الثلاثاء 19 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

البرنبالى.. الطّاهر لوشّ النشيد

طاهر البرنبالى
طاهر البرنبالى

- مصر كانت شُغله الشاغل من سياسة لفن وكرة قدم وشعر.. وكان دائمًا ما يحلم بها وينتظر أن يراها كما يريد

- عيناه كانتا تشعان أملًا غريبًا ومحبة لم أرَها من الشعراء الذين عرفتهم

«باحذرك/ جبل الرماد من غير ميعاد مستنظرك/ لو إن لونك باش عناد/ وسبت حيطك للشروخ/ وبعت أوتار الشموخ/ والنار بتاكل أخضرك/ ولا طفل بكرة اللى بكى قبل الميلاد/ يقدر فـ مرة يعذرك»...

طاهر/نصرة/نبوية

حينما يرفض الشاعر الموت ويتمسّك بالحياة من أجل أمّه.. هكذا قالت السيدة نبوية قطب أبورحمة، زوجة الشاعر الكبير طاهر البرنبالى، ورفيقة دربه فى إحدى الندوات عنه، افتتحت حديثها بهذه الجملة فبدر إلى ذهنى مباشرة قصيدة درويش الشهيرة «أحن إلى خبز أمّى» فى البيت الشهير «وأعشق عمرى لأنى إذا متّ، أخجل من دمع أمى». 

قالت أمّ خالد: إن البرنبالى بعد وفاة الحاجة نصرة والدته اطمأنّ وأسرّ لها أنه إذا وافته المنية سيكون راضيًا تمامًا لأنه لن يغضب أمّه.. الحياة عند هذا الشاعر الذى عانى طويلًا كانت قرارًا والموت أيضًا كان كذلك.. وهذا واضح جدًّا من تمسكه بها لأجل أمّه وتخلّيه عنها بعد أن فارقت أمه الحياة بأربعة أشهر..

فى كلّ مرّة كان البرنبالى يحارب الموت بكل ما أوتى من قوّة، يهاجمه الموت من كلّ اتجاه إلا أن أسلحة طاهر كانت الأقوى دائمًا، تمسكه بالشعر عشقه الأوّل، وتدثره بالأمل، ومقاومته خشية حزن الحاجة نصرة، وإصرار زوجته المثابرة القوية على موقفها معه، لدرجة أننى فى إحدى زياراتى لطاهر رأيت الدكتور المختص مقبلًا وعلى وجهه علامات الأسى المزعومة التى يتخذها قناعًا ليخبر الأبلة نبوية أن أمر طاهر أوشك على الانتهاء، جاء منكّس الرأس، وقف أمامها، رفعت رأسها عاليًا وألزمته الصمت حينما تحدّثت بمنتهى الحزم والصرامة قائلة: «اسمع يا دكتور، اوعى تكون جاى تقول لى اصبرى واجمدى، لأنّ حالة طاهر متأخرة والكلام اللى بيتقال ده، اوعى تحاول تقنعنى إنّى أتخلّى عنّه لحظة واحدة بحجّة إنّه الأمر زمامه فلت من إيديكم، طاهر عاش بالأمل وعلّمنى أتمسك بيه لآخر لحظة، مؤمن بالعلم وكلّنا مؤمنون بالعلم، والعلم بيقول إنّكم تعملوا اللى عليكم وتسيبونى أعمل اللى علىّ، انتو اعتنوا بيه طبيًّا بس لحد ما أخلّص تحاليل اللى هيتبرع»..

فى هذه اللحظة تراجع الدكتور للخلف وهو يود أن ينحنى أمامها إجلالًا وتقديرًا لولا إحراجه من طاقم التمريض الذى التفّ حوله وهو يستمع إلى ما لم يسمعه من معلميه فى الجامعة، أو قد يكون استمع إليه من قبل وتناساه..

فى هذه الأثناء كان كلّ أصدقاء طاهر وأحبائه موجودين طيلة الوقت حول رفيق دربهم، الشاعر يسرى حسان والفنانة فاطمة محمد على التى حكت لنا عن بعض لقطات من حياة طاهر فى أثناء إقامته فى الورّاق، والفنان سامى البلشى، والشاعر مسعود شومان والشاعر عبده الزراع، الكثير من الأسماء التى لم تفارق طاهر فى حياته ولم تفارقه وهو على فراش مرضه، كل هؤلاء كانوا يستفزونه على الغناء.

.............

