الجدوى الثقافية

الأنشطة والفعاليات الثقافية المختلفة لا تتوقف فى ربوع مصر المحروسة، إذ لا يخلو يوم من ندوات أدبية وعلمية فى كل المجالات، إضافة إلى معارض فن تشكيلى، ومؤتمرات، ذات اتجاهات متعددة، ولعل أحدث كل هذه الأنشطة، ما قامت به وزارة الثقافة المصرية من إطلاق «يوم الموسيقى» بمائة فعالية؛ بمناسبة ذكرى وفاة خالد الذكر سيد درويش، التى توافق الخامس عشر من سبتمبر، ولسوف نبلع مسألة شعار الفعالية، فهو سوقى وسخيف وعلى طريقة الإعلانات التجارية من نوع، «القطن بيتكلم مصرى»، إذ إن شعار يوم الموسيقى هو: «مصر بتتكلم موسيقى».
عمومًا هذه مبادرة طيبة من وزارة الثقافة، التى كان من الأفضل اختيارها شعارًا أكثر رصانة وأعمق دلالة بما يليق بتاريخ الموسيقى المصرية، وبالعملاق الموسيقى سيد درويش، مثل: مصر تنبض موسيقى، أو الموسيقى روح مصر... إلخ.
ورغم هذه الفعاليات الجيدة، التى تطلقها وزارة الثقافة، والفعاليات الأخرى، التى تتم سواء من بعض جمعيات المجتمع المدنى ذات الطابع الثقافى، أو من مبادرات المثقفين، فإن السؤال الذى يجب أن يطرح ويواكب كل هذا النشاط الثقافى العارم والمحمود، هو سؤال الجدوى الثقافية، أى باختصار وببساطة: ما المردود والعائد من كل تلك الأنشطة، ومدى تأثيره فى عقول ووجدان الناس؟
عند تأسيس المشروعات الاقتصادية، فإن سؤال الجدوى الاقتصادية يصبح هو السؤال الأولى والأهم، وتحدد إجابته مدى نجاح هذه المشروعات أو فشلها، لذلك هناك مكاتب استشارية متخصصة تقوم بما يسمى دراسات الجدوى، وعلى ضوئها يتقرر القيام بأى مشروع من عدمه.
والحقيقة أن الأمر ذاته ينطبق على المجال الثقافى، مع الاختلاف النوعى بين النشاط الاقتصادى والنشاط الثقافى، فالاقتصاد يستهدف التنمية الإنتاجية والخدمية، أما الثقافة فتستهدف التنمية الإنسانية «وليس البشرية»، فهذه مسألة أخرى، أى أنها تستهدف الارتقاء بعقول ووجدان الناس لجعلها أكثر ميلًا لحب الخير والعدل والجمال، وأكثر جنوحًا تجاه التحضر والارتقاء، ولديها مزيد من القدرة والتفاهم للذات وللعالم.
لذلك فقياس الجدوى الثقافية أمر بالغ الأهمية، وإن كان بواقع الأمر، شديد التعقيد والصعوبة فوسائل قياس النجاح أو الفشل فى المجال الثقافى ليست بالبساطة التى ربما توجد فى الاقتصاد، فالنجاح الثقافى ليس نجاحًا كميًا فقط، ولكن النجاح الكيفى هو الأكثر أهمية هنا، فلو هناك فعالية حضرها عدد كبير من الناس، هل يعنى هذا أنها فعالية مهمة ومؤثرة، واستطاعت الارتقاء بوجدان وعقول الناس؟
يزداد الأمر تعقيدًا بالنسبة للجدوى الثقافية عندما يقارن عدد الفعاليات والأنشطة بعدد السكان، فالقياس فى هذه الحالة يكون كميًا فقط، فإذا كان عدد المصريين الآن يقترب من ١٢٠ مليون نسمة «غير اللاجئين والأجانب المقيمين»، فهل مائة فعالية موسيقية تكفى عدد السكان الضخم هذا؟
العدالة الثقافية تقتضى توزيع الأنشطة والفعاليات على جميع أنحاء الخريطة المصرية، حيث يعيش المواطنون، ولو أفترض أن كل فعالية حضرها ألف شخص، وهذا رقم كبير بالفعل، فإن هناك ملايين من الناس لم يستطيعوا التمتع بهذه الفعاليات أو تذوق ما بها من موسيقى.
وزارة الثقافة تقوم بأنشطة ثقافية عديدة ومتنوعة تصب فى صالح المواطن المصرى، وخدماتها بالغة الأهمية فى بلد كبير متعدد المشاكل، ومعظم مواطنيه يتعاملون مع الثقافة باعتبارها رفاهية لا لزوم لها، ولا تتحملها ميزانيتهم المحدودة، لذلك فإن تقييم الخدمة الثقافية يحتاج إلى إدارة كاملة متخصصة ومستقلة تدار بخبراء ومتخصصين فى مجال دراسات الجدوى الثقافية، حتى يتم ترشيد الفعل الثقافى، والبحث عن جدواه، وهو فعل ضرورى ولازم، لكنه يقتطع من ميزانية الدولة وأموال دافعى الضرائب.