السبت 19 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

قرموط الست.. رحلة فى عالم لا يراه أحد

حرف

- هذه المجموعة «قرموط الست» دالة على كاتب موهوب يتقدم بثبات ساعيًا إلى تطوير إمكاناته التقنية بدأب

كان تيودور أدورنو يعلن بمكر فنى، وبوعى المنظرين الحقيقيين «أن تحكى شيئًا معناه أن تتوفر على شىء خاص لتقوله لنا»، وبدا هذا التصور الجمالى أحد معايير الحكى، وهنا فى المجموعة القصصية «قرموط الست»، للقاص هانى منسى والصادرة فى القاهرة حديثًا «دار روافد»، يمتلك الكاتب ما يرويه، حيث ثمة عالم يقوم على تحويل الواقع الحى إلى فن، عماده الواقع ذاته، وجدارته فى تخييل هذا الواقع، وفى استنفاد طاقات المتخيل داخله.

يهدى القاص مجموعته إلى أبطاله فى تقليد جمالى رأيناه من قبل فى نصوص عديدة، وبما يكشف عن حال من التماهى بين الكاتب وشخوصه.

الثقافة الشعبية

وسواء أكنت من تلك البيئة المحلية «فضاءات المكان المروى عنه» أم من خارجها، يمكنك بقليل من التأمل معاينة تخييل الواقع فى قصص عديدة من قبيل «صديق الحفيان»، حيث ثمة عالم ينبت من قلب الحياة الواقعية، ويتحقق المتخيل القصصى عبر تتبع النثار المتشظى من حكاية «جامع الزجاج المكسور»، الذى لا يستحم، بهيئته الغريبة، وفحولته الظاهرة، فى نص يبدأ بتوظيف بعض تجليات الثقافة الشعبية:

- حافى، يا حيلتها، أمك خربت بيتها!

- يا حافى، يا حيلة، شايل فى التقيلة!

- حافى، يا بابور الجاز، حافى بتلم قزاز.

يزفّه الأطفال بنفس النشيد والتصفيق الحماسى كلما رأوه فى الغيطان، فى طرف البلد، وفى البيوت، وسطها. لا يرد عليهم إلا بوابل من قطع الطوب. ربما ادخره فى حجر جلابيته لهذا الغرض. يجد السكينة فى أطراف أطراف البلد.

لا أحد يذكر متى ولا كيف ظهر جامع الزجاج المكسور فى القرية. كعادة كل غريب يأتى إليها، اعتادوا على رؤيته قبل أن يعتاد عليهم. دهشتهم من الغريب تتطاير مع عفار وقع الأقدام على الطريق المؤدى إلى الغيطان، عفار ينام على أوراق الزروع، وينساب مع ماء الترع والمجارى. يقلبه الفلاحون مع التربة أثناء عزق الأرض، فيمتزج بعرق الزرع والقلع، ويُحكى فى جلسات السمر. لا أحد يراه غريبًا الآن. صار صديق الحِفيان ملمحًا أساسيًا من ملامح القرية. كنباتات الحلف على ميل الترعة، وحجر الحدود بين الغيطان، وخيال مآتة دبت فيه الروح، توقع أن تقابله فى الطريق أو فى قلب الغيط». 

ثمة روابط بين مكونات المتن السردى فى القصص، وشخوص يحضرون ولو على نحو عابر، وكأنهم جزء من ونسة السارد الرئيسى بالعالم والحكاية معًا، حيث يأتى هنا مثلًا فى «صديق الحفيان» ذكر «روحية» زوجة «رزق بلاطة»، و«هوبا». 

«هوبا» الذى يصدر به الكاتب نصه، ذلك الضاحك الأبدى الذى يحيل غيابه حياة قريته إلى جحيم، وحينما يظهر فجأة لأخيه المجند، يخبره بجملة مطمئنة: «هوبا مليح». 

فى قصة «هوبا بيضحك ليه» لسنا أمام سردية المجذوبين، ولا سردية الدراويش المعتادة، التى تعرفها الكتابة المصرية جيدًا فحسب. لكننا أيضًا أمام مد إنسانى تخلقه محنة الفقد، وهذا ما يتجلى فى المقطع السردى الأخير فى القصة، حيث يوظف القاص تكنيك المونولوج الداخلى، مصحوبًا بجعل المروى عنه «هوبا» مرويًا له فى الوقت نفسه: «لم أدرك سبب ضحكتك، يا هوبا حتى الآن، هل كنت تضحك لنا أم علينا؟ كيف كنت ترانا؟ هل نحن مضحكون أم تضحك لتجعلنا نضحك؟ ربما معرفة السبب تفسد النشوة. يكفى عندما أتذكر ضحكتك أن يبعث فىّ السلام الداخلى. لم تعرف يومًا القلق والتوتر الذى نعيشه على أمور قد تراها تافهة. ربما هى تافهة بالفعل. ما فائدة العقل؟ يجلب العبوس والغم، وأنت عشت فى حالة قبول وانسجام ورضا مع كل ما يحدث لك من خير و شر، تسكنك روح طيبة، يا هوبا لم تشعر بخوف أو فزع كما نشعر نحن. تلهو مطمئنًا كطفل على ظهر مركب تصارعه الأمواج، فقط لأنه يعلم أن أباه يقود السفينة، وسوف يجتاز بها العواصف. ومن فرط ثقته ينام و ينعس وفى يديه لعبته. كيف استطعت أن تسلم نفسك تمامًا بلا شك. و تعطى كل ثقتك بلا تردد، وتتمدد فى مكانك، أى مكان، قرير العين ساكن النفس فى حالة كاملة من تمام التوكل؟ قدرت، يا هوبا، على ما فشلنا فيه. عشت دائمًا مطمئن القلب ساكن النفس. أراك، يا هوبا، من جديد فى أعين كل شخص يأتى لأول مرة ليزور مكانك، ويقدر مقامك، وأردد معهم بشكل لا إرادى:

مدد.. يا سيدى هوبا.. مدد 

فنسمع ضحكتك تدوى بعفوية من الداخل كالعادة دون أن ندرك حتى الآن: «هوبا بيضحك ليه؟!».

