الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

حـرف.. فكلمـة.. فـدرس.. لسه الصحافة ممكنة

حـرف
حـرف

- دخلنا غابة الأوهام لا نحمل سوى شغف الماضى بأن نصنع صحيفة نسعد بها قبل أن تمتع القارئ

- «حرف» بداية كل الأشياء بداية الكلام والكتابة والرسالة حياتنا دائمًا تبدأ بحرف فكلمة فحياة

بدأت رحلتى مع الصحافة عام ٢٠٠٢، وقتها كان المشهد الصحفى يفتقر للتنوع والكثرة فى الإصدارات، ورغم ذلك كان للصحيفة الورقية مكانتها وقيمتها وتأثيرها وانتشارها أيضًا. تخرجت فى الجامعة عام ٢٠٠٤، العام الذى حدث فيه التحول الأكبر فى تاريخ الصحافة الحديث، حيث بدأت الإصدارات الخاصة تدخل مجال الإصدار اليومى بقوة بجوار الكثير من التجارب الأسبوعية، وكانت النتيجة ازدهارًا كبيرًا للصحافة الورقية سيظل فى أوج توهجه لعشر سنوات مقبلة من هذا التاريخ.

مع هذا البريق الورقى لم يلحظ صناع الصحف وقتها، أو تغافلوا عن عمد، هذا الوحش الذى ينطلق على الجانب الآخر من «قضبان الإعلام»، نبت من عدم ومتأخرًا بسنوات وعقود طويلة عن هذا الإرث الإعلامى العتيق، لكنه انطلق بجنون متجاوزًا الجميع لندخل مرحلة الإعلام الرقمى.

نحن الآن فى العام ٢٠١٢، حيث اقتضت دراستى للماجستير التعمق فى دراسة راهن ومستقبل الصحف الورقية، وكان الحديث متوافقًا كما لم يحدث من قبل فى أى قضية تخص الإعلام، غدًا لن تكون هناك صحف ورقية، لا أنكر صدمتى الكبيرة وأنا أتابع وأدوّن الضحايا الجدد كل يوم، كانت الصحف المطبوعة بحق تعيش خريفها بكل حماس، أوراق جديدة تتساقط كل يوم، هذه صحيفة تاريخية تكتفى بموقعها الإلكترونى، وتلك مجلة ضاربة فى عمق التاريخ تقلص عدد صفحاتها وتلغى نسخًا دولية فى مناطق معينة، وهذا بلد شهد خلال سنوات قليلة مئات الصحف وقد ودعت قراءها للأبد.. كان المشهد موحيًا تمامًا ومبشرًا بسنوات مقبلة لا ورق فيها، فقط شاشات مختلفة الأحجام نرى من خلالها العالم فى أى وقت وبأى طريقة بل وبتكلفة ومجهود أقل بكثير.

دخلت الصحافة المطبوعة سنواتها العجاف، تقلصت صفحاتها، وارتفع سعرها، فقل توزيعها وصار السؤال القاتل لى من طلابى فى الجامعة عندما أطلب منهم متابعة صحيفة ما «نجيب الجورنال منين؟». عند هذه اللحظة أيقنت تمامًا أن الصحيفة الورقية لم تعد منتجًا لا يقبل عليه الجمهور، بل لم يعد موجودًا من الأساس، لكن بداخلى لا يزال هناك هذا الصوت وهذا الشاب الذى وقع أسيرًا فى شباك «شوية الورق»، كان إيمانى التام بأن الصحف المطبوعة تعيش أزمة، ولا جدال فى ذلك، يحاوطها الكثير من الأزمات، لكن وللمفاجأة كان أقلها ما يتعلق بمنافسة الإعلام الرقمى، الأزمة كانت اقتصادية وما إن تجد المؤسسات طريقها لإعادة التوازن بين ما تنفقه وما تجنيه ستعيد ترتيب المشهد وتصبح الصحف التقليدية جزءًا أصيلًا منه.

لكن دعونا نتفق أننا الآن لا نتحدث عن صحف ورقية..

بل صحف تقليدية..

صحف مكتملة البنيان بصيغتها وشكلها القديم، لا ينقصها سوى مرحلتها الأخيرة الأكثر تكلفة والأصعب فى وصولها للقرّاء، مرحلة الطباعة على الورق. كنت أحد أكثر المتفائلين ببقاء صحافتنا التى تربينا عليها، وكنت دائم التأكيد لدوائر الأصدقاء والزملاء أنه لا بد من حل يفض الاشتباك، وظل الوضع كذلك حتى عام ٢٠٢٤.

فى يناير من ذلك العام كانت «حرف»، فكرة الصديق والأخ الدكتور محمد الباز، رئيس مجلسى الإدارة والتحرير، بجريدة أسبوعية فى الحجم «الاستاندرد»، متخصصة فى الثقافة وتصدر بصيغة PDF دون طباعة، وبعد قليل من الاندهاش ولد الكثير من الحماس وتجدد الشغف، عل ما نحن مقدمون عليه يكون هو الحل الذى انتظرناه طويلًا، وتبدأ معه سنوات الرخاء والمجد من جديد.