«فين ضحكتك/ والصبح نعناعى الطلوع/ شمس وندى وأشواق وطير/ والفلاحين سارحين للغيطان/ ومنشرين الليل ع النخيل/ ينشف بأفراح النهار/ فين صرختك/ وقت القطط ما يطق ف عينيها الشرار/ حزن ومرار/ ووقفت بين جنه ونار/ فينك يا واد؟/ يا اللى انفطمت على الوداد/ وحدفت دمعك للتراب أسراب حمام/ فين اللى كان جواك ملاك؟/ أنا لسه شايفه بعيد هناك/ واقف على شط الهلاك/ إياك تسيبه يطيش/ أو ينتحر على صوت غناك»..

نشيد برنبالى

قبل مرضه الأخير بستة أعوام «فى نهايات ٢٠١١» كنت قد كتبت قصيدة عنه وعنونتها بعنوان «نشيد برنبالى»، حيث كانت حالة طاهر الصحية سيئة فى هذه الآونة، فاتصل بى يومها العديد من الأصدقاء من بينهم الشاعر عماد على قطرى للاطمئنان على طاهر، فى هذه اللحظة انتابنى إحساس الطمأنينة على هذا الشاعر الكبير، حيث أصبحت على يقين تام أن هذا الرجل «البرنبالى» لن يضيّعه أصدقاؤه وأحبّاؤه حتى ولو تخلّت عنه بعض الأسماء الأخرى، عرفت حجم هذا الشاعر فى قلوب محبّيه، لذا بعد أن تخطى هذه الأزمة آثرت أن أحكى له ما حدث من الجميع وقلقهم عليه، ولم أحكِ له عن القلّة المتخاذلة حتى لا أضايقه.. فى هذه الأثناء كان دائم الاتصال بى للاطمئنان على استفتاءات الدستور والانتخابات، كنت فى كل مرة أقول له: يا عمّ ريّح دماغك.. فيجيبنى: إزاى، استحالة، لازم نعرف الدنيا ماشية إزّاى وإلا نبقى ضيّعنا حياتنا هدر يا سعيد.. 

فى كل مباراة لمنتخب مصر كان يتصل بى، ويوم المباراة الشهيرة بين مصر وغانا، مباراة الذهاب، قلت له: شكلنا هنعمل مفاجأة.. بعد أن انتهى الماتش بفوز غانا الساحق ٦-١، اتصل بى: والله عملنا مفاجأة.. فقلت له: يا عمّ هنعوض إن شاء الله.. ضحك ويوم مباراة العودة مع أول هدف هاتفنى قائلًا: شكلنا هنعوض يا أبوالسعود.. 

طاهر كانت مصر شغله الشاغل، سياسة وفن وكرة قدم، وشعر وشعراء شباب، كان دائمًا ما يحلم بها، وينتظر أن يراها كما يريد..

حكايتى مع البرنبالى

بعد أن أنهيت سنوات الجامعة عدت من مدينة كفرالشيخ إلى قريتى منية المرشد، وفقدت الأمل فى التواصل مع أندية الأدب ومع الشعراء، نظرًا لظروفى المادية التى لم تكن تسمح لى بقطع المسافة من منية المرشد مسقط رأسى إلى كفرالشيخ المدينة، فى هذه الآونة أرشدنى أحد الأصدقاء بأن هناك شاعرًا كبيرًا من «نواحينا» يعمل فى القاهرة وسبق لهذا الشاعر أن كتب أغانى مسلسلات، وأخبرنى أن هذا الشاعر متزوج من جارتى فى الشارع «الأبلة نبوية» كما كنت أناديها، توجهت إلى منزل الحاج قطب أبورحمة، رحمه الله، والد الأبلة نبوية وسألته عن الأستاذ، فسألنى مبتهجًا: «أنت تعرف طاهر؟» فأجبته «دا شاعر كبير» فوعدنى أنه عندما يأتى هو وزوجته من مصر سوف يخبرنى لأتمكن من مقابلته قبل أن يعود إلى القاهرة، اشتريت مجموعة ضخمة من ورق الفلوسكاب، وأحضرت طبلية أمى وعكفت على نقل قصائدى من أجندتها لأجهزها فأعطيها لطاهر الذى لم أرَه من قبل فور مجيئه إلى قريتنا، وذات يوم جاءنى عم قطب متهلل الوجه، منفرج الأسارير، مناديًا بصوت عالٍ: «يا سعيد، يا واد يا سعيد، يا أم سعيد ابعتى سعيد للدكتور طاهر علشان جه وعايز يشوفه»، هرولت إلى بيت عم قطب أبورحمة، ومعى من القصائد ما يجعلنى أقف أمام هذا الشاعر الكبير، خرج لى طاهر فور وصولى، ربت على كتفى، وسألنى: انت بتحب الشعر؟ فمددت يدى إليه بالورق الذى أحمله، فقال لى: سأقرأ وسنتواصل.. 