ولا تمثل قصة «قرموط الست» مجرد عنوان دفع به القاص إلى صدارة المجموعة، لكنها قصتها المركزية، وتعبيرها الجمالى عن روحها المغامرة، حيث ثمة شخوص مهمشون: «سحر رزق بلاطة»، و«مبروك»، ومناوشات الحمل التى لا تنقطع بينهما، والتى يسبقها الحكى عن سياقات الشخوص والمكان، والعلاقات الاجتماعية المركبة، إذ يحضر العم الذى يريد لمبروك أن يعيش ويموت وحيدا «كى ينفرد بالميراث، و«سحر» التى تجابه كل شىء فى سبيل أن ترى طفلًا تلاعبه ويلاعبها، وفى الخلفية نرى استدعاء تراث المكان الشعبى، بدلالاته الحسية، والتراث الأسطورى الخالد من قصة إيزيس وأوزوريس، مضفرة فى حلم «سحر»، أما الأب «رزق بلاطة» فهو فى الوعى الشعبى ذلك الأب الهمل، والمهمل فى الآن نفسه، وتنفتح نهاية القصة على احتمال نجاح اللعبة، لعبة حمل سحر من مبروك الأبله، وبانتظار أن تثمر. ففى النهاية يقول مبروك: «تانى يلا نلعب تانى»..

وتعد الهوامش السردية جزءًا من النص، ومتممة للرؤية السردية، حيث تمثل إحاطة بالمكان، وإحالة للمتلقى على عالم ضارب بجذوره فى الثقافة الشعبية، وإن ظلت بعض الهوامش يمكن الاستغناء عنها، حيث لم تقدم إضافة نوعية للمتن السردى، من قبيل ما نراه فى ص ٤٤ على سبيل المثال.

تقنيات القص

فى قصة «تجار البركة»، ثمة عنوان ينهض على المفارقة، وتحققها الدلالة الكلية للنص، فى نص يبدأ من النهاية، من ذروة المشكلة لنعود بعدها إلى أسبابها، هنا نجد «رشيد عيسى رشيد» الذى يتعرض لخيانة عمه يعقوب، الذى يأخذ كل ما جمعه من نقود، ويزوج خطيبته «كريمة» من حمدان القادم من الصعيد، كريمة التى زاملته فى مدرسة كوم أوشيم، مركز طامية، ونما الحب بين قلبيهما، وعرفا معًا طريق العشق. تلوح تغريبة رشيد هنا، ثم عودته إلى قريته، وقد صار موتورًا بما حدث، له رطانة المسافر، وذهان المنفصل عن العالم، الذى قد تجده من قبل فى قصة «صديق الحفيان»، وبما يعزز من روابط القصص داخل المجموعة. 

فى «المخمرة» نجد أمامنا الطفل المريض «فتحى»، الذى يختار أن يعابث العالم ويلاعبه.

وفى قصة «جعفر البغل»

يلوح العالم الظاهرى شديد الوضوح المنتبه لكل ما هو حسى، فزوجة العمدة. تفتن بفحولة جعفر البغل، وتنتظر لحظة المباغتة بعد عشرات الحكايات المتتشرة فى قرية عماد حياتها ثقافة السماع، والمرويات الشفاهية، الخاضعة للخيال الشعبى، هنا أيضًا «جابر المزين» الحاضر دائمًا فى عالم القرية والقصص معًا، والذى يصبح أداة انتقام العمدة من جعفر البغل. 

مشاهد متباينة

يختار الكاتب أن يحكى مشاهدات متباينة من القرية، تبرز فى قصة «سيف ووالده زاهر العساس»، حيث تقاطعات الماضى والحاضر.

وفى القسم الثانى من المجموعة، الذى يأخذ عنوانًا فرعيًا «همس مجلجل»، كان بحاجة إلى أن يتم إبرازه من خلال اللعب على فضاء الصفحة الورقية، حيث لم تعد آليات تشكيل الصفحة القصصية ترفًا، خاصة أن هذا القسم قد حوى تصديرًا للقصص الواردة بعده، مثلما حوى القسم الأول «هوبا بيضحك ليه» تصديرًا مغايرًا. 

هنا خمس قصص تحيل على بعض من مفردات البيئة المكانية، وعوالمها: «دكر البط، أم الخير، الحية، البغلة، الليل».

وفى مختتم المجموعة تبرز قصة «الليل» بوصفها تعبيرًا جماليًا كاشفًا عن المرويات المتناثرة فى المجموعة، وإحالة على عوالم القصص والمسكوت عنه داخلها عبر مونولوج شفيف على لسان السارد الرئيسى، فضلًا عن أن الليل كان إطارًا جامعًا أيضًا.

وبعد.. هذه المجموعة «قرموط الست» دالة على كاتب موهوب يتقدم بثبات، ساعيًا إلى تطوير إمكاناته التقنية بدأب، وهذا ما يوجب عليه العمل بمضاء أكبر صوب تجديد البنية السردية، والانفتاح على عوالم مختلفة تضاف إلى مدونة العالم المحلى الذى صنعه بمهارة، وشغف، وإتقان.