الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«ليالى الطين».. سردية الأمانى والخذلان

ليالى الطين
ليالى الطين

فى مجموعته القصصية الأولى «ليالى الطين»، والصادرة فى القاهرة حديثًا عن «مركز إنسان للنشر»، يستجلى القاص ياسر الغبيرى مفهوم الليالى، فتحمل تجليات متعددة، تمثل تيمات مركزية داخل المجموعة. فثمة ليالٍ للخيبة أو الخيبات المختلفة، وأخرى للغواية، وثالثة للخيانة، ورابعة للحسرة، وخامسة للقسوة، وسادسة للخذلان، وهكذا.

 

وفى كل مدلول سردى تتحدد تيمات المجموعة، وتأخذ صيغًا وأشكالًا مختلفة، بدءًا من القصة الأولى «سعيكم مشكور»، وحتى القصة الأخيرة «جلباب أبيض».

يستهل القاص مجموعته بقصة «سعيكم مشكور»، حيث ثمة شخص يراسل إحدى المجلات، ينتظر دوره فى النشر فى كل عدد، يطمح فى أن يجد ما يكتبه ممهورًا باسمه، ومصحوبًا بصورته، التى بدلتها الأيام منذ أن كان صبيًا وحتى صار رجلًا، خمسة عشر عامًا من مشهد ثابت، فى ذهابه اليومى إلى مكتب البريد، تبدلت فيه هيئته، وهيئة الموظف الذى يستقبل خطاباته المتواترة: 

«خمسة عشر عامًا مضت منذ طيّر أول رسالة بإحدى قصائده عبر البريد، لتعبر البحار وتصل إلى مجلة زهرة الخليج، خمسة عشر عامًا يُتابع المجلة أسبوعية الصدور، لم يترك عددًا واحدًا طوال هذه الفترة إلا وحصل منه على نسخة، لعله يُطالع اسمه وصورته على صفحات المجلة فى باب مواهب شابة، أو إبداعات جديدة.

أعلنت المجلة كثيرًا عن أنها تتلقى إبداعات الشباب وحديثى العهد بالكتابة، شعرًا وقصة قصيرة وخواطر، واشْتَرَطَت أن تُناسب المادة المُرسلة سياستها التحريرية، وبطبيعة الحال لم يعرف على ابن الستّة عشر عامًا حينها معنى مصطلح السياسة التحريرية، ولكنّه، ومن باب الاحتياط، ابتعد عن إرسال كتاباته السياسة، نحّى خواطره وأشعاره التى خطّها إبان غزو الكويت جانبًا، وتغاضى عما كتبه حول حرب الخليج، التى كان يعرف النذر اليسير عنها من نشرات الأخبار، وتركه لوقت لاحق حينما يذيع صيته ويُعرف اسمه.

تردد (على) على مكتب البريد، تردد كثيرًا، أصبح زبونًا دائمًا، خلال الخمسة عشر عامًا، كان يستقبله موظف مكتب البريد الأربعينى البدين ذو النظارة سميكة الزجاج بابتسامة باهتة، ويردد ساخرًا: (هاتِ ما لديكَ يا سيدى، أصبحنا فى آخر الزمان نعمل عند الصبية والمراهقين). 

مرّت الشهور والسنون، وتحوّل الصبى إلى شاب فى مُقتبل العمر، وبطبيعة الحال لوّن الشعر الأبيض رأس الموظف المُكَوّم خلف الزجاج العتيق، الذى حوّل الرؤية إلى ضبابية بينه وبين المترددين على مكتب البريد». 

يهيئ النص متلقيه إلى مفاجأة تمثل مفارقة القصة، فالخطابات لم ترسل من الأساس، ويكون الغضب والحسرة عنوانين على ليالٍ جديدة من الإخفاق: «بدأ (على) وأبناء عمومته العمل فى المشروع، وبينما يُشرف على تحميل مُخلّفات المبانى فى عربات النقل لإفراغها فى مقلب قريب مخصص لذلك، وجد أحد سائقى السيارات يُمسك بورقة ويقرأها مُتضاحكًا مع زملائه السائقين، اقترب (على)، نظر إلى الورقة، فإذا به خطّه، وهذه إحدى قصائده التى أرسلها منذ خمس عشرة سنة إلى زهرة الخليج».