ولأن لكلٍ من اسمه نصيب فقد كان من حسن طالعنا أن يكون الإصدار «حرف» بداية كل الأشياء، بداية الكلام والكتابة والرسالة، حياتنا دائمًا تبدأ بحرف فكلمة فحياة، كانت «حرف» وكنا معها نبدأ رحلة الصحافة من جديد.. من أول حرف.

لا أنكر وأنا فى الجانب البصرى من الرسالة الصحفية، ومسئول عن التصميم والشكل، أن عملية إصدار صحيفة لم تعد بصعوبة الماضى، سهلت التكنولوجيا الكثير من العمليات واختصرت الوقت وازدادت معها الدقة، لكن المشكلة لم تكن فى ذلك كله، بل فى غابة الأوهام التى دخلناها لا نحمل فى تجربتنا سوى شغف الماضى بأن نصنع صحيفة نسعَد بها قبل أن تمتع القارئ، دخلنا الغابة وصارعنا الأوهام، وها نحن فى عددنا المائة نعلن انتصارنا عليها، نفخر بذلك ولا نتعالى، نؤمن بما فعلناه ونقدمه تجربة للآخرين علها تكون قاطرة لمزيد من الازدهار.

فيما ما يقرب من عامين نجحت حرف فى تصحيح بعض المفاهيم التى نمت وسيطرت على عقول الكثير من صناع الصحف، شيوخها قبل شبابها، قد ترى فيما رصدته بعض المبالغة من باب الفرحة والفخر بالتجربة، لكنى أدعوك لمزيد من التريث، فقد سقطت أمامنا هذه الأوهام بالفعل.

وهم الصحافة التقليدية

بأسرع مما نتوقع أو نتمنى ترسّخ الاعتقاد لدى الكثير من صناع الصحف وفى المؤسسات التعليمية، أساتذة وطلابًا، بأن الصحافة الورقية فى طريقها للزوال، وأذكر جملة قالها لى أحد كبار المديرين الفنيين فى مصر، وكنت وقتها أحد أفراد فريقه، بأنى آخر مخرج ورقى فى الصحافة المصرية، قاصدًا أن الصحافة فى ثوبها الورقى سوف تسلم ما تبقى منها فى عهدنا.

كان الإجماع بأن التجربة بكل تفاصيلها قد انتهت، الجريدة المكونة من عددٍ من الصفحات التى يتم تصميمها كل مرة بشكل مختلف داخل شخصية بصرية موحدة، والتى تطالع جمهورها فى موعد ثابت لا يتغير، وما ينشر فيها لا يمكن تعديله أو إلغاؤه، وغير ذلك الكثير مما ميز الصحيفة الورقية على مدار ما يقرب من مائتى عام بين أيادى المصريين.

هنا جاءت «حرف» جريدة تقليدية مكتملة فى كل تفاصيلها وخطواتها وسماتها، الأمر الوحيد الغائب هو الورق، أسسنا صحيفتنا ونفذناها وحددنا موعدًا للصدور وقنوات توصيلها للقراء، والآن نحن نحدثكم بعد ١٠٠ عدد بالتمام والكمال، بما يعنى أن الصحيفة بشكلها التقليدى لا تزال تحظى بالتقدير والاهتمام والإقبال عليها. وصدقًا، كان هذا هو أكثر ما أثار دهشتى رغم أنى تمنيته كثيرًا، تمنيت أن تعيش الصحافة كما كانت عقودًا وقرونًا طويلة مقبلة.

وهم الصحافة السياسية

جرى العرف فى الأوساط الصحفية بأن الصحافة تعنى السياسة، وأن الصحف تكتسب قيمتها ومكانتها من معاركها مع القوى السياسية فى المجتمع، بل إن البعض كان يردد أن الصحفى لا يحصل على صك المهنة إلا بعد أن يتعرض للمضايقات وتُرفع عليه بعض القضايا، ولو كان من المحظوظين فالسجن مكافأة كبرى لما كتبه، فليس أشرف من ذلك تهمة. 

الغريب أن البعض ينظر للصحفيين المتخصصين فى الرياضة أو الفن أو الاقتصاد أو الحوادث وبقية التخصصات بأنهم درجة أدنى من هؤلاء المهتمين بالشأن السياسى، وينسحب الوصف نفسه على تلك الصحف البعيدة عن السياسة ومشكلاتها وعن الشارع السياسى ونظريات الحكم ومؤسسات اتخاذ القرار.

ولا ندّعى هنا تفردًا، فقد سطرت كثير من الصحف المتخصصة تاريخًا لا يمكن إنكاره، وتأثيرًا لمسه كل المهتمين بالصحافة الورقية، غير أن بعض الخصوصية أيضًا غلّف تجربتنا، فقد صدرت «حرف» وقد مرت الدولة بالكثير من الأحداث التى تجعل الأولوية للصحافة السياسية، ثورات ودستور وانتخابات وبرلمان، ومع ذلك كله حرب ضد الإرهاب، وهل هناك مناخ أفضل من ذلك للحديث فى السياسة؟

وسط ذلك كله جاءت «حرف» صحيفة ثقافية، بحكم كل الظروف لم يكن من المتوقع أن تصمد لبضعة أعداد، أو أن تكون لها قاعدة جماهيرية، لكن العكس هو ما حدث، والدليل أننا نتحدث الآن.

