الأربعاء 29 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أولياء وأدعياء..

الطريق إلى طنطا.. فصل من رواية «الصوفى والقصر.. سيرة ممكنة للسيد البدوى»

حرف

- كان يقول لا تصوف بلا فقه وإذا كان لنا سلوك فهو مخ الشريعة وإذا كان للمتصوفة تصرفات فهى الشريعة بعينها لا يغرنكم فى ذلك أحد ولا يخدعنكم مدعٍ

- رأى الشيخ أحمد فى السفر إلى مصر المحروسة ما لم يره فى كل أسفاره إذ أدركه المطر والوحل وقُطاع الطرق وحتى المرض

- كان يُطل على مريديه من على سطحه ليقول لهم: إن الاسلام لم يأت ليكون فى الجبال بل ليكون بين الناس

رأى الشيخ أحمد فى السفر إلى مصر المحروسة ما لم يره فى كل أسفاره، إذ أدركه المطر والوحل وقُطاع الطرق وحتى المرض، ذلك أن القافلة التى سافر بها خرجت من غزة دون ترتيب كافٍ، إذ إن الحراس الذين تم استئجارهم انقلبوا على القافلة ذاتها فى منتصف الطريق، فى وادٍ عميق ومخيف اختفت فيه حتى الطيور، الحراس الذين انقلبوا فجأة إلى قُطاع طرق جردوا المسافرين من كثير مما يحملون، ثم اختفوا بين الرمال وبين الجبال، وقد قيل إن هؤلاء الحراس هم من المماليك الذين وكل بهم الملك الصالح نجم الدين وطردهم من القاهرة بعد أن استتب الأمر له، المهم أن القافلة التى بقيت بلا حراسة اضطرت إلى الاحتماء بجبل ما حتى بعثوا برسول منهم إلى غزة يشرح لواليها ما حصل، وعاد الرسول ومعه كوكبة من فرسان المماليك البحرية الذين قربهم الملك الصالح نجم الدين إليه، وجعلهم من أخص خواصه، وما إن استعدت القافلة للمسير وهى ترفع علم الملك الصالح نجم الدين وتسير بحماية مماليكه، حتى انهمر مطر شديد أجرى السيول والوديان، وسد المنافذ وملأ المنخفضات ولم يعد بالإمكان التقدم ولو خطوة واحدة، اضطر المسافرون إلى الاحتماء بأكتاف الجبال خوفًا من السيول، ولم يكن الشيخ جديدًا على مثل هذه الأوضاع، فقد أمضى وقتًا طويلًا فى الصحارى والجرود الواسعة المخيفة، وقد نام على الرمال وعلى حواف السهول أو الغابات، وتوقع لدعات الهوام أو الأفاعى، ولكن الله حمى وحفظ، هذه المرة، كان برد الصحراء ومطرها والأيام التى انقضت فى الانتظار، قد أظهر المرض بين المسافرين، وهو مرض فيه إسهال وقىء، وقيل فى ذلك إن الطعام الذى تركه الحراس الآبقون فاسد ومسمم، وقد صبر الشيخ على البرد وعلى المرض وعلى الانتظار، المرض فى الغربة عذاب، أما المرض فى السفر، فهو جحيم حقيقى، وما يجعله كذلك أن المرض يذكرنا بالبيت، ويُذكرنا بالعودة إليه والتفكير فيه وفى دفئه وفى زواياه، ولم يكن هناك بيت للشيخ أحمد، لقد كان يعرف تمامًا أنه خرج يسوح فى البلاد ليلتقط معنى حياته وهدفها، ومثل هؤلاء بيوتهم هى قلوبهم، لهذا كان الشيخ أحمد يتعزى خلال مرضه برؤية الشجر الأخضر القليل الذى يفرح القلب، أو بملاحقة الطيور النادرة التى تقطع المسافات فوق رءوس المسافرين، أو تلك الطيور الكسلى التى تلاحق ما يتساقط من القافلة، أو حتى مراقبة النياق بهياكلها العجيبة وأسرارها الأكثر عجبًا، ولما مرت القافلة بالقرب من خيمة لبدوى وحيد لا يملك سوى غنيمات، سألوه الماء أو الدواء، جاء هذا طويلًا حادًا وعابسًا ومرتابًا تمامًا كسكين صدى، فلما عاين بعض المرضى ومنهم الشيخ أحمد، قال انتظرونى، غاب أقل من ساعة، عاد حاملًا معه جذور نبات غضّة، قال أغلوها ثم اشربوا مرقها، ثم اختفى، فعلوا كما قال وشرب كل من كان مريضًا، لم تمض سويعات حتى انقطع الإسهال والقىء، وبدأ التعافى ظاهرًا، أراد صنيع الدين، وهو المملوك البحرى المسئول عن حماية القافلة، أن يكافئ البدوى على صنيعه، فأرسل إليه صرة فيها مال، ولكن الرسول لم يجد البدوى ولم يجد خيمته، اختفى تمامًا فى ذلك القفر الواسع الذى لا حدود له، فقيل إن ذلك كرامة من كرامات الشيخ أحمد، فكيف لبدوى أن ينصب خيمة فى هذا القفر دون حماية أو ماء أو حتى كلأ، وأضفوا على البدوى صفات كثيرة جعلته أقرب إلى الملك الذى أتى من السماء، فلما سمع الشيخ أحمد ذلك تضايق أيما ضيق، وقال: إن لله شئونًا فى خلقه، وإن ظهور البدوى أو اختفائه متعلق بظروفه أو بكسل الرسول الذى لم يبحث جيدًا، وانتهى إلى القول: إن المعجزة الحقيقية هى كيف أن الله وضع فى جذور النبات الصحراوية ما يجفف به سوائل الجوف، فرد عليه بعض المسافرين: فكيف عرفت أن الله سينصر الملك الصالح نجم الدين؟ فقال إنه لم يعرف ذلك أبدًا، وإن ما قاله للملك كان تمنيًا على الله لا أكثر ولا أقل، وأضاف أنه لا يملك من أمره شيئًا، فقد عانى مثلهم قسوة الطريق وتقلب السماء وخسة الحراس الذين انقلبوا على أعقابهم، وطلب منهم التفكر فى خلق الله الفريد، وقال: إن الصحراء المديدة خير مكان للتقرب من الله العلى العظيم الذى نثر عجائبه فى كونه، فالصحراء يا إخوتى تذكر بالخوف والفقر والقبر والحاجة والضعف والوحدة والاحتياج والنقص والانكسار والقوة والضعف، ما خلقت الصحراء إلا للتفكر والتأمل، هذه أرض قاحلة بلا ماء، ولكنها تمور بحياة ترون بعضها ويخفى عليكم بعضها، ثم غرز أصابعه بين حبات الرمل الجافة، فأخرج جملًا صغيرًا سرعان ما تكوّر على نفسه فصار مثل كرة صغيرة مغبرة، وقال: هل ترون؟ ترك الله هذا الكائن الضعيف يعيش هنا بين حبات رمل جافة لا تكاد تتماسك، تتحرك على أديم هذه الصحراء كالماء، ولكن خالق الكائنات ترك هذا الكائن هنا، بلا ماء ولا مخالب ولا عظم ولا دم، ألا يدعو ذلك للتأمل؟ التأمل يعنى هنا البحث عن أوجه الرحمة وجهاتها التى لا تظهر دفعة واحدة، الرحمة غامضة لأنها واسعة، والرحمة لا قرار لها لأنها بلا حد ولا سقف، والرحمة غير مفهومة لأنها تشمل الكافر والمؤمن، وتظل الساكن والمتحرك، الرحمة سر الله الذى لا يمكننا أبدًا أن نلم به مهما بلغنا من إدراك، فهل تتعجبون من بدوى وحيد فى صحراء قاسية يظهر فجأة ثم يختفى فجأة؟