خرجت من هناك وأنا أشعر بكمية أمل لا مثيل لها، حيث إن عينيه تشعان أملًا غريبًا، ومحبة لم أرَها من العديد الشعراء الذين عرفتهم.

بدأت أتتبع ما يكتبه الرجل، وما يكتب عنه، وفى أثناء مرضه وإجراء العملية الشهيرة «عملية زرع الفصّ» كنت لا أكف عن متابعة مجلة «أدب ونقد» وجريدتى «أخبار الأدب»، و«الأهالى» التى بشرتنى ذات يوم بعنوان عريض يوحى بأن طاهر تعافى حينما كتبت عن عملية زرع الكبد التى تبرعت فيها زوجته الصامدة الأبية التى آثرت حياته رغم خطورة الأمر على حياتها، والتى دخلت إلى غرفة العمليات دون أن تخبر أهلها بذلك، والتى كتبت عنها «الأهالى» فى ذلك الوقت العنوان الشهير «إيزيس تهب الحياة مرة أخرى لأوزوريس».. 

نزحت إلى القاهرة باحثًا عن فرصة عمل قبل أن أعمل فى الثقافة الجماهيرية، وقصدت حزب التجمع لحضور ندوات وأمسيات مجلة «أدب ونقد»، وذات ليلة وجدته على مأدبة الشعر هناك، قال قصيدته وكان من المفترض أن يرحل لحالته الصحية لكنه صمم على الجلوس إلى أن يقدمنى مدير الأمسية، وطلب من مدير الأمسية تقديمى، قدمونى فى نهاية الليلة، وبعد أن قلت قصيدتى، وجدته يبتسم وقام ليربت على كتفى قائلًا لى «احلويت يا سعيد».

المواقف النبيلة من طاهر كانت مستمرة، من تشجيع لسؤال عنى كلما جاء إلى قريتنا، فى هذه الأثناء قمنا بتنظيم يوم للاحتفاء به فى قريته برنبال وكنت مشرفًا على هذا اليوم بدافع المحبة وبحكم عملى فى الثقافة الجماهيرية ببيت ثقافة مطوبس ٢٠٠٦.. 

هذا اليوم لم أرَ مثيله حيث اجتمعت القرية بعد أن خرجت عن بكرة أبيها لتملأ مركز الشباب للاحتفاء بهذا الابن البار بأهله، قبل أن يكون بارًّا بالشعر وبأصدقائه، مرّت هذه الليلة كالنسيم البارد على قلوبنا، سمعناه جيدًا ورددنا أغانيه مع عود ضيفه الفنان حسنى عامر.

قبل أن يدخل فى مرحلة مرضه الأخيرة كان قد تقدم بأعماله الكاملة إلى إدارة النشر التى أعمل بها بقصور الثقافة، وكنت فى قمة سعادتى لأننى يمكن أن أتدخل وأجد فرصة لهذه الأعمال للخروج إلى النور، جاء بها مزدانًا بالأمل كعادته، لكن السلسلة لم تصدر أى عمل عامية منذ عام ٢٠١٢، وتم إلغاؤها عام ٢٠١٦، هاتفنى وسألنى: هى الأعمال اللى عندكم ضاعت؟ فأجبته أنها موجودة وسأجهزها له، جاءنى قبل مرضه بأيام قلائل، أخرجت له فايل هذه الأعمال وكلى حزن، أخذها منّى وعيناه تفيضان بالحب كعادته.

بعدها بفترة بسيطة علمت بمرضه فاتصلت بأمّ خالد زوجته، وسألتها عنه، فأجابتنى: طاهر أوّل ما فاق من الغيبوبة قال لى هو سعيد شحاتة ما سألش علىّ... فاضت عيناى بالدموع وأنا أخبرها بأننى كنت فى الجزائر ووصلت إلى القاهرة منذ أربعة أيام فقط، لم أجد ما أعتذر به سوى ترك كل شيء والذهاب إليه فى المستشفى... 

