الخميس 15 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التسمم الثقافى.. مَن المسئول عن جهل العامة بكل هؤلاء الأحياء بيننا من كبار الكُتّاب؟!

حرف

- فى مصر الآن كثير من الكُتّاب والمبدعين الكبار.. لكنكم تتزاحمون على «بجة» و«بلبن»

- المقارنة بين مراد وكونديرا أو نجيب محفوظ ظالمة للطرفين.. ولا تختلف عن المقارنة بين بليغ حمدى وموتسارت وعصام كاريكا!

ومن نكد الدنيا على الكاتب فى مصر أن يكون حاضرًا فى ندوة ثقافية أو أدبية، ثم تقف سيدة أو فتاة أو شاب، أو حتى رجل عجوز «زى حالاتى»، ليسأل بكل جدية وألم: «لماذا لا يوجد كاتب كبير فى مصر، منذ نجيب محفوظ ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس؟! هل عقمت مصر عن إنجاب أجيال جديدة من الكتاب الكبار؟!».

ومن نكد الدنيا على صاحب هذا السؤال أن أكون بين الحاضرين فى الندوة، أو يكون بينهم واحد مثلى.. لا يخشى شيئًا، ولا يلتفت لأحكام العامة، لا يخضع لسلطة، أو يطمح فى جائزة أو مكافأة، فيرد على سؤاله بتعالٍ لا يحبه الكثيرون: «لدينا كثيرون، وكثيرون جدًا، ولكنك لا تعرفهم، ولم تقرأ لهم، ولا ذنب لهم فى جهلك وجهل النقاد والمؤثرين ومحترفى الدعاية والإعلان بما يكتبون»!

فأما مصدر الألم الذى يعانى منه صاحب السؤال، وهو حقيقى تمامًا، ومؤلم جدًا، بل وشديد الإيلام، فلأنه يعانى من حالة تسمم ثقافى ومعرفى شديدة القسوة، وهو لا يدرك أنه هو نفسه، للأسف الشديد، أحد أهم المصادر أو العناصر التى تسببت فى حالة التسمم الثقافى والمعرفى التى أصابته ويعانى منها ومن قسوتها..

نجيب محفوظ 

الأمر فى ظنى فى منتهى البساطة، فالفراشة يجذبها الضوء وتطير إليه، لتصرعها حرارة المصباح.. والعيب هنا ليس فى المصباح، ولكن فى «الوهم» الذى اشترته الفراشة.. ربما لا يكون المثال دقيقًا، أو مكتملًا، لكنه رأى يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، لهذا فدعنى أقول لك إننى مثلًا تجذبنى رائحة «الحواوشى»، وفى كل مرة تصادفنى فيها تلك الرائحة، تهفو إليه نفسى، ويسيل لها لعابى، فهل أملك أى يقين عما يحتويه رغيف العيش الساخن من مكونات لا يعلم بها إلا الله والطباخ وصاحب المحل؟! بالتأكيد لا.. لكننى إن لم تسترح لما تناولته معدتى، لا أعود إلى ذات الطباخ ولا صاحب المحل إن لم أقاضهما أو «أجرسهما».. بينما تظل نفسى تجرنى من رقبتى كلما شممت الرائحة.. فأطير إليها على أمل أن يكون الطباخ فى هذه المرة قد مر على ديستويفسكى أو سمع عن كواباتا ونجيب محفوظ، ربما لا أكون بحاجة إلى توضيح ما ذكرت، لكننى سوف أوضح وأمرى وأمرك إلى الله.. الرغيف هنا يا صديقى هو الرواية، والطباخ هو المؤلف وصاحب المحل هو المكتبة.. وأنت يا صديقى، إن أصابك التسمم من الأكل فى المطاعم المشهورة سيئة المحتوى، فذلك لا يعنى أن المطاعم الجيدة وعالية الجودة غير موجودة.. هى «طفاستك» يا صديقى، وسعيك وراء الرائج والسهل والمشهور.. هى وحدها، أو بين أسباب أخرى، المسئولة عن إصابتك بالمغص والإسهال والتسمم.. فلا تسألنى من فضلك عن غياب أو حضور كبار الكتاب فى مصر، لأنهم أكثر من الهم على القلب، ولا مسئولية عليهم فى حاجتك للإجابة عن مثل هذا السؤال.

أشرف العشماوي

طبقات الإبداع والتلقى وخطأ الخلط بينهما

فى تاريخ الآداب العالمية هناك دائمًا نوعان رئيسان من الكتابة والفن، كتابة وفنون شعبية، تستهدف المتلقى متوسط الثقافة والمعرفة والخبرات، وأخرى أرقى قليلًا، تستهدف الطبقات العليا من القراء ذوى الميول الفكرية والفلسفية، والباحثين عن وضعية أفضل للبشر ولأنفسهم على سطح الأرض وفى مواجهة قوى الوجود المجهولة، وتقلبات النفس البشرية وصراعاتها مع ذاتها.