وصلوا بلبيس، حيث القوافل الذاهبة والآتية، حيث الناس من كل أمصار وحواضر المسلمين، حضرت فى البال امرأة شامية بلهجتها الناعمة وضحكتها الباذخة، أكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين عامًا يا شيخ أحمد؟ القلب ليس مجرد خزانة تحفظ فيها ما تريد وترمى منها ما لا تريد، القلب سيد يستدعى ما يريد ويخفى ما يريد، متى يريد وكيف يريد، القلب سيد كامل.

كان قد تغير كل شىء فى بلبيس، بعد أن وصلت أنباء النصر الكبير الذى حققه الملك الصالح نجم الدين أيوب على معسكر الشام وعلى ملوك وأمراء الفرنجة معًا، فمماليك الملك الصالح يتبخترون بأزيائهم الجديدة وشاراتهم التى اختفت فعليًا، كان من الواضح أن عهدًا جديدًا تشهده البلاد، ولأن الناس يعيشون لحظة نصر، فقد ظهر ذلك فى عمار السوق وتساهل الشرطة فى المكوس، وكذلك فى ازدحام الخانات وكثرة الأفراح، وانشغل بائعو النقد بالنقد فى حساب الفروق الدقيقة بين الدراهم الصحيحة والزيوف، وبين الدنانير المصرية التى ارتفع سعرها مقابل الدنانير الإفرنجية، حتى الدنانير انتصرت، ليس هناك ما يشبه النصر، مساء ذلك اليوم، دعا رجل غنى المسافرين إلى وليمة ضخمة بمناسبة الانتصار الكبير خارج سوق البلدة، وطلب من المنادى أن يستحلف كل من يسمع النداء بالمجىء إلى الوليمة، ولم يكن الناس بحاجة إلى مثل هذا، فقد اجتمع خلق كثير على الجِفَان التى فردها ذلك الثرى أمام الناس، وقد وضع على كل جفنة رجلًا يحدد ما يعطى وما لا يعطى لكل مدعو، كانت تلك وليمة أراد منها ذلك الرجل الثرى أن يحظى بالأهمية أو التفات الملك الصالح إليه، فبحث بين المسافرين عن رجال لهم سمعة أو حيثية، فلما سمع- بطريقة ما- أن الشيخ أحمد قد وصل بلبيس، أطلق مناديه يستحلف كل من يسمع النداء بالمجىء، حتى يجبر الشيخ أحمد على القدوم، وهو ما حدث فعلًا، فما إن أقبل الشيخ بقامته المديدة وعصاه وجرابه، حتى أشار إليه بعض من كان مسافرًا معه، فتوجه إليه الرجل الثرى وأظهر له من الاحترام والتودد ما جعل الشيخ يستحى حقًا، ثم قاده الرجل إلى مائدته المنصوبة أمام خيمته المضاءة بمشاعل قصيرة متوهجة، كان الرجل يرغب بأن يجعل من وليمته حدثًا يُحكى عنه أمام أولى الأمر الجدد، قال الرجل بصوت مسموع: أيها الناس، أيها الناس.

