الأحد 16 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المنزل.. سردية العائلة والمكان

حرف

يلعب وليد خيرى على تقاطع المساحات بين الماضى والحاضر

- تقع قصة «بسطة السلم» فى فخ المباشرة ويمكن حذفها دون أن يختل البناء الكلى للمجموعة

ليس للنص، ولا تيماته وصفة جاهزة، إذ يسير الكاتب دائمًا وفق منطقه الجمالى الخاص، وهنا فى المجموعة القصصية «المنزل» للقاص وليد خيرى، الصادرة فى القاهرة حديثًا «دار العين»، يلعب وليد خيرى على تيمة المكان الواحد «المنزل»، فيستجلى تنويعاته المختلفة، ويعاين وجوهًا أخرى للمكان، معظمها يتصل بالدار، أو البيت، أو المأوى، وبعضها يشير إلى المرتبة أو المكانة. ويصنع القاص قسمة شبه منطقية، عبر الأقسام المركزية الثلاثة التى تتوزع عليها قصص المجموعة البالغة ٣٣ قصة قصيرة، إذ نراها من خلال الأقسام التالية: «داخل المنزل، خارج المنزل، منازل الآخرة». 

٣٣ قصة قصيرة إذن تشكل المتن السردى للمجموعة القصصية «المنزل»، ويحتل القسم الأول «داخل المنزل» المساحة الكمية الأكبر من السرد، فهو موضع الفعل القصصى، إذ يصبح المنزل مركزًا للسرد.

يلعب وليد خيرى فى قصة «أمى»، وفى قصص أخرى، على تقاطع المساحات بين الماضى والحاضر، فيستذكر لحظة البداية، ما قبل مجىء السارد المتكلم، الذى يعاين شرارة التماس بين وحدتى السرد الأساسيتين فى النص، حيث الأم التى لم تزل ساعتها صغيرة تلهو مع أقرانها من البنات والأولاد، و«العريس العايق» «الأب المستقبلى» ذو الشعر «المسبسب»، والذى يجعل الفتاة الصغيرة تترك عالمها الطفولى لتلحق باللعبة الجديدة، فى بنية سردية متجانسة، ولغة تداولية، من جهة، ولها طبيعة مشهدية من جهة ثانية، تجدل بين مستويات مختلفة من الأداء اللغوى، وتنحو صوب التعبير الفنى عن الداخل الإنسانى الثرى، واستكشاف المساحات النفسية داخل الشخصية المركزية داخل القصة «الأم/ الفتاة»: «أمى حين طلب أبى يدها للزواج كانت تلعب شرق الجسر فى بلدتها بالصعيد.. خرجت أمها تناديها، لكن أمى رفضت أن تغادر رفقاء اللعب كوثر وكوكب وفاكهة، وحين ألحت جدتى فى الطلب رضخت أمى غاضبة، وحاولت جدتى ترضيتها ووعدتها أنها ستشترى لها الحلاوة الشعر التى كانت تعشقها أمى، طست وجهها العرقان من أثر اللعب والجرى، وقابلت العريس الذى يجلس مع جدى فى المندرة». وتصبح نقطة التحول الدرامى فى القصة حين تلمح الفتاة العريس ذا الشعر المسبسب، والضحكة السكر، وهما مفتاحان مركزيان فى تأويل النص، وعلامتان على جدل الشخصية القصصية والأثر النفسى: «لم يغوِ أمى عرض جدتى واختارت وفضلت اللعب على العريس والحلاوة الشعر، لكن حين ذكرت جدتى اسم أبى العايق كزوج محتمل يجلس فى المندرة ويشرب دور الشاى الثانى الخفيف وافقت أمى على طس وجهها بالماء، ومقابلة العريس العايق الذى كان يفرق شعره المسبسب على جنب، ويرمى على كتفه شال أبيض ناصع البياض. دخلت أمى وسلمت، وحين ضحك لها العريس ضحكة سكر أظهرت شاربه المحفوف بعناية فائقة وافقت.

عادت أمى للشارع لتكمل اللعب مع أقرانها من العيال وعلى وجهها ضحكة سكر استلفتها من العريس». 

وتعد المفارقة تقنية مركزية فى المجموعة، وتحديدًا فى نصوصها القصيرة من قبيل «مصلى البيت/ أبواب الغرف/ خارج المنزل/ كل الجمال التائهة». 

وليد خيرى

ففى قصة «أبواب الغرف» مثلًا نرى وحدة سردية واحدة، تحيلك على لحظة البدء، حين نقش الأب اسم السارد البطل على غرف البيت الداخلية فى تحفيز ملهم، عرفنا مآله فى مستهل السرد، الذى يصبح مكونًا من النتيجة التى يعقبها السبب: «قبل أن يُكتب اسمى فى الصحف وعلى أغلفة كتبى، أو فى مذكرات فتيات جميلات وغير جميلات، أو فوق شاشات التليفزيون وعلى تترات السينما، أو فى محركات البحث، قبل كل هؤلاء بسنوات نقش أبى اسمى على باب غرف البيت الداخلية بدماء آخر دجاجة حمراء نملكها، ذبحها لنأكلها ونسد بها جوعنا، كتبه بكل فخر وإباء على كل الأبواب، ولا زالت أبواب بيتنا القديم تحفظ اسمى بمداد الدجاجة الأحمر».

تبرز فى المجموعة أيضًا ما يمكن تسميته «سردية العائلة»، حيث نجد قصصًا تحمل عناوين من قبيل «أمى/ خالى/ أخى/ جدتى/ أبى». 

