دعوا ألف زهرة تتفتح
ليست ظاهرة الصالونات والمنتديات الأدبية والثقافية من الظواهر المستجدة فى مصر، لكنها تعود إلى القرون الوسطى البعيدة، ومع بدايات القرن العشرين تحولت إلى سمة من سمات الحياة الثقافية فى مصر، فهناك صالون الأميرة نازلى، وصالون قوت القلوب الدمرداشية، وصالون مى زيادة، وصالون العقاد، وغيرها من الصالونات الأدبية والفكرية، التى باتت معروفة وجُل حضورها من الشخصيات التى باتت من معالم الثقافة والأدب فى مصر.
خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، انحسرت ظاهرة الصالونات الأدبية، وربما لا يتذكر أحد أيًا من هذه الصالونات، اللهم إلا صالونًا للسيدة سنية قراعة، وربما صالون محمود شاكر، فأدباء تلك المرحلة كان موقعهم مقاهى المدينة المتناثرة هنا وهناك، فالملتقى الثقافى والفكرى كان يُعقد فى «ريش» مثلما كان يفعل نجيب محفوظ.
وكان كُتاب ومثقفون آخرون يتجمعون فى «زهرة البستان» أو مقهى إيزافيتش بميدان التحرير، أو مقهى الحرية بباب اللوق أو مقهى سفنكس بشارع عماد الدين، وكان هؤلاء المبدعون يلقون بأشعارهم أو يقرأون قصصهم وسط حضور مهتم وشغوف بكل ما هو إبداعى جميل، وأجيال هذه الفترة من المثقفين لم يعرفوا الصالونات الثقافية، وفكرة الصالون الثقافى لم تعد مطروحة بالفعل.
ولكن مع بداية الألفية الثالثة بدأت الصالونات تطل برأسها من جديد، وها نحن نبلغ نهاية عام ٢٠٢٥ بينما هناك عدة صالونات باتت فاعلة وراسخة، إضافة إلى عدة منتديات أخرى، والملاحظ أن مشاركة النساء ومبادراتهن لتأسيس هذه الصالونات كبيرة، فهناك صالون مى مختار بمقهى الفيشاوى العريق وصالون هالة البدرى بالتجمع الخامس وصالون علياء هيكل بمدينتى، وثمة صالون ضحى عاصى، وصالون سيا لصفاء النجار، إضافة إلى صالونات ومنتديات أخرى عديدة بادر بها نقاد أكاديميون أو أدباء.
البعض ينظر إلى هذه التجمعات الأدبية أو الثقافية بعين الريبة، ويتساءل عن مدى الجدوى منها، والبعض الآخر يراها نوعًا من الرغبة فى التحقق بالمجال الثقافى العام، خصوصًا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعى وسهولة الانتشار عبر لغة الصورة.
لكن تبدو هذه الآراء مجحفة بحقيقة الأمر، فمعظم هذه الصالونات والمنتديات ذات قيمة وأهمية كبرى فى زمن انحسار شديد للثقافة الجادة والإبداع الرصين، فمناقشة رواية هنا أو ديوان شعرى هناك أو لقاء كاتب والاحتفاء بأعماله إنما يعطى دفعة قوية للحياة الثقافية، ويسرع من وتائر الحراك الثقافى، الذى يبدو راكدًا فى كثير من الأحيان، وقد يعترض بعض المستخفين بهذه الصالونات بأن من يحضرون هذه الندوات التى تعقد بالصالونات عددهم قليل، لذلك فهى غير فاعلة، والحقيقة أن ما يدور من نقاشات وتبادل الآراء ووجهات النظر تؤتى ثماره على المدى الطويل، وهذه هى طبيعة الإبداع.
إن طبيعة الحياة فى المدن الكبرى وما بها من صعوبات جعلت العديد من الناس يحجمون عن هذه التجمعات والصالونات لأسباب تخرج عن إرادتهم عادةً، ولكن ظهورها بقوة مرة أخرى يدل على أهميتها، وأنها جاءت لتلبى ضرورة ثقافية مفتقدة.
وفى الوقت الراهن وقياسًا لعدد السكان المتزايد فمصر بحاجة إلى المزيد من الصالونات والمنتديات الأدبية، وبحاجة إلى وضعها فى بؤرة الاهتمام من الإعلام الثقافى بكل أنواعه، ولنشجع هذه الصالونات وندع ألف زهرة تتفتح.