انتبه الناس، قال: معنا هذه الليلة أحد الذين قاتلوا معنا فى معركة الحربية، وهو ليس ككل جندى آخر، بل هو الذى بشر ملكنا المحبوب، الملك الصالح نجم الدين أيوب بالنصر.

رأى الرجل أنه استأثر بالاهتمام، أضاف بصوت يندر بالمفاجأة والدهشة:

ذلك أن الشيخ أحمد رأى نفسه فى المنام يعطى الملك الصالح نجم الدين أيوب عصا رعيان، فقال له الملك: إنه بحاجة إلى سيوف الفرسان، فرد الشيخ أحمد: ولكن أعداءك قطيع من الخرفان، وستنتصر عليهم.

صفق الناس، حاولوا تقبيل يد الشيخ أحمد، ولكن مماليك الرجل الثرى منعوهم من ذلك، أراد الشيخ أحمد أن يتكلم، ولكن التدافع والفوضى والفرح منعه من ذلك، إذ إن مماليك الرجل فردوا قيصاع الحلوى التى كانت معروضة بأشكال مغرية يسيل اللعاب عند رؤيتها، بدأ الشيخ أحمد وكأنه وجه العهد الجديد، أو أنه يمثل الملك الصالح نجم الدين بشكل ما، وقد حاول ذلك الثرى أن ينتزع من الشيخ كلامًا يفيد بحقيقة قربه من الملك أو علاقته به، ولكن الشيخ أحمد الذى أدرك ما يجرى حوله، استعصم بصمته، ولما حاول الثرى أن يعطى الشيخ أحمد بعضًا من المال، رفض الشيخ بإباء كبير، ولكنه طلب منه أن يوفر له ما يسافر به إلى القاهرة، فأسرع هذا إلى إعطاء الشيخ ما أراد من دابة وخادم وميرة كافية عندما يقرر السفر، وقال له: إنه يستطيع أن يرافق خيل البريد للوصول إلى القاهرة، فالطريق إليها آمنة ويمكن الوصول إليها فى يوم واحد أو أقل من ذلك بكثير، ولكن الرجل الثرى الذى كان يرغب فى لفت أنظار أولى الأمر الجدد إليه، رغب أن يبقى الشيخ فى بلبيس يومًا أو يومين، فعرض عليه أن يصلى فى الناس يوم غدٍ الذى يصادف يوم الجمعة، وحسن الأمر فى عينى الشيخ قائلًا: إن الجامع فى بلبيس هو أول جامع مسجد بنى فى بر مصر كلها، واستعان الرجل بأحد الأتابك الحاضرين، فانبرى هذا الأتابك بالقول: إن أهل بلبيس كلها يتشوقون لرؤية من بشر الملك الصالح بالنصر، وأكمل الرجل الثرى حصاره للشيخ باستضافته فى بيته تلك الليلة، لم يجد الشيخ أحمد بدًا من القبول، فقدموا للشيخ طبقًا من الطلح والأُترج، شعر بأنه يرى ذلك لأول مرة، الطلح من ثمار الجنة الخمس، أكل أصغر إصبع من الطلح فوجده شديد الحلاوة، فرح قلبه.

فجر ذلك اليوم، فوجئ الشيخ أحمد بجموع من الناس تتكدس على باب ذلك الرجل الثرى بانتظار الشيخ أحمد، وما إن ظهر الشيخ برفقة مضيفه حتى تدافع الناس يريدون بركته، أدرك المضيف أن خطته نجحت تمامًا، أما الشيخ أحمد فقد ترك يده للناس، كانوا فقراء ومحتاجين ومرضى وضعفاء، ليس لهم إلا الله سبحانه وتعالى، كانوا يريدون أن يروا شخصًا يعتقدون فيه القوة والحماية، وكانوا على استعداد لمنح كل شخص ما يحتاجه ليحميهم أو يرى فيهم سلمًا إلى امتلاك القوة والتأثير، وقد تعود الشيخ أحمد ومنذ أن كان فى قلعة الكرك أن يتعجب أو حتى يتفادى أن يكون ذلك الشخص الذى تتعلق به الناس أو يتعلق بهم، كان يرى فى ذاته أقل من أن يتحول إلى ما يريده الناس منه، كان يرغب فى النجاة وحده والحركة وحده والتأمل وحده، واعترف الشيخ بينه وبين نفسه أنه قد يكون أقل من هذه المنزلة، أو قد يكون رأى نفسه أقل من مشايخه وأساتذته، ولكن الصحارى تُعلّم، بما فيها من رياح وطيور وأشجار كئيبة وشرسة، والسفر يُعلّم، والناس تُعلّم، والملوك تُعلّم، والقصور تُعلّم، والزمان يُعلّم، «يا أحمد، اترك قلبك يفيض بما فيه، أطلق ما فى وجدانك يا أحمد، يسمعك الناس، لا مبهورًا ولا مدهوشًا ولا طامعًا ولا طامحًا سوى بالمحبة، من لهؤلاء الفقراء إن لم تكن أنت؟ أنت فقط بعد الله، أنت لست ناظرًا ولا أتابكًا من أهل السيف ولا من أهل القلم كما يُقال، أنت لا تملك سوى كلمتك، هذا قدرك يا أحمد، وكفاك هربًا من قدرك».