الأولى تقدم لمتلقيها فى الرواية مثلًا، حكايات عن الحب والصداقة والخيانة، وبعض قصص التاريخ المسلية واللطيفة، وألغاز الجريمة ذات الحبكة المعقدة، أو شبه الكاملة، والمحفزة للقارئ للمشاركة فى فك شفراتها وربط خيوطها.. وفى الفنون التشكيلية تجد باقات الزهور، وأطباق الفاكهة والبطيخ والمناظر الطبيعية، بالضبط كما يعتمد الشعر فيها على النظم الذى يرتكز على القفشات، وعبارات التنمية البشرية والعواطف البسيطة. 

هذه النوعية من الفنون والآداب الشعبية ينتهى دورها، وتنتهى علاقة المتلقى بها بمجرد انتهاء الغرض منها، فالرواية لا يعود إليها مرة أخرى بعد حل اللغز أو كشف المخفى من الأوراق والأحداث، واللوحة لا يعود للوقوف قدامها وتأمل ما بها بمجرد تعليقها فى صالون المنزل، والأغنية لا يبقى تأثيرها فى نفسه بعد الرقص فى الفرح. 

إبراهيم أصلان 

النوعية الثانية، تنتمى إلى طبقة أخرى من الكُتّاب والمتلقين على حدٍ سواء، ويمكنك أن تتعرف عليها وعلى سماتها من كتابات ديستويفسكى ونجيب محفوظ وميلان كونديرا، تراها فيما كتبه رامبو وصامويل بيكيت ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم، وغيرهم من أعيان دولة الكتابة والفن حول العالم، هؤلاء الذين ينفقون العمر «ليمر النور للأجيال مرة» حسب كلمات الشاعر الكبير أمل دنقل.. يمكن أن ترى ما يمور به داخلك فى لوحة لسلفادور دالى أو بيكاسو أو مودليانى، وفى مقدمة موسيقية يكتبها بيتهوفن وموتسارت ورياض السنباطى أو محمد الموجى وصولًا إلى ياسر عبدالرحمن وراجح داود.

وكما توجد كتابات للأطفال، هناك كتابات للمراهقين، ولربات البيوت، ومحبى أدب الجريمة والرعب، ودون أى تقليل من مُنتَجٍ لحساب آخر، فهى طبقات من الإبداع والتلقى، تتجاور أو تعلو إحداها فوق أخرى، من حيث العدد أو من حيث المحتوى، من حيث الجماهيرية، أو من حيث القدرة على التأثير.. ولكن دون خلط للأوراق، ودون مقارنات عبثية لا أساس لها.

أحمد صبري أبو الفتوح 

وجزء شديد الأهمية من هذه المسألة سببه أنك يا صديقى تقرأ روايات أحمد مراد وريم البسيونى أو أشرف العشماوى مثلًا، لأنهم فى ظنك الأكثر شهرة فى مصر والعالم العربى، ولأنهم كذلك، فمن الطبيعى أن تظن أنهم أفضل من يكتبون الروايات على عمومها فى وقتنا الحالى، ولأنك لم تأتِ إلى دنيا الكتب من اللاشىء، فإنك تقرأهم وفى ذاكرتك ما تبقى من تصورات بشأن روايات نجيب محفوظ أو إبراهيم أصلان أو خيرى شلبى، عبدالحكيم قاسم أو صبرى موسى أو محمد البساطى، فتحاكم هؤلاء الجدد وفق تصوراتك عن تطور حركة الأدب، وهنا تكون الصدمة، لأنك لا تعرف غير المشهورين، لا تعرف شيئًا عن غيرهم من الكُتّاب ولا يأخذك ما قرأت أو لا يثير دهشتك أو يفتح عقلك على أى أسئلة.. وهو بالتأكيد لا يلبى طموحاتك فى قراءة أعمال تقترب من عظمة ديستويفسكى فى قدرته على رؤية أعمق أعماق النفس البشرية، ولا تجد فيه أى تحليلات فلسفية واجتماعية وسياسية كتلك التى كان يبرع فيها ميلان كونديرا، فتظن أنه لا يوجد فى مصر مثل هذه النوعيات من الكتابة!!