ثمة إشكالية فنية فى القصة تتمثل فى عدم الاتساق بين وعى الشخصية القصصية وما تقوله، من قبيل الحوار بين الشخصية المركزية والسائق، حيث يتندر عليه السائق، الذى يبدو عارفًا بجائزة ساويرس الثقافية فى تزيد فى غير موضعه: «فواصل السائق حديثه بنبرة ساخرة، (اذهب وأعدّ لك منّها كتابًا، ربما يُحالفك الحظ وتحصل على جائزة ساويرس)».

فى «غواية» ثمة حضور للمثلث الشهير: الزوج والزوجة والعشيق الخائب، تأتى النهاية هنا مقحمة على النص وبعيدة عن أجوائه، حيث يقتل الزوج طفله الصغير انتقامًا من إصرار الأم على الطلاق، وليس ثمة أى مبرر درامى تستند عليه النهاية الفجائعية. 

ياسر الغبيري

تبدأ القصة من لحظة الزفاف، وبعدها تجتر الزوجة خيباتها وتتسارع الأحداث حتى تصل لنهايتها: «(صباحية مباركة يا صابرين)، رددها مجدى على مسامع عروسه باسمًا، فلم تحر جوابًا، تظاهرت بالخجل، أشاحت بوجهها، صدرها يغلى بلهيب الحب المفقود، مرارة الغصب تعتصر حلقها، لم تكن لترضى عن هذه الزيجة لولا نذالة الحبيب، ظنّته رجلًا، لعب بقلبها لسنوات، ووقت الجِد أخبرها بعجزه وانعدام الحيلة».

فى القصة المركزية التى تحمل المجموعة اسمها «ليالى الطين»، يغاير النص البناء الكلاسيكى الذى يمكن تلمّسه فى بقية قصص المجموعة، حيث تبدأ القصة من لحظة النهاية، وبالتالى فإن كل ما يأتى بعد ذلك يُعد استخدامًا لتكنيك «الفلاش باك» أو العودة إلى الماضى، حيث يبدأ النص فى الكشف عن جوهر القصة من خلال متن الحكاية ذاتها، وتعد فكرة البدء من نهاية الحدث القصصى فكرة مهمة هنا، إذ إن هذا النسق البنائى يمثل تحديًا جماليًا وفنيًا للكاتب: «جثت على الأرض رافعة يديها إلى السماء، تصرخ صراخ المجاذيب، (لماذا أمتّه؟ لماذا أمتّه؟ ابنى، ضَناى، وحيدى، تأخذه؟ الدنيا أمامك طَافِحَةٌ بالناس، لماذا هو؟).

وَلْوَلَتِ المَرْأَةُ كاشفة عن شعرها المُبلل، سالت على وجَناتُها دموع مُختلطة بقطرات المطر، التصقت ملابسها على جسدها، وزاد التصاق ملابسها كلما رفعت الطين من الأرض ناحية السماء، وهوت به فوق رأسها ووجهها، فتحوّل جسدها ناصع البياض لخِرْقة مهترئة حالكة السوداء.

وقف الناس حولها فى صمت مريب، لم يقترب أحد مواسيًا أو مهدئًا، إلا امرأة تحركت حركة آلية فى ثبات، إلى أن وقفت خلفها، صفعتها على خدها من الخلف بقوة، ورددت فى أذنها بصوت هامس لم يسمعه سواها: (فوقى أيتها السَاقِطَة، الآن عرفتِ أنّ الولد غالٍ؟)، التفتت المرأة إليها وقد تحجرّت عيناها، وقفت فى مواجهتها، وشقّت جلبابها وهى تصرخ: (رحمتك بالآثمة، عفوك عن الساقِطَة، لماذا أخذته وتركتنى؟).

ظلت المرأة تنتحب ويداها تمزقان ملابسها وتجذبان شعرها، وكأنهما تريدان اقتلاعه من منبت جذوره، بينما وقفت ليلى تنظر إليها محتقرة، وعلى وجهها ابتسامة الشامتين».

ويبدو المختتم السردى لقصة «ليالى الطين» بمثابة عود على بدء، حيث يحيلك على المفتتح، فثمة امرأة «قمر» لوثت مخدع زوجها الراحل «وصفى»، مثلما أوقعت من قبل بين زوجها وابنه «عزيز»، وزوجته «ليلى»، تهيل التراب على رأسها، بعد أن أضاعت كل شىء، وفى المتن ابنها: «تجمّع المارة وأخرجوه من المصرف جثة هامدة، حملوه مُسرعين إلى المستشفى الذى أعلن وفاته متأثرًا بالجرح النافذ فى رأسه.