مد يده للناس، قبلوها وغمروها بدموعهم، قالوا بلهجة أهل البلد: ادع لنا يا شيخ!!

قال الشيخ أحمد: ليبارك الله لكم وليجبر الله كسركم وخاطركم، وليشف مرضاكم.

الرجل الثرى الذى رأى ما رأى، انفعل لسبب ما، أخرج من حزامه العريض صرة فيها دراهم نحاسية، فتحها ثم نثرها فوق رءوس الناس، فانهمكوا فى البحث عنها، وهم يلهجون بالدعاء للشيخ ومضيفه، وما إن ارتفع الضحى فى بلبيس حتى كان أهلها والمارون فيها قد عرفوا أن الشيخ أحمد، سليل العترة النبوية، صاحب الأحوال والأقوال والأفعال، سيصلى بالناس فى جامع الإسلام أو جامع سادات قريش، وهو أول جامع بناه المسلمون الفاتحون فى البر الإفريقى كله، وقبل الصلاة الجامعة بساعة تقريبًا، تقاطر الناس على الجامع، فملأوه حتى فاض بمن فيه، فبدأ الناس يشغلون الساحات والطرقات القريبة منه، جلس الشيخ أحمد على كرسى مرتفع، نظر إلى الناس أمامه ينتظرون كلامه، استعاذ بالله ثم حمده وأطنب فى حمده، ثم حمد نبيه وأطنب فى ذلك، ثم تحدث عن أوامر الله ونواهيه وقال: إنها تكفى وتزيد لعمار الدين والدنيا، ولعمار النفوس وتهذيب الأبدان، قال: إن العصر عصر شهوات وأكاذيب، واتفاق مع الفرنجة ومصانعتهم، وهو مما لا يجوز ولا يفيد ولا ينبغى أن يكون، قال: إن بلاد المسلمين منقسمة على كل شىء، وهذا مما لا يجوز ومما لا يفيد، قال: إن أوامر الله ونواهيه تكفى وتزيد، فقال أحد السامعين إنك يا شيخ أحمد لا تتحدث كالمتصوفة وإنما تتحدث كالفقهاء، قال الشيخ بغضب لمسه الناس: لا تصوف بلا فقه، وإذا كان لنا سلوك فهو مخ الشريعة، وإذا كان للمتصوفة تصرفات فهى الشريعة بعينها، لا يغرنكم فى ذلك أحد ولا يخدعنكم مدعٍ، ثم إن محبة الله الحقة لا تكون تحت الذل أو المهانة أو الاحتلال، محبة الله حرية القلب والعين والبدن، لا تكتمل المحبة إلا بالحرية، حب الله خيار الإنسان، ولهذا كان ثواب المحبة ثوابًا عظيمًا لا يعلمه إلا الله، ألم يقل الحبيب المصطفى إن الله إذا أحب عبدًا صار يده وعينه؟ هذه العلاقة بين الله وعبده لا تكون ولا تكتمل إلا بالحرية، وهى حرية لا تتجزأ ولا تتبعض ولا تتعضن.

تدفق الشيخ أحمد وحلق وهدر ونثر، تكلم كما لم يفعل منذ زمن بعيد، لم يوقفه سوى تصاعد الأذان يدعو لصلاة الجمعة، قام الناس إلى الصلاة مأخوذين بكلام الشيخ، كان كلامًا فتح لهم آفاقًا أخرى وطعامًا جديدًا للحياة، ولما صلى بهم قرأ بصوته العميق المتناوج على حواف البكاء والدهشة والتردد والخوف، كانت صلاة مترعة ومشبعة، خرج الناس من الجامع، وطارت حكاية الشيخ أحمد البدوى، هكذا أطلق أهل مصر المحروسة على الشيخ أحمد، لهجته البدوية تحمل سحرها وعبقها وبعدها، وثيابه البسيطة المتقشفة، ولثامه الذى يطوق به وجهه عندما يصمت، وجرهمه الملىء وليونته الظاهرة، كل ذلك يشئ ببدوى قاسى المظهر فاتن المخبر، وأهل مصر يحتفون بالغريب، ويفسحون له فى المكان ويسمحون له بالحركة، لا يضيق أهل مصر بالغرباء، بل يمكن القول إنهم يرغبون فى إدماجه وتدجينه أيضًا، طارت حكاية الشيخ أحمد البدوى من بلبيس، بوابة مصر المحروسة منذ سحيق العصور، لقد جاءنا متصوف من أهل بيت الرسول، من مكة المكرمة، ورث من سبقه من أكابر المتصوفة، ساح فى البلاد ورأى وأشرف، نصح الملوك وحارب فى المعارك، صديق الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو مثلنا، يحب الفقراء والضعفاء، ولا يتكعر فى الكلام ولا يعقده لا بالنحو ولا بالصرف، لا يدعى بالصعقة أو بالشعر أو بالغياب، إنه مثلنا ولكن الله فتح له.

