الهروب من فخ الشر.. قراءة جديدة فى «الإخوة كارامازوف»

- كان لمصمم الإضاءة «عبد الله صابر» دورٌ ليس مساعدًا فقط بل أساسى فى العرض
- المهرجان القومى للمسرح قدم العرض فى دورته الأخيرة على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية
ما الذى يمنع الإنسان من الانجراف نحو شروره؟
هل السبب إيمانه بوجود قوة عليا تراقبه؟ أم معرفته بوجوب الثواب والعقاب سواء فى الدنيا أو ما بعدها هو ما يدفعه لكى يمتثل للخير؟ هل حقًا بعد ذاك يصبح إنسانًا أم أنه يُروّض كى يصير إنسانًا محكومًا بالعصا خوفًا من العقاب وأملًا فى المكافأة؟ وغياب هذه الحقيقة، هل يُحرّره من سجن الفضيلة أم هو من يختار أن يظل إنسانًا؟!
شاهدت ضمن فعاليات المهرجان القومى للمسرح الدورة الثامنة عشرة عرض الإخوة كارامازوف على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية، عن رائعة الكاتب الكبير فيودور دوستويفسكى، إخراج عبد الرحمن محسن، وإعداد إسماعيل إبراهيم، بطولة مجموعة من فنانى المعهد العالى للفنون المسرحية.

عند الحديث عن هذه الرواية الخالدة التى تتناول النفس البشرية بما تحمله من تعقيدات وتطرح أسئلة فلسفية عديدة تجعل من الصعب الغوص فيها جميعًا فى آن واحد، وكون المسرح محكمًا بزمن وإطار محدد يعتمد على التكثيف، اختار إسماعيل إبراهيم بحرفية التركيز على القضية الأساسية، وهى كيف يجد الإنسان المعنى فى عالم يفتقد إلى المنطق والمعنى. فبغياب المرجعية يتشظى الفرد إلى أن يفقد هويته.
لطالما كان الصراع من أجل الهوية هو ما يهوى بالفرد، حين نجد ديمترى الذى قام بدوره (مينا نبيل)، الذى يُعد صورة حية مصغرة لوالده، الذى لطالما احتدّ بينهما الصراع والكره المتبادل، وهى فى الحقيقة اعتراف بكره ديمترى لنفسه، فهو يرفض كل ما يفعله والده، وفى نفس الوقت يُعد هو المعادل والامتداد له فى كل أفعاله، ولكن بقتله سوف يكون قتلًا لكيانه وإن كان رافضًا لها، لذلك دائمًا ما كان يهدد بقتله ويعلنها على الملأ، ولكن حين جاءت اللحظة لم يقوَ على قتله بالفعل، فهو أجبن من أن يقوم بقتل نفسه التى يراها فى والده، الذى قام بدوره «أمير عبد الواحد»، الذى تمكّن من أداء دورٍ مركب على المستوى النفسى، الذى يُظهر الإعداد الجيد للدور، والأداء الذى يتقلب بين الجد والهزل بحرفية مناسبة تمامًا للحظة.

يدور العرض حول الصراع فى مَن قام بقتل الأب، الذى يتبلور فى مشهد المحاكمة، ويضع أمامنا فى تشكيل بصرى بديع حقيقة كل فرد، التى تظهر عند الأزمات. نجد إيمان «إليوشا» الذى لا يهتز وتصديقه، بل وهجومه لأخيه ديمترى، هو بمثابة دفاع عن الأخلاق والأفكار التى يؤمن بها إليوشا، وإن ساورته نفسه من قبل على الوقوع فى الخطأ، ولكن الوقوع فى الخطأ هو صفة بشرية، بينما طريق العودة مرة أخرى يلزم المجاهدة والثبات على المبدأ.
كما نرى خوف ديمترى رغم اعترافه بعدم قتل الأب، ولكن لا أحد يصدقه، فما يظهر على السطح أقوى مما يختبئ فى العمق، والكره أكثر تدميرًا وتأثيرًا على المرء.

ويظهر مدى دهاء الأخ غير الشرعى «سميردياكوف»، القاتل الفعلى والمدبِّر لكل الأحداث، وتلاعب جروشينكا وحِيَلها، كونها الوسيلة التى استغلها سميردياكوف للإيقاع بديمترى، وانتقام خطيبته السابقة من ديمترى لتركها والذهاب لامرأة أخرى، واعترافها الباطل على ديمترى.
وفى المقابل يقف إيفان المفكر، لأول مرة متشككًا، مترددًا، حائرًا، غير قادر على الاعتماد على الشىء الوحيد الذى يميزه وهو عقله. قد قام بدور إيفان «عبدالفتاح الدبركى» ببراعة وسلاسة فى هذا المشهد، كحصان أسود طوال العرض يشاهد فى هدوء، المثقف الواعى المفكر الذى ينهزم فى النهاية فى مشهد ملحمى بينه وبين أخيه غير الشرعى.