أحمد عبد المعطي حجازي

لا يا صديقى.. مراد وغيره كُتّاب جيدون، وجيدون جدًا.. ولكن فى منطقتهم، فى منطقة أخرى غير التجريب، وغير الجرأة فى طرح أسئلة الإنسانية بشأن الحياة والوجود، وعندما تضع أحدهم فى مقارنة مع ميلان كونديرا أو جيمس جويس، أو توفيق الحكيم فإنك تظلم الجميع، أنت هنا تقارن بين عالمين مختلفين، تقارن بين مُنتج شعبى وترفيهى بسيط، وآخر محفز للعقل والروح والجسد، بين موتسارت وبليغ حمدى وعصام كاريكا.. ربما تعرف أن تابلوهات الفاكهة والبطيخ لا تخلو من الفن، لكن وضعها بالقرب من لوحات كلود مونييه وفان جوخ يعنى خللًا معرفيًا يستوجب الانتباه.. من حقك بالطبع أن تحب أغانى المهرجانات، لكنك تخطئ عندما تتساءل فى ألم «أهؤلاء هم ورثة بليغ حمدى ومحمد عبدالوهاب والموجى وكمال الطويل»؟!

بالطبع لا.. لا هؤلاء هم ورثة نجيب محفوظ ويحيى الطاهر عبدالله أو فؤاد حداد، ولا هؤلاء يمتون بصلة لمحمود الشريف ومحمد فوزى وعبدالعظيم عبدالحق، هذه دنيا وتلك أخرى.. هنا عالم وهناك عالم آخر، طريقان لا يلتقيان إلا فى عقل عاجز عن رؤية تلك الفروقات البسيطة.

محمد المخزنجي

مرة أخرى.. أرجو ألا يظن أحد أننى أريد التقليل من المنجز الثقافى والمعرفى لأى ممن ذكرت أسماءهم، فهم من هم، رضيتُ أم أبيت، أحببت كتاباتهم أم لم أحب، والحقيقة أننى ما ذكرت أسماءهم إلا لأنهم الأشهر والأكثر حضورًا لدى جمهور القراء فى مصر.. ولأن هذا شأنى وحدى، فربما لا تروق لى كتاباتهم، ولا أراهم الأجود أو الأكثر إبداعًا وموهبة، فأظن أنه من الواجب أن أوضح لك يا صديقى أن هذه هى ذائقتى ومزاجى الشخصى فى القراءة، وهو بالمناسبة قابل للتغيير والاختلاف بين لحظة وأخرى.. والحقيقة أيضًا أننى أحترمهم جميعًا، وأحترم دأبهم ومثابرتهم فى أعمالهم، وأرى أن لهذه الكتابات جمهورها، ومتذوقيها.. بل وأرجو ألا ينجر أحد إلى اعتبار ما أقول به هو الرأى النهائى، غير القابل للمراجعة والتصحيح، فهو مجرد رأى تقابله آراء أخرى كثيرة، وكلها غير قابلة للتقليد والاتباع.. فقط كن أنت صاحب الرأى والقرار فيما يتعلق بغذاء روحك وعقلك، ولا تلم أحدًا على سوء اختيارك، لا تبحث عن تمثال تعلق الفأس فى رأسه، فهذا عقلك، وتلك ذائقتك، وقدرك ونصيبك من الثقافة والمعرفة والأدب.

جارالنبي الحلو  

كل هؤلاء كُتّاب كبار ومهمون

القصة التى ذكرتها فى البداية ليست وليدة الخيال، هى واقعة حقيقية تمامًا، مُعادة ومكررة، وتكاد تحدث فى غالبية الندوات واللقاءات الفكرية فى مصر، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وقاعات المنتديات الفكرية والثقافية فى القاهرة والمحافظات، ليس بكل تفاصيلها بالطبع، ولكن بأشكال وصور ومعدلات تكاد تكون يومية، ومنها مثلًا ما حدث قبل فترة قريبة فى ندوة صالون «الدستور» للاحتفال بالكاتب الكبير جمال الغيطانى..

كانت القاعة حاشدة بالكُتّاب الكبار والمهمين، ومنهم مدير الصالون والمسئول عن فعالياته الشاعر والمؤرخ شعبان يوسف، وإلى جواره الناقد الكبير الدكتور حسين حمودة، والكاتبة الكبيرة سلوى بكر، وهى من تطوعت للرد على صاحبة السؤال بلطفها المعتاد، منطلقة من توقعها، وربما من معرفتها بصاحبة السؤال، والتى يبدو لى أنها كاتبة أو محبة للقراءة أو تربطها صلة قرابة بالراحل الكبير، لم تطل سلوى بكر فى ردها، وقالت باختصار وهى تشير إلى الحضور فى القاعة: «حضرتك بصى بس حواليكى.. كل دول كُتّاب كبار ومهمين..»، ثم راحت تعد لها بعض الأسماء ممن يجلسون حولها.. بينما كنت أقول بينى وبين نفسى: «مصر طول عمرها لا تخلو من كُتّاب كبار.. بس إنتوا اللى جهلة وبتقرأوا غلط»!