مكث الشيخ أحمد فى بلبيس أيامًا ثلاثة، ثم طلب الإذن بالسفر إلى القاهرة، فأرشده ضيفه إلى خيل البريد ليرافقهم، تبعه خلق كثير إلى ظاهر البلدة، ودعوه بالبكاء، ثم انطلق برفقة خيل البريد باتجاه القاهرة، وبعد فرسخ واحد من الطريق، قال البريدى للشيخ إنه يحمل رسالة بشأنه من أتابك العسكر فى بلبيس إلى جاندار الحوش السلطانى، استغرب الشيخ وسأل عن ذلك، فقال البريدى إن الجاندار هو المخول بإدخال الناس على الملك، وقد يكون أتابك العسكر فى بلبيس قد رأى اهتمام الناس بك، فأراد أن يعلم القاهرة بقدومك والاحتفاء بك، توقع البريدى أن يكون وقع الخبر على الشيخ مفرحًا، ولكن الأمر لم يكن كما توقع، فقد علت سحابة من الوجوم وجه الشيخ.

سأل البريدى: كأنك لم تفرح أيها الشيخ لاهتمام أولى الأمر بك وبشأنك؟

قال الشيخ: ولماذا أفرح؟

- الناس يتقاتلون للفوز برضى الملوك.

- وأنا أرغب برضى ومحبة مليكى.

- فلماذا لا تفرح إذن؟

-- قل لى، كيف هى القاهرة؟

- آ.. القاهرة.. ماذا أقول لك؟ منذ أن استتب الأمر للملك الصالح نجم الدين أيوب، فقد غير كل شىء».

- ماذا غير؟

- هجر القلعة التى بناها أجداده وأعمامه، ومن ثم ابتنى قصرًا فى الروضة، بين نيلين، وملأه بمماليك جدد، وضرب على أيدى المماليك الذين نازعوه، ماذا أقول لك؟ ما إن اعتلى عرش مصر حتى رغب أن ينسى الناس أيام الملك العادل الثانى، الملك العابث اللاهى الذى قرب إليه الغلمان، الملك الصالح نجم الدين جاء على قدر، فلولاه لضاعت الشام وضاعت مصر، ورغم ذلك يا شيخ، فالقاهرة مضطربة، وفيها كل ما ترغب أو تحلم أن تراه.

«سئمت من الحواضر الكبيرة، والخانات والقصور والشرطة، سئمت من الضجيج والازدحام، سئمت من الملوك والأمراء والأتابكة».

- قل لى يا أخى، ما هى أقرب البلدات إلينا الآن؟

- نحن على بعد متساوٍ تقريبًا من القاهرة من جهة الجنوب وطندتا من جهة الغرب.

- طندتا..

- نعم، أو طنطا كما يسميها أهل البلد.

البريدى كان رجلًا شركسيًا أحمر البشرة أشقر الشعر، يلبس زيًا شبيهًا بالزى العسكرى، ولهذا فهو يعتقد أنه ليس من أهل البلد. 

ابتسم الشيخ أحمد: فأى أهل هم أهلك؟

قال هذا بفخر: أنا من أهل السيف، ألا ترى؟

وأشار إلى ملابسه.

قال الشيخ: حدثنى عن طنطا.

قال البريدى: قرية ذات منبر، أو قل ذات منابر.

قال الشيخ: آ.. هذا حسن.. فيها جوامع.. إذن هى عامرة.

- هى دائمًا عامرة وملتقى الناس والقوافل، فأرضها أرض زراعية وفيها ماء وحولها ماء.

- إذن.. سأذهب إليها.

اندهش البريدى: ولماذا يا شيخ أحمد؟ الناس يذهبون إلى القاهرة، حاضرة مصر المحروسة، ولا يذهبون إلى قرية مجهولة.

- أنا أفعل.

- ألا تخسر يا شيخ الصيت والحظوة؟

- ومن قال إنى أبحث عنهما؟

- ما الذى تبحث عنه إذن يا شيخ؟

- رضى مليكى.

- ولكن طنطا مجرد قرية مغمورة، فهى ليست الإسكندرية، ولا قوس، ولا الطلائع، ولا القاهرة، فلماذا طنطا بالذات؟

- تقدير الله.

- إذا كان ذلك كذلك، فإننى لا أستطيع مرافقتك إلى طنطا، فهذه خيل تخص مال المسلمين.

- دلنى فقط على الطريق. 

أشار البريدى بيده إلى جهة الغرب تقريبًا، وقال: طنطا من هنا، سترشدك الطريق.

ألقى الشيخ أحمد بنفسه إلى الطريق لترشده، كان الأمر كذلك تمامًا، إذ إن قرار الشيخ بتغيير وجهته إلى طنطا وليد اللحظة، دون سوابق ودون نذر، «لماذا يا شيخ أحمد، ألم تكن القاهرة أفضل، لماذا؟»

«ليس هناك لماذا، ممنوع فى طريقنا أن نسأل لماذا، لماذا هذه تدل على التطاول والجدل، لماذا هذه ليست من مفرداتنا».