«وف كل مرة تكون شهيد/ شاهد وشهد وشهم شاهر شهوتك للعيد/ إيه اللى خلاك النهارده تنطفى قبل الأوان/ وتسرب الأحلام من بين مواجع جنتك زغاليل يمام/ وركبت ليه فرس الملام.. ولا عدت فارس/ كابسة عليك الهموم ومتلتلة الأسئلة/ كان أبقى ليك تفضل شهيد/ والّا تعيش منزوف نشيد؟» 

ماتزيفوش الحقايق

رافقت البرنبالى قدر استطاعتى، كان دائم السؤال عن أحبائه فى هذه الفترة، متسامحًا بشكل غريب، يلتمس العذر للجميع، ومن كثرة مريديه الذين ترددوا عليه فى المستشفى سألنى «عمّ ربيع العامل»: هو إنت أخوه؟ فأجبته: «أكتر من كده، دا أستاذى وحبيبى».. فخرج عم ربيع ينتظرنى فى الخارج ليسألنى ثانية: هو الأستاذ البرنبالى شغال إيه؟ فأجبته: شاعر كبير، كتب أغانى مسلسلات «حياة الجوهرى» اللى يسرا كانت بتمثل فيها، و«الوشم» اللى أحمد عبدالعزيز... فقاطعنى بس بس، هو اللى بيقول ما تزيفوش الحقايق؟ فأجبته: بالظبط، الله ينور عليك يا عم ربيع.. 

بعدها وجدت إحدى العاملات قادمة لمداعبته: أنا اسمى بسمة وجوزى اسمه بسام ممكن تكتب لنا غنوة طويلة؟ فضحك قائلًا بصوت ضعيف جدًّا: بسمة وبسام وباعونا بكام.. وكان يكمل على هذا النحو مع من يأتى لمداعبته من الممرضين، ثم يعود للغناء، فنغنى سويًّا «وشمك شبيه وشمى» «مالناش بديل إلا اختيار المستحيل»...

وظلت إيزيس التى وهبت أوزوريس الحياة فى دار الفؤاد إلى جواره فى مستشفى ٦ أكتوبر للتأمين الصحى بالدقى، إلى أن حملناه من أمامها جثة هامدة، نحن نراه بشكل فيزيقى هكذا، لكنها ترافقه حيًّا بداخلها إلى أن توارى جسده فى قريته برنبال، وتصطحب روحه ليعودا إلى بيتهما فى مدينة السادس من أكتوبر... 

نجمة الضهرية

نجمة الضهرية هو أول عنوان يضعه طاهر على ديوان له، هذا الديوان أصدره الشاعر وآثر أن يستثنيه من دواوينه التى اتخذ لعناوينها شكلًا معينًا، حيث بدأها كلها بحرف الطّاء، أول حرف من اسمه.. ليعلن أنها كلها أسماء موازية لاسم طاهر، لكن للمصادفة الغريبة ورغم أنه لم يورد اسم هذا الديوان نكتشف أنه يبدأ بحرف النون، «نبوية» اسم زوجته ورفيقة دربه، وبالمناسبة أصدر طاهر هذا الديوان قبل أن يتعرف على «الأبلة نبويّة».. لكنه آثر أن يكرمها روحيًّا قبل أن يتعرف عليها، أو هكذا ظننت..

وتوالت الدواوين بعد ذلك.

«أنا مش بالومك/ والخيل بترمح مهزومين من فوق هدومك/ والناس فى قلبك مدفونين بلون غيومك/ والصبح ناضح مر يومك/ أنا مش بالومك/ لكن بافكر بسمتك بالاختيار/ وبافكرك/ إنت اللى صليت بالجميع زهر وربيع/ إن الشتا هش وهزيل من غير رعودك/ أو زلزلة جدران وعودك/ وأنا مش بالومك.. مش بالومك/ والخيل بترمح مهزومين من فوق هدومك/ والناس فـ قلبك مدفونين بلون غيومك/ والصبح ناضح مر يومك/ مش بالومك.. مش بالومك» .

.............

هذه القصيدة «التى وضعتها بين فقرات هذا المقال» هى الأخرى من القصائد التى ربطتنى بشاعرية طاهر البرنبالى قبل أن أراه، حيث كتبها طاهر فى رثاء الشاعر سعد محمد شحاتة «ابن عمى» رحمة الله عليه، فكنا نرددها صغارًا، لدرجة أننى حفظتها قبل أن أرى طاهر أو أتعرف عليه، «مش بالومك».