وبالحديث عن سميردياكوف، الذى قام بدوره «مصطفى خطاب»، الفنان المتمكن من دوره، الذى قام ببراعة بالتنقل بين أقطاب النفس البشرية، بين الوداعة والدناءة، بين الخضوع والتمرد، معتمدًا على عقله الذى لطالما شكك فيه الجميع، خاصة والده الذى كان دائمًا ينعته بالمسخ أو الأبله، حيث كانت المشاهد بينهما تتراوح ما بين المزاح والعنف، وعلاقة السيد بالعبد التى انقلبت فى النهاية ليصبح العبد هو سيد قراره ويقوم بقتله فى ذروة وفورة من الإبداع والتمثيل الصادق.
الذى يبرر بالفعل ما الذى يجعل الإنسان يتحمل المشقة أو الإساءة، هل لأنه غير قادر على الرد؟ أم فقط ينتظر الوقت المناسب؟ هذا ما حدث مع سميردياكوف.

منذ بداية العرض، يحاول إيفان إقناعه بأفكاره بعدم وجود إله، حيث لا حياة أخرى بعد الموت، لا عقاب ولا جزاء عن احتماله لهذه الإهانات، فعلى المرء أن يكون لديه الشجاعة لمواجهة مصيره فى الدنيا وينتزع حقه بيديه، وهذه الفكرة وجد فيها سميردياكوف خلاصه، لكى يُلقى باللوم على إيفان وأفكاره.
بحلول مشهد النهاية، حين يكشف سميردياكوف عن المكيدة التى دبرها وقتله لأبيه، متهمًا إيفان، إنه وإن اعترف بأنه القاتل المادى، يكون إيفان قد قتله أيضًا بأفكاره، متساويًا معه فى الجُرم.

عند الحديث عن روائع دوستويفسكى نعلم أن القصة ستكون البطل الأساسى، ولكن فى هذا العرض نجد أن توظيف القصة أو الإعداد جاء بحرفية شديدة من المخرج، معتمدًا على إيقاع متماسك ما بين طرح الأفكار الفلسفية وبين الموازنة فى تقديمها للمتلقى، حتى لا يمل ويقع فى دائرة الفكر دون الإمتاع، بل على العكس، لقد امتاز العرض بتشكيل بصرى رائع، من حيث الديكور الذى كان حاضرًا بشكل مبهر، ولكن لم يتم التعامل مع الديكور أو استغلاله بالشكل الوافى أو التعامل مع المستويات المختلفة فيه، فكان من أجل الإبهار أكثر من أى شىء آخر.
فى حين كانت الموسيقى والاستعراضات، خاصة التى كانت بها جروشينكا، والتى قامت بدورها «آلاء على»، بأداء متميز وسلس وقدرة فنية على استخدام الجسد العارض بمنتهى الصدق المتناغم مع الحالة.

فى حين كان لمصمم الإضاءة «عبد الله صابر» دورٌ ليس مساعدًا فقط بل أساسى فى العرض، خاصة فى مشهد النهاية، ليعلن لنا برمز واحد «الصليب الكبير على الحائط» كونه الكنز المفقود والهدف المنشود، الذى جاء توقيته مع اعتراف إيفان بخطئه وعدوله عن أفكاره، جاء رمز الصليب فقط كافيًا للانتصار للفكرة التى أظن أنها وصلت واضحة للمتلقى، والتى تنمّ عن تمكُّن صناع العمل من رؤيتهم الواضحة دون تشتيتات، والتى تجعل المتلقى يتناول العرض من يد صُنّاعه دون احتمالات أو تأويلات أخرى لهزيمة إيفان.

فالإيمان فى حد ذاته هو ما كان السبب فى الجريمة والحل فى آنٍ واحد، ولكن الهدف الذى يحتمل التأويل ويجعل المتلقى يعمل عقله هو أهم ما يشغل الإنسان فى كل عصر وكل مكان، وهو: ما الذى يجعل الإنسان إنسانًا؟
ولكن أجد فى العرض الكثير من العنف على المستوى المادى، والكثير من الصفعات والتكسير، الذى لم يعتمد على الصدق الفنى، بل اعتمد على الصدق الواقعى، وهو ما قد يضع مسافة بين المتلقى وبين ما يراه، أو يجعل فى نفسه ضائقة، أتمنى أن يُراعى فى المرات القادمة، وهذا ما أنشده.

إعادة العرض مرات أخرى كى يتسنى لنا مشاهدته ثانية، فمثل هذه العروض التى تحتفى بالنفس البشرية بكل صراعاتها وتلامس قلوبنا وعقولنا معًا، لابد لنا أيضًا أن نحتفى بها.