«هل تريد أن تكون مثل سيدك الرفاعى الذى اختار قرية نائية؟»، «أم أنك لا تريد أن تقاتل الناس فى حاضرة عظيمة كما فعل سيدك الجيلانى؟» «اعترف يا شيخ أحمد، أنت ترغب فى العزلة، وليأت بعد ذلك من يأتى، وليلحق من يريد اللحاق». «اعترف يا شيخ أحمد، أنت تريد أن تقيم معتزلك كما تريد لا كما يريدون، أنت يا شيخ أحمد لا تريد أن تكون مرتهنًا أو مستخدمًا لقصر أو لأتابك».

«لماذا طنطا؟ لأنى لا أريد القاهرة، يكفينى ما رأيت فى دمشق، وبغداد، وحلب».

«هل تريد أن تقيم فى مصر المحروسة يا شيخ أحمد؟».

«مصر بعيدة عن الفرنجة، وفتنها أقل، وأهلها ذو دعة وليونة».

«مصر المحروسة يا شيخ أحمد أرض عبادة».

«مصر المحروسة أرض واسعة، يضيع المرء فيها ويختفى».

الذهاب إلى طنطا كان قرارًا شبيها بالإلهام قوى لا يمكن رده، شعر الشيخ أحمد بحماس فى بدنه وهو يَعُدُّ الخطى فى تلك الحقول العامرة لمشاهدة هذه القرية التى اختارها دون القاهرة، كانت الطريق إليها أخاذة للعين والقلب، بأشجارها العجيبة من الحور الفارع والجميز الشائك المستفز والنخيل المتأمل، كان من الواضح أن أهل هذه البلاد أهل زراعة وتحصيل، فرائحة الخصوبة تَعْبقُ فى المكان كله، استحضر الشيخ أحمد ما رأى فى أرض فلسطين، حيث أهلها يضطرون إلى استصلاح الجبال ليزرعوا شجرًا هنا أو شجرًا هناك على فقر فى التراب وشح فى المياه، كانت الحقول التى يتجاوزها الشيخ تفيض بالقمح والعدس والحمص، فيما أصحابها يعملون فيها وكأنها بيوتهم، وبعد العصر بقليل، دخل الشيخ أحمد طنطا، كان أول ما رآه منها مئذنة قصيرة مبنية من الطين والحجر، كانت قرية يستطيع زائرها أن يراها دفعة واحدة، بمنازلها المتواضعة وأزقتها الضيقة، كان الحر يأخذ بمجامع كل شىء فى المكان، ورغم ذلك، أحس الشيخ أحمد بنسمة خفيفة أصابت صدره، تذكر أخاه حسن وأخته فاطمة، وتذكر جبل أبى قبيس، يا إلهى، أين هم منى؟ وأين أنا منهم؟

«هذه أرض مصر يا شيخ أحمد، لا هى العراق، ولا هى الشام، فماذا تريد؟».

«أريد أن أُدَرَبَ قلبى على المحبة وأُعلمها لمن يريد ولمن يحب».

«لا أملك هنا، فى هذا المكان البعيد، سوى قلبى وما فيه».

تقدم الشيخ أحمد وهو يجر دابته يلحق به خادمه، كانت الطرقات شبه خالية، فى مثل هذه الساعة من النهار، يَقِيل الناس، وصل الشيخ أحمد إلى المسجد، أخذه نعاس ناعم، استيقظ على جلبة فوق رأسه، فتح عينيه فرأى جمهرة من الناس فى لغط، وما إن فتح عينيه حتى أخذ بعض الناس يُقبلون يديه ويصيحون:

سيدى البدوى، سيدى البدوى.

اعتدل فى جلسته، تقدم إليه رجل واثق من قوله ومن مظهره وقال: يا سيدى، إن سعادتنا لا توصف أنك اخترت بلدنا طنطا من بين قرى مصر وبلداتها.. هذه كرامة ما بعدها كرامة.

لم يرد الشيخ، أكمل الرجل: اسمى يا سيدى ركن الدين، أو ابن شحيط كما يحلو للتجار مثلى أن يسموننى، وقد سمعت بك وبأخبارك أثناء أسفارى، ثم رأيتك فى غزة ورأيتك فى بلبيس، وإنى لأتشرف باستضافتك فى بيتى، وأرجو أن لا تحرمنى من هذا الشرف.

كان الرجل صادقًا كتاجر، لقد رأى بعينيه ماذا يمكن له أن يجنى من استضافة هذا الشيخ، نحن فى نهاية الأمر مجرد بشر، نطمع ونخشى، أليس كذلك؟

ولم تنقض صلاة العشاء فى ذلك المسجد المتواضع، حتى صار الشيخ أحمد ساكنًا أصيلًا فى طنطا، إن لم يكن أكثر شخص مُهمًا فيها، «هذه هى مصر المحروسة يا شيخ أحمد، أرض عبادة وتعبد».

أما ركن الدين فقد أسكن ضيفه على سطح بيته المسقوف بعريش من أغصان الكرمة، وذلك تجنبًا للإحراج واحترامًا لعزلة الشيخ وشئونه، أما الشيخ، فقد رأى أن هذا السطح يعطيه ما أراد دائمًا، النوم تحت النجوم، والاغتسال بالنسائم الطرية التى يطلقها الليل فى إحدى ساعاته المحلوكة، والاستماع إلى أصوات الكون الخفية، «لا أريد من هذا العالم سوى هذا السطح، إنه يكفينى وأكثر».