بليغ حمدي 

وبصرف النظر عن الغلظة فى تعليقى الذى لم أصرح به، ولطف سلوى بكر، وعمر وجنس السائلة، فالحقيقة أن الكاتب، أى كاتب، يجد نفسه فى حالة حرج شديد فى مثل هذه المواقف، تقف الكلمات فى حلقه، مُرة ومؤلمة، فلا يستطيع أن يقول له أو لها «وما ذنب الكُتَّاب فى جهلك بهم، ما جريمتهم إذا كنت لا تقرأ سوى لمن يتحدث عنهم مؤثرو مواقع التواصل الاجتماعى من المراهقات والمراهقين، وممن يجيدون التربيطات مع محترفى الترويج والدعاية والإعلان هنا وفى دول الخليج وغيرها؟!».

ماذا فعل لك الروائى المثابر أشرف الصباغ لكى يسمع هذه العبارة القاتلة؟! وهو من لا يملك أى أسلحة دعائية، ولا حيلة لديه سوى الكتابة المبهرة والمتجاوزة والاجتهاد لتطوير أدواته؟! لماذا يدفع فتحى إمبابى ومحسن يونس ورباب كساب وسهى زكى ثمن جريك وراء أحمد مراد وريم البسيونى، ولهاثك خلف حفلات التوقيع لأشرف العشماوى، ويوسف زيدان وإبراهيم عيسى وغيرهم من كُتّاب وروائيين مشهورين، لا يخلو يومهم من «ترند»؟!

درويش الأسيوطى

لماذا تجد كاتبة كبيرة ومؤثرة بحجم سلوى بكر نفسها مضطرة تبتسم لكى تلطف من مرارة استقبالها لسؤالك العبثى والمتهور؟! هل قرأت لأى منهم قبل أن تواجه الجميع بمثل هذا السؤال المؤلم؟! وماذا تتوقع من شاعر بحجم إبراهيم داود وإبراهيم عبدالفتاح ردًا على سؤال مبعثه كسلك العقلى، وتقصيرك أنت، لا أحد غيرك؟!

ماذا يفعل الكاتب عندما يشعر ويتأكد بأذنيه أنه يحرث فى الماء، يتحدث إلى جمهور من الصم، يكتب لحشد ممن لا يجيدون القراءة؟! ولا يترددون فى طرح مثل هذه الأسئلة المستفزة، والخاطئة.. ودون أن تعرف أنه فى هذه اللحظة التى نعيشها الآن، لدينا مفكر وكاتب وشاعر كبير اسمه أحمد عبدالمعطى حجازى، وهو بالمناسبة يكتب مقالًا منتظمًا بصحيفة «الأهرام»، وتستضيفه القنوات الفضائية والأرضية والإذاعات المحلية والدولية، والصحف المصرية والعربية والأوروبية، لكنك من تقف مسحورًا مذهولًا أمام «ترندات» يوسف زيدان، «وفرقعاته»، وتجلس مسحورًا أمام إبراهيم عيسى، وتلاحق برامجه من فضائية لأخرى.

سلوى بكر 

كم عدد قراء محمد المخزنجى والمنسى قنديل أو جار النبى الحلو؟! أو محمد فريد أبوسعدة، ورضا البهات، وصفاء النجار وضحى عاصى وأحمد صبرى أبوالفتوح وخالد إسماعيل، ومحمد بركة؟!.. هل قرأت لسمير فوزى أو مسعود شومان أو سعاد سليمان؟ ماذا تعرف عن كاتب مسرحى كبير اسمه درويش الأسيوطى أو سعيد حجاج؟! عن شاعر مدهش اسمه محمد آدم، أو جمال القصاص، أو كمال عبدالحميد؟!.. كل هؤلاء كُتّاب كبار يعيشون بيننا الآن، ولو كان الأمر بيدى، فلن يسعنى عدد كامل لكتابة الأسماء وحدها..

هنا مصر يا صديقى.. أرض الكتابة وصناعة التاريخ والأساطير والآداب والفنون، منذ نصوص الأهرامات، ومسرحية «الفلاح الفصيح»، وحتى كتابات هانى القط ويوسف الشريف ومحمد عبدالجواد، وأحدث كاتب فى أيامنا هذه.. فاصمت من فضلك ولا تحدثنا عن «بجة» أو «بلبن».. ولا تشكو من حالات التسمم التى تصيبك بسبب «طفاستك».. وعاداتك السيئة فى التعامل مع عقلك وجسدك وروحك التى أصابها العطب.