأشهر: «بيقولوا بكرة أحلى.. بس شو مع اليوم؟»، هنا يكمن عقل زياد كله، تكمن معادلته الوطنية المتفردة، لا يعترف بالوعود ولا يثق بالغد، يحاسب اللحظة الراهنة، لأن الفقير والجائع لا يملك رفاهية انتظار المستقبل وغير مقبول المقامرة به.

وهذا الموقف، هو موقف زياد القديم قدمه فى مسرحياته التى سخر فيها من الدولة الهشة والطوائف المتناحرة ومن رجال الدين ومن المثقفين ومن الثوار حتى من الجمهور الذى صفق له، لكن لأنهم يدعون حب زياد وأعماله، شعروا بالصدمة لموقفه من الربيع العربى ومن بشار الأسد. 

وصف «زياد» بشار بـ«الصامد الأكبر» وأنه يواجه حربًا كونية على سوريا، كان حقه كإنسان أن يعبر عن رأيه، لكن فى ظل حالة الجنون التى نعيشها، لا يجب أن تعبر عن رأيك، إما أن تكون معهم وإما لا، فاتهموه للأسف بالسقوط الأخلاقى، وكتب الشباب الثائر فى لبنان والجامعة الأمريكية ببيروت لافتات عليها: «زياد.. فنان موهوب وساقط إنسانيًا». والمدهش فى هذه الشخصية النبيلة أنه لم ينكر ولم يتراجع ولم يعتذر، لأن منطقه كان بسيطًا: البديل عن الأسد هو الخراب والفوضى، قال: «اللى بيهاجموا النظام السورى بدهم السلطة وبكرة هيكونوا أسوأ منه». لذا كان زياد مع الدولة لا الأسد، لأنه عاش انهيار الدولة فى لبنان ورأى بعينيه بيروت تتحول من مدينة إلى طوائف متقاتلة، رأى مصير الإنسان حين تموت فكرة الوطن الذى يأويه ويحميه. كان ضد الفوضى، كان يعرف الفرق الشاسع بين الثورة الحقيقية والمؤامرة التى تستخدم الشعارات لتدمير الدول، فقرر أن ينحاز لأهونهم.. إلى النظام القائم!.

وأنا فى الحقيقة أقولها بصراحة، زياد كان أصدق من كل اليساريين العرب والثوار الذين يقولون عن أنفسهم أحرارًا، والمثقفين الذين ينبحون باسم الديمقراطية. كان زياد أصدق من كل هؤلاء، الذين اختاروا الفوضى على أن يختاروا الأنظمة الوطنية بكل ما فيها وعليها، حتى لا يقال عنهم إنهم سكتوا. لكن زياد لم يقبل الابتزاز الأخلاقى، لأن جوع الفرد وذل الفرد وضياع الوطن هو همه الأكبر!. 

هذه هى معادلة زياد التى لا يعرفها أحد ولن يصل إليها إلا إنسان صادق مع نفسه ومع فنه، وهذا هو الخيط الوحيد الذى يربط كل حياة زياد وفنه ومواقفه.. الصدق.. الصدق الذى دفعه لخلق فن مؤلم فى واقعيته وجعله يرفض أنصاف الحلول والإجابات المريحة، فى منطقة مبنية على طبقات من الأساطير والأكاذيب. لذلك سيبقى هذا الفنان ليس كعبقرى مزعج، بل سيبقى كآخر فنان.. لم يقل غير ما يرى ويؤمن!.