فى ذلك الوقت عادت أمه من إحدى مُغامراتها، بدأت خلع ملابسها المُلطّخة بماء الرجال، سمعت صَخَبًا بالخارج، أطلت برأسها على تجمّع أهل القرية، وبينهم عزيز وليلى وأمها، الجميع عيونهم مُعلّقة ببيتها. 

أغلقت قمر نافذتها بعد أن ظنّتهم جاءوا لملامتها على أفعالها، وسرعان ما سمعت طرقًا على الباب، وأحدهم يخبرها بما حدث.

نزلت قمر زحفًا على درجات السُلّم، لا تعرف كيف قطعت الطريق من الطابق الثانى لتستقر بين الجموع غير مصدقة.

صرخت بكل قوّتها، الجميع يقف من حولها لا يحرك ساكنًا، حملت الطين من الأرض، لطّخت ملابسها وجسدها ناعية طفلها الوحيد، اقتربت منها رقية مهتدية على صوتها، وقفت خلفها ووضعت يدها على رأسها، صفعتها على وجهها، ومالت لتهمس فى أذنها بكلمات لم يسمعها أحد سواها، وقفت قمر فى مواجهتها وتحجرّت عيناها، وفجأة شقّت جلبابها وهى تصرخ جاذبة شعرها، وكأنها تريد خلعه من منبته».

وتتسم لغة القص بالسلامة اللغوية من جهة، والسلاسة من جهة ثانية، وتأخذ الحوارات القصصية بعدًا فصيحًا بلا افتعال. 

ثمة تزيد فى بعض النصوص القصصية، واستطرادات مجانية أحيانًا، على نحو يمكن لبعض القصص أن تنتهى عند نقطة بعينها فى السرد. 

فى «نوفل الخط» نحن أمام مروية جنوبية معتادة عن المكان، وفى «الخروج الأخير» ثمة استخدام لطقوس المكان، وجدل بين المقدس والتراث الشعبى، وفى «سيدة الحسن والدلال» ثمة ارتحال إلى بيئة مغايرة عن المكان الجنوبى الحاضر فى معظم قصص المجموعة، حيث ثمة امرأة جميلة ينتظرها البطل كل صباح فى الحى الشعبى، وفى «بيروقراطية» يلوح عالم الموظفين على نحو تعززه المفارفة فى النهاية، حيث تخضع «عبير» إلى السياق المضمر للمكان. 

وفى «جلباب أبيض» تلوح ليالٍ جديدة من الخذلان، حيث ينتظر عبدالله مكافأة إخلاصه من الحاج عبدالعزيز، الذى يصفه الأب فى جملة سردية دالة، ناصحًا الابن بأن عبدالعزيز «شيخ منسر»، وتأتى النهاية لتعصف بأحلام عبدالله المتواضعة بالأساس: «انطلق عبدالله، متهللًا فرحًا، فاتحًا ذراعيه للحاج عبدالعزيز الذى استقبله بابتسامه باهتة، وتصدّى لحضنه المشتاق بتربيتات متعجّلة على ظهره، دافعة له برفق إلى الخلف.

نظر إليه الفتى مرتابًا مترددًا: (ما رأيك فى الأرض يا عم الحاج)، فرد عليه الرجل: (عال عال عال).

كلمة واحدة كررها كثيرًا، ووضع يده فى جيب جلبابه، وأخرج مسبحة خشبية من تلك المسابح الرخيصة التى تملأ الأرصفة، ووضعها فى يد الصبى قائلًا: (من عند الرسول)، واستدار تاركًا الصبى واقفًا فى مكانه، يردد متحسرًا: (عليه الصلاة والسلام)».

وبعد.. على الرغم من إمكانية تلمس ما أسميه «رائحة البدايات» فى المجموعة، إلا أنها على المستوى البنائى تبدو متماسكة، وتحوى بعض الاستراتيجيات البنائية الدالة على كاتب موهوب، حيث تبدو مهمومة بواقعها المحلى، وممثلة لما أسميه سرود البيئة المحلية فى جانب منها، كما أنها مشغولة بالواقع الاجتماعى، وجدل الفرد والمجتمع.