هذا تدبير من الله سبحانه وتعالى، الذى بيده الأمر والخلق، والذى يعلم السر فى السموات والأرض، أخيرًا طنطا، بلدة صغيرة مغمورة فى سهل خصيب، نحن فى قبضة الله.

ولم يتوان ركن الدين عن سرد ما سمع ورأى من أمر الشيخ أحمد، أحواله وأقواله وأفعاله، وعندما كان يتحدث فى دكانه مع أقرانه من التجار، لم يخف هؤلاء رضاهم وترحيبهم باستضافة متصوف له سمعته بين الخلق، فالمتصوف فى نهاية الأمر يهيج الناس ويُحرك الأسواق ويدفع الأقدام للتزاحم، وقال بعض هؤلاء: إن المتصوف مما يتقى به أمام الحاكم ومما يدفع به الضرر، وقال بعضهم الآخر: إن المتصوفة الكبار أصبحوا مثل الدينار الذهبى الذى اختفى هو الآخر، أما أهل البلد، فقد اعتبروا أن مجىء الشيخ أحمد وسكناه فى بلدهم دليل بركة وحماية، فلم تعد طنطا مجرد بلدة مغمورة، ولم يعد أهلها ممن لا يعتد بهم، ويمكن القول: إن البلدة كانت تنتظر مثل هذا الحدث، لشهرة فى السرد ولرغبة فى التغيير ولشعور بالتميز، وجود متصوف كبير فى بلدة صغيرة يعنى الانتقال إلى مصاف الحواضر، وقد كان ركن الدين واضحًا فى كلامه أمام الناس فى السوق: إن المتصوف فى المائة السابعة أكثر أهمية من أتابك الجند، إن متصوفًا مثل الشيخ سيدى البدوى فى طنطا، لهو خير لنا ولبلدتنا.

عرف الشيخ أحمد ما يدور فى بيوت البلدة وطرقها من جدل حوله، وكيف تحول حضوره إلى منافع ومغانم، لم يغضب ولم يحتج، قال لنفسه: إنه لا يمكن له أن يختفى أو أن يعيش بين الجبال، وقد اختار أن يكون بين بسطاء الناس وفقرائهم، فليستفيدوا بطريقتهم الساذجة أو غير الساذجة، تذكر غدى بن مسافر، ارتعب لفكرة أن يذوب أو يذأب، نظر إلى أغصان الكرمة المحتضنة بالبراعم والأوراق الصغيرة كأكف الأطفال، «هذا قصرى، إنه أكثر بساطة من أن يذوب».

سعى إليه الناس، من طنطا وما جاورها من قرى، كانوا لكثرتهم لا يستطيعون الصعود إلى السطح، فيقفون فى الطريق، ويرفعون رءوسهم ويسألون مسألتهم، مسائل الفقراء والمحتاجين والجوعى والمرضى، حتى كان الواحد منهم يسأل عن حماره الذى ضاع، أو زوجته التى غاضبته، أو زرعه الذى تأخر فى النمو، أرادوا منه ككل الفقراء والمعوزين والمظلومين، أن يكون الشيخ المبارك القادر على اجتراح المعجزات، الذى يطل على الجهة الأخرى من المنطقة التى يتم فيها تدبير الأمور، فيشارك فى تغيير مسارها أو تعديلها أو تصحيحها، أرادوا منه أن يوصل رسائلهم ويشرح مظالمهم، ولكن لدهشتهم، رأوا رجلًا آخر تمامًا، فهو يطلب منهم دائمًا العمل والمحاولة من جديد، كما أنه يطلب منهم تدبير أمورهم بأيديهم أو بجهودهم أو جهود من حولهم، أما الأمر الأكثر إدهاشًا، فإنهم عندما ينفذون نصيحته، يحققون بغيتهم ولو بالحد الأدنى منها، كانوا يرون فى ذلك بركة وتوفيقًا من الشيخ الذى يتخذ من السطح مسكنًا له، كانت نصيحته بسيطة تتحول على أيديهم إلى أعمال باهرة، ربما لأنهم يريدون ذلك، أو يتوقعون أو كانوا ينتظرون هذه النصيحة البسيطة التى لا تقدم من صديق، بل من شيخ مبارك، الكلام قيمته فى قائله، أو الكلام قائله، فلما كثر الناس وصاروا ينامون تحت السطح بالليلة وبالليلتين، يتسقطون كلام الشيخ أو إشارته أو حتى ما يهمس به لنفسه، رأى الشيخ أحمد أنه يندفع إلى قدره تمامًا كمشايخه الكبار، الجيلانى والرفاعى، إذ صار يلقى دروسه من فوق السطح كل خميس بعد العصر، وكل جمعة قبل الصلاة الجامعة، فيتقاطر الناس ليسمعوا ما يقوله الشيخ السطوحى كما أسماه بعض الناس، أما الشيخ أحمد الذى استعاد لحظة نزوله عن جبل أبى قبيس، فقد أدرك أن الله سبحانه وتعالى أكرمه بهذا القبول وهذا الرضا، وأن عليه هو بالذات أن ينقل للناس الفقراء ماذا تعنى محبة الله ومحبة رسوله، وكيف أن هذه المحبة ضرورية للعيش، وأنها قادرة على تغيير كل شىء، كان عليه أن ينقل للناس هذه الرسالة بأكثر الطرق قوة وتأثيرًا وتلخيصًا، كان عليه أن يقدم لهؤلاء البسطاء، ليس ما يريدون فقط، وإنما ما يتوقعون أيضًا، فالقرب من الناس خطير، والتعامل مع البسطاء قد يؤدى إلى المهالك، كان على الشيخ أحمد أن يقترب إلى الحد الذى لا يفقد فيه كثافة الحضور، وكان عليه أن يبتعد دون أن يفقد قوة الرسالة، ربما كان السطح حلًا مناسبًا إلى حين، ربما كان السطح يحقق هذه المسافة المطلوبة، وربما حان الوقت لأن يقول الشيخ أحمد ما يجب أن يقوله لهؤلاء العطاشى، لوجوده ولرسالته ولما يحمله من إشارات.