وفى قصة «خالى»، يرسم الراوى صورة سردية للخال، الذى يأتى ذكره على نحو حميم، ويظهر فى القصة نمط مغاير من الأداء اللغوى منذ الاستهلال وحتى النهاية: «خالى (يحب السينما زى عينيه) كما تقول أمى. لم يكن يشاهد فيلمًا واحدًا على بعضه لأنه كان مشغولًا بقبول تقبيل الفتيات له فى السينما، لأنه جدع ولا يكسر بخاطر واحدة، وكانت الواحدة منهن تستغل مشاهد التقبيل على الشاشة الكبيرة فى أن تفعل مثلما يفعل أبطال الفيلم. 

خالى يكره أفلام الحرب وأفلام الأكشن، ويقول: أنا لا أحبها. ولا أفهم ساعتها أيهما يعنى الحرب أم الأكشن، لكن فيما بعد سأدرك أنه كان لا يحب الحرب التى سيموت فيها».

وينهى الكاتب قصته مستخدمًا تكنيك الجملة المدهشة، القادرة على النفاذ إلى سيكولوجية المتلقى: «صرت رقيقًا مثله أنهنه بصوت خافت من المشاهد الرومانسية فى الأفلام، وأبكى حين أرى موت جندى على الشاشة فى أفلام الحرب التى أكرهها مثل خالى، لكنى أدخلها عسى أن أراه».

تلوح ثنائية الأب والابن فى قصة «أمام المرآة»، كما تتجلى فى قصص عديدة من قبيل «أبى»، و«غرفة ضيقة»، و«طاولة الغسل»، إذ يصير الأب مركزًا للسرد فى قصص مختلفة من المجموعة، ويبدو الأب بمثابة العنصر المسيطر، ويكفى أن ندلل بالمختتم السردى لقصة «غرفة ضيقة»، والذى يوظف فيه القاص الموروث الدينى بلا افتعال: «ولأن الرجل يبعث على ما مات عليه، فإذا رأيتم يوم تبعثون رجلًا يصلح لعب أطفال فاعرفوه؛ إنه أبى». 

ثمة ملمح فانتازى، نراه فى قصة «غرفة النوم»، حيث تظهر الدمية الحسناء «لولى»، وقد طارحها حارس العقار الغرام فى غيبة من صاحبها المتماهى معها حد العشق، لينهال على أحشائها تمزيقًا فى النهاية.

وعبر العنوان الفرعى «حيوانات منزلية»، نرى ثلاث قصص، تحمل هذه العناوين «الثعلب لا يبيض»، و«الصراصير»، و«الكلاب لا تطير»، وهى قصص تمزج بين السخرية والألم، وكان يلزمها التناغم فى العناوين بين وحداتها السردية الثلاث، ولذا كان ينبغى ألا تكون لفظة «الصراصير» بمفردها فى العنوان، فالصراصير لا تستحق العناية، وهى جوهر المعنى السردى لنص يسائل عوالم السوشيال ميديا التى خلقت حالة من التعاطف الساذج والعبثى مع الصراصير فى القصة. 

وفى القسم الثانى «خارج المنزل» ثمة مشاهدات حياتية مختلفة، تبدأ من قصة «خريطة العالم» التى تعزز من قيم التسامح، وتنتهى بقصة «استمارة شريك الحياة»، وما بينهما صيغ سردية مختلفة، تستخدم مثلًا تكنيك الحلم فى قصة «هل يمكن أن تأخذنى إلى حلمى». 

تقع قصة «بسطة السلم» فى فخ المباشرة، ويمكن حذفها دون أن يختل البناء الكلى للمجموعة، وكذلك يمكن حذف الجمل المجانية ذات النزعة المقالية فى مختتم قصة «مستشفى».

وفى القسم الأخير من المجموعة «منازل الآخرة»، ثمة تأملات فى عالم ما بعد الرحيل، وتبرز قصة «منازل الآخرة» التى تستخدم تكنيك المراقبة، حيث يطالع السارد من العالم الآخر كيف تلقى الآخرون خبر وفاته، فى إطار لا يخلو من السخرية، المسكونة بالتأمل: «كنت أبكى بينما اقرأ وأنا متوسد التراب فى منزلى الجديد ما كتبه الآخرون عن موتى، قالت طليقتى: مات أنبل رجل عرفته. كتبت حبيبتى: رحل من لا يمكن تعويضه. قالت حبيبة سابقة ومتزوجة حاليًا: هناك أناس لا يمكن نسيانهم حتى وإن لم يعودوا هنا، هناك عشيقة سرية تابت عن العشق الحرام تذكرت قوتى فى الحب معها فاستغفرت اللـه لى ولها وهى تطرد خيال الجماع، وقال صديق أنكر طوال حياته أنى مددت له يد المساعدة الأولى فى مجال الفن: اليوم رحل أول من مد لى يد المساعدة. بينما قالت حماتى السابقة: رحل أعز واحد فى أزواج بناتى. ابنى بعد أن وارى جسدى التراب دخل غرفته وكان متماسكًا أمام الجميع، وحين تأكد أنه صار وحده انهار فى الدموع وتذكر فلاشات من مواقف جمعتنا سويًا بعضها مضحك، حتى إنه ابتسم وعينيه مغرورقة بالدموع.

مواقع صحفية متوسطة الأهمية تناقلت خبر وفاتى وذكرت بعضًا من أعمالى وأبطالها، وعلى هامش الخبر أكدت أن إحدى بطلات أعمالى تستعد لدخول مسلسلها الجديد «وسيكون الدور مفاجأة للجميع». 

وبعد.. فى مجموعة «المنزل» ثمة طبقات ثلاث من المعنى، والتأويل، تنبئ عن كاتب حقيقى قادر على استيلاد الدلالة من رحم التفاصيل الصغيرة، وسردية المكان، ومراقبة العالم، وتأمل الواقع، والأشياء.