هل أصبح تاريخًا منسيًا؟

احتل الإنجليز مصر فى العام ١٨٨٢ بعد هزيمة الزعيم أحمد عرابى فى معركة التل الكبير، وظلت مصر نحو أربع وسبعين سنة واحدة من كبرى المستعمرات الإنجليزية بعد الهند، وقد صال الإنجليز وجالوا فى مصر، وحولوها لمزرعة للقطن الممتاز طويل التيلة، والذى يمد المصانع الإنجليزية فى لانكشير ويورك شير، بما يجعلها منتجة لأفضل منسوجات قطنية فى العالم تتميز بأنها مصنوعة من القطن المصرى.
صفحات التاريخ الحديث مملوءة بما سطره الإنجليز فى مصر من نهب وعنف وعدوان، وبما قدمه المصريون من فعل مُقاوم لهذا الاستعمار البغيض من قبل الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وهذا الفعل المقاوم بلغ ذروته فى ثورة ١٩١٩ العظيمة وما تلاها، والذى تمخض فى النهاية عن استقلال صورى تم بموجب معاهدة ١٩٣٦ والتى نعَتَها زعيم حزب الوفد، آنذاك، النحاس باشا بأنها معاهدة الشرف والاستقلال.
وعندما قامت حركة ضباط يوليو الأحرار، كان على رأس مبادئها الست، التخلص من الاستعمار الإنجليزى والذى كانت قوته العسكرية قد تمركزت فى منطقة قناة السويس، حيث كانت العمليات العسكرية المقاومة للاحتلال قد أخذت فى إنهاك هذه القوات وهى العمليات التى سقط فيها العشرات من أبناء مصر شهداءً، وقد نجحت هذه المقاومة المصرية فى جعل بريطانيا تعيد حساباتها فى مصر، وتفكر جديًا فى الجلاء عن البلاد.
وفى الثامن عشر من يونيو ١٩٥٤ تم توقيع اتفاقية الجلاء، وليغرب العلم البريطانى عن سماء مصر، ويرفرف علم مصر فى فضاءاتها الممتدة، وأذكر أن العام ١٩٥٤ كان هو مبتدأ دخولى إلى المدرسة وكان النشيد الرسمى الذى تهتف به حناجرنا عند كل صباح هو نشديد شديد الارتباط بجلاء الإنجليز عن مصر، وأولى كلماته هى: «نسر مصر ارتفع واعلو طول الزمن»، إذ كان العلم المصرى وقتها يتوسطه العقاب المصرى الشهير.
لسنوات طويلة كنا نحتفل بعيد الجلاء وهو من أجلِّ الأعياد الوطنية، وهو عيد يؤكد دومًا دور الجيش المصرى الوطنى، وتلاحم الشعب معه فى معركة القناة وكذلك البوليس وعيد الشرطة المتزامن مع ثورة يناير، يؤكد التلاحم بين جميع المصريين خلال معركة طرد المحتل الأجنبى من الأرض المصرية.
الغريب أن يمر يوم ١٨ يونيو دون احتفال يذكر، ودون اهتمام إعلامى لائق، وكأنه يوم عادى كأى يوم آخر يمر بحياتنا، وهذا أمر غريب وغير مفهوم، وذلك فى الوقت الذى تتراجع فيه معرفة الأجيال الجديدة بتاريخنا، ويتم تغييبها ومحو ذاكرتها ووعيها التاريخى بأفكار غريبة تتغنى بالماضى الجميل الذى كان، وبزمن الاحتلال الإنجليزى الذى يتمنى البعض عودته لتعود إلينا الحضارة والمدنية، كما يظن يعتقد هؤلاء.
وزارة الثقافة التى كان اسمها ذات يوم وعند إنشائها وزارة الإرشاد القومى، من أولى مهماتها الاشتغال على رفع وتعميق الوعى القومى لدى الناس، ولعل الوعى بيوم الجلاء وخروج الاستعمار، والاحتفاء بهذه المناسبة التاريخية، لهو مهمة ليست بعسيرة على وزارة الثقافة التى كان من الممكن أن تقيم احتفالية غنائية تتضمن العديد من الأغنيات الرائعة التى تغنت بهذه المناسبة على ألسنة عظماء الغناء المصرى، كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم، والمجلس الأعلى للثقافة لديه لجنة التاريخ التى تضم العديد من أساتذة التاريخ بالجامعات المصرية، والذين يعرفون جيدًا قيمة ومعنى ومغزى الجلاء الإنجليزى عن البلاد، وكان من الممكن إقامة ندوة عن هذا اليوم وما سبقه من أحداث مهمة تتعلق بتاريخ مصر المعاصر، ثم أين دار الأوبرا، إنها تسمى دار الأوبرا المصرية، ألا تستحق المناسبات المتعلقة بسرديات تاريخنا الكبرى قدرًا من الاهتمام؟
الحقيقة أن جلاء الاستعمار الإنجليزى عن مصر وملابساته يستحق التذكير به دائمًا والاحتفاء به دائمًا خصوصًا فى الذاكرة الوطنية وذاكرة الأجيال المقبلة، ومن العيب أن يصبح الثامن عشر من يونيو ١٩٥٤ تاريخًا منسيًا فى ذاكرة المصريين.