وهم «الناس بطلت تقرأ»

جملة من ثلاث كلمات لا تلخص أزمة الصحافة، بل أزمة الصحفيين، تشعر وكأنهم يريدون أن يبعدوا عن أنفسهم مسئولية الوضع الذى تعانيه الصحافة الورقية فقرروا أنه لا سلعة بدون مستهلكين، أما وأن القراء قد توقفوا عن القراءة فلا داعى للكتابة.

بحكم عملى فى الجامعة، ومتابعتى لكثير من الدراسات، أؤكد لكم أنه لم يقابلنى أى بحث أو دراسة بأن الناس توقفت عن القراءة، ولكن الوصف الأدق للمشهد هو أنه لم يعد هناك ما يقرأونه، ليس لضعف ما تقدمه الصحف، فهذه مدارس وآراء ووجهات نظر، وإنما لأن الصحيفة نفسها أصبحت تعانى لتصل لسوق الاستهلاك.

كان رهاننا فى حرف أن القارئ لا يحتاج سوى أن تصل إليه الصحيفة، وحيثما وجد مادة صحفية ذات قيمة فلن يتوقف عن القراءة، وتلك المداومة وذلك الإقبال الذى لمسناه كان دافعنا للتطوير والتدقيق والإصرار أن نبهر قارئنا كل مرة لأننا نعلم أنه سيقرأ.

وهم المادة ثقيلة الدم

«يعتمد تصميم المضامين على ما تتيحه المادة الصحفية من عناصر بصرية»، جملة تربينا عليها من أستاذنا وكبيرنا الذى علمنا السحر د. أحمد محمود، ولعلك تدرك أن الصحافة الثقافية لا توفر ما يجعل شكلها مبهرًا، ولا أخفيكم سرًا كانت التجربة تحديًا شخصيًا لى ومعى رفيق السنوات الطويلة محمد جلال فراج، بدأنا وكلنا خوف ورهبة لا تقل عما شعرنا به مع أول «ماكيت» رسمناه فى رحلتنا المهنية، مناقشات طويلة وآراء متنوعة بيننا على طريقة «البنج بونج»، فخرجت «حرف» كما ترونها. أسعدنا كثير من الآراء التى أثنت على شكل الصحيفة، فعرفنا وقتها أننا استطعنا أن نتجاوز وهمًا ضاربًا بجذوره فى كتالوج المهنة. وهنا يجب أن أسجل اعترافًا واعتبره ما تشاء، ما كان ذلك ليحدث لولا المساحة التى منحنا إياها د. الباز، والحقيقة أنه ما من مخرج مبدع إلا مع رئيس تحرير يمنحه مساحته الخاصة فقط ليمارس عمله.

وهم الـ Ai

أتتذكرون الوحش الذى كان يجرى موازيًا للصحف الورقية، هذا الإعلام الرقمى وجد له رفيقًا وداعمًا يضيف إلى قوته أضعافًا، وجد الذكاء الاصطناعى. أسهمت التكنولوجيا المتطورة يومًا بعد آخر، بل ساعة بعد أخرى، فى مزيد من الانتشار والتأثير للإنتاج الرقمى، ووضعت أمام الصحف الورقية مزيدًا من العقبات والمشكلات، وأصبح الحديث أنه لا جدوى منها، وأن الكثير من الوظائف والأدوار ستنتهى ويحل بدلًا منها «برنامج» يقوم بكل ذلك وأكثر، ومؤكد أنك سمعت مثل ذلك الكثير.

فى حرف جندنا الذكاء الاصطناعى لدينا وجعلناه أحد أهم أدواتنا لتقديم محتوى بصرى يليق بما يكتبه كبار الكتاب والصحفيين، لم نستسلم له وظل العقل البشرى هو من يقود، ونأمل أن تكون النتيجة لديكم، كما نتمناها.

هذه أوهام وأساطير استطعنا أن نهزمها، من خلال «حرف» رأينا وعزمنا وقدمنا ما يجعلنا نؤمن بأن «لسه الصحافة ممكنة»، ولو كانت «حرف» هى الباب الذى فتحناه كمحاولة لإنقاذ الصحافة التقليدية فلا أجد عيبًا أن أناشد المسئولين عن أمور الصحافة فى مصر بتعميم التجربة، ما المانع أن يُصدر كل موقع صحفى جريدة تقليدية أسبوعية أو شهرية بصيغة PDF، على أن تتولى جهات الأرشفة المعروفة مسئولية حفظها للأجيال القادمة؟ وقتها ستجد الكثير من المشكلات قد وجدت طريقها للحل، سواء تلك المتعلقة بأساسيات المهنة أو إدارياتها، وأعتقد أن جميعنا نعرف ما أقصده.