الخميس 01 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ماذا جرى للكاريكاتير فى مصر؟

حرف

من الأخبار الملفتة المفرحة، بعيدًا عن الأخبار المأساوية الجارية فى غزة وسوريا، خبر إقامة معرض دولى للكاريكاتير الخاص بالمرأة، شاركت فيه ٤٤ دولة من جميع أنحاء العالم، ومن مصر بالطبع.

حلاوة الخبر، تعود إلى أنه أقيم برعاية السيدة د. جاكلين عازر، محافظ البحيرة، ومؤسسة عبدالله الصاوى للحفاظ على تراث الكاريكاتير المصرى، وهى موسسة أظن أن كثيرًا من الناس لا يعرفون عنها شيئًا- وأنا منهم- والمعرض أقيم بمدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة، وليس فى القاهرة، بقاعة أو جاليرى من تلك القاعات الفنية التى انتشرت بحى الزمالك، ووسط البلد، ولا يؤمها على الأغلب إلا فئات محدودة، محددة من النخب الاجتماعية والثقافية بالعاصمة.

من الطبيعى أن يكون تراث مصر من فن الكاريكاتير تراثًا طويلًا عريضًا ممتدًا إلى أعماق التاريخ، فالإنسان المصرى ساخر بطبعه وخفيف الظل والروح، وهناك رسوم كاريكاتيرية ساخرة تعود إلى زمن الدولة القديمة فى مصر، ولوحة الفئران والقط تعد مثالًا على ذلك، أما فى العصور الوسطى، فقد انتعش فن خيال الظل الذى انتشر كفن شعبى ساخر، قدمت من خلاله انتقادات لاذعة للسلطات الحاكمة وقتها، حتى إن بعض سلاطين المماليك منعوا وحرموا خيال الظل، وأحرقوا عرائسه ومنعوا فنانيه من مزاولة فنونه، ولقد ظل خيال الظل موجودًا بمصر حتى بدايات القرن العشرين وبدأ فى الاضمحلال مع انتشار العروض السينمائية.

أما فى العصر الحديث فلدينا تركة معتبرة من هذا الفن الجميل تبدأ من الفنان صاروخان والمصرى أفندى، ومرورًا بعشرات من فنانى الكاريكاتير الذين ازدهروا مع ازدهار الصحافة المصرية، وخصوصًا بعد صدور مجلتى روزاليوسف وصباح الخير، وبرزت أسماء عبقرية كصلاح چاهين وحجازى والليثى وزهدى وإيهاب شاكر ومصطفى حسين وغيرهم، وفى العقود الأخيرة من القرن الماضى، برزت أسماء نسائية باتت لها بصمتها المميزة فى هذا الفن، ولم تكن المرأة المصرية، قد اقتحمت مجال الكاريكاتير قبل ذلك بجد، وقد لمعت بقوة الفنانة دعاء العدل على صفحات جريدة المصرى اليوم، لذلك فالمفرح أن تكون هناك جمعية تهتم بتراث الكاريكاتير المصرى بصفة عامة، وأن تتحمس سيدة بدرجة محافظ لإقامة هذا المعرض، وأن يكون موضوع المعرض «التمكين الاقتصادى للمرأة»، وهو مسألة تشكل جوهر الإشكالية النسائية فى العالم كله، خصوصًا فى البلدان الفقيرة بآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فالنساء هن الفئات الأشد فقرًا بهذه البلدان، وحتى فى البلدان الغنية فثمة تفاوت بين أجور النساء وأجور الرجال، كما أن كثيرًا من مواقع اتخاذ القرار، ما زالت النساء مستبعدة منها.

من الجميل، أن المعرض عرض بورتريهات كاريكاتيرية لرائدة الصحافة فاطمة اليوسف، صاحبة مؤسسة روزاليوسف، والتى تربت من خلالها أجيال من الفنانين، وكان فن الكاريكاتير هو أبرز سمات إصدارات هذه المؤسسة، بمناسبة شهر رمضان الماضى، الذى عشنا أيامه المفترجة، فقد كانت مجلة صباح الخير تطبع حكايات شعبية بحجم كف اليد مرسومة من قبل الفنان العظيم حجازى، وكانت هذه الحكايات/الكتيبات الصغيرة توزع مجانًا مع كل عدد أسبوعيًا وهى حكايات شيقة ممتعة للصغار والكبار. بمناسبة أن إسبانيا كانت ضيف شرف هذا المعرض، فإن فنانات إسبانيات شاركن بأعمالهن وقدمن محاضرات وعقدن ورش عمل، وتم عرض أعمال مجلة شهيرة بإسبانيا هى «لاتراكا» بالمعرض إلى جانب أعمال الرسام الإسبانى خوان سينتيس بلاسكو.

وأظن أن هذا المعرض كان يستحق الكثير من الاهتمام الإعلامى؛ لأن التركيز على أعمال النساء فى هذا النوع الفنى الساخر الانتقادى، يحمل العديد من الدلالات المهمة التى يجب استدعاؤها الآن لمواجهة كل هذه الظلامية الفكرية والقيمية السائدة، والمتعلقة بالمرأة على وجه التحديد، وكل هذه الشحنات التحريضية، والتى تطلق ضد المرأة هنا وهناك داخل المجتمع، تتجلى نتائجها فى اغتصاب فتيات صغيرات واعتداءات بأشكال متباينة على محارم من النساء، وفى ظل دعاوى فجة وقحة من نوع «لا تظهرى بشورت ساخن أمام مامتك فى البيت».

هذا المعرض الجميل على مستوى الفكرة، وعلى مستوى التنفيذ يستحق الاهتمام بجد، فهو يعبر عن تجليات إيجابية لنساء حقيقيات تجاوزن قيم الماضى المهترئة الفاعلة ضد كينونتهن كبشر وإنسان، وشعار المهرجان ذاته يؤكد هذا الأمر «هى تستطيع»، فالمرأة بالفعل تستطيع أن تكون ذاتها، وعنصرًا إيجابيًا فى المجتمع أبعد من الوظائف التقليدية المرسومة لها، ليس كفنانة كاريكاتير فقط، ولكن ربما ومثلها قال ابن رشد فى القرن الرابع عشر «علموها، فربما كان منها قائد الجيش وقائد الأسطول».

ورغم ما يثيره هذا المعرض من فرح داخل النفس، إلا أنه يوقظ شجونًا كامنة عديدة، تتعلق بما آل إليه فن الكاريكاتير فى مصر الآن، فقد فقد كثيرًا من رونقه وبريقه وتوهجه، بعد أن أوصد فى وجهه كثير من الأبواب، وبعد أن تراجع رغد وجوده فى كثير من الصحف والمجلات والمطبوعات الورقية، والأدهى أنه لم يعد مثلما كان فنًا يشير إلى مثالب الحياة وعوارها ولا فنًا ينتقد وينبه أصحاب القرار، وهكذا يتصاعد السؤال بمناسبة هذا المعرض: ماذا جرى للكاريكاتير فى مصر.