كان على الشيخ أحمد أن ينزع عن شخصه ما قد يعلق به من أوهام وتخيلات، وكان عليه أن يحض هؤلاء الناس على تغيير حياتهم قدر الإمكان، وكان عليه أن لا يثير أحدًا من أولى الأمر أو ممن تتضرر مصالحهم لسبب أو لآخر، وكان عليه أن يقدم للناس ما ينشغلون به.

صار الشيخ أحمد يُطل على مريديه من على سطحه ليقول لهم: إن الاسلام لم يأت ليكون فى الجبال، بل ليكون بين الناس، لأنه نزل للناس، لخيرهم ومنفعتهم، ولدنياهم وآخرتهم، وليقول لهم إن ذلك لا يحتاج إلى معجزات أو كرامات، فكل امرئ يستطيع أن يحقق كراماته إذا أحب وإذا أخلص وإذا التزم، وهذه هى طريقتى، فخذوا عنى، أنتم أيها الفقراء والمحتاجون والمرضى، كل منكم يستطيع أن ينهل من منابع المحبة، وكل منكم يستطيع أن يرى الأنوار، الإسلام عمل وقوة فعالة ومواجهة شجاعة للنفس وللشرور كلها، الإسلام ليس عزلة ولا انزواء ولا اعتزالًا، هذه طريقتى، العزلة مغرية وتدفع إلى العجب الجنون، والتأمل بلا عمل يدفع إلى الشرك، والبحث العقلى دون إيمان حقيقى يوصل إلى الوقاحة والصلف، طريقتى هى طريقة المجاهدة الدائمة التى تدفع الدم إلى الأوصال، تُهيئها للعمل والصبر، ولهذا فإن اللون خُرقتی حمراء، لتذكر بالقلب العامر وتدل على العمل الدءوب، وإذا كانت ديمومة ما يتصف به الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك مدعاة لنا لالتزام ديمومة الذكر والعمل، وإذا كانت ديمومة الله بلا بداية ولا نهاية، فإن ديمومة ذكرنا وعملنا محصورة بين الميلاد والموت، ولكن رحمة الله وفضله أغرقنا بأن نجعل من ديمومتنا العاجزة بوابتنا إلى رضوان الله ومحبته، وفى ذلك كله، سيدى وحبيبى محمد، المكتمل بين البشر، لينقل عن الله وينقلنا إلى ديمومة لا تتكرر، سيدى وحبيبى محمد، الذى لم يكسره سوى الموت، اختاره الله من بين البشر فأهله وحمله وسلّمه وجمله، ونحن أيتام نلتقط فتات تلك المائدة النبوية، نلتقط فتات النور وفتات الذكر وفتات المشاهدة والمشاهد، سيدى وحبيبى محمد علمنا الذكر والفكر، ولأنه لا مثيل له، فقد أعطى للناس كلّهم أسودهم وأبيضهم، ما يحتاجون إليه، كل على قدر فهمه وقدرته وذوقه، سيدى وحبيبى محمد ما تطلب على الإطلاق، لا يمكن لبشر قط أن يلبى كل البشر سوى سيدى وحبيبى محمد، حتى الكفرة سيعجبون بسيدى وحبيبى محمد، وسيغارون منه، وقد بعث الله محمدًا لديمومتنا العاجزة، حتى تقوى وحتى تتعزز وحتى نقيسها بأفعال وأقوال سيدى وحبيبى محمد.

الناس الذين كانوا يتقاطرون على بيت ركن الدين، هم الفلاحون فى تلك الناحية، الذين كانوا يَكُدُّون طيلة النهار ثم يخسرون كل شىء لجفاف أو لفيضان أو لعسف أتابك مملوكى جديد أو لظلم سلطان، هؤلاء لم يكونوا يعرفون أقوال الفلاسفة ولا أصحاب الكلام أو أفانينه ولا تعقيدات الفقهاء ولا اختلافاتهم، ولم يقرأوا التصانيف فى العلوم، كانوا يريدون من أعماق قلوبهم أن يأمنوا شر الأيام وغدر الليالى، وما أكثر ذلك ضريبة أخرى، حرب بين الأشقاء أو مع الأعداء، دود يأكل الزرع، مرض عضال لا شفاء منه، ولما قال لهم الشيخ أحمد إن المحبة شفاء لكل مرض وعرض وحل لكل مشكل، سألوه عن ذلك، فقال: إن محبة الله ومحبة رسوله تستدعى محبة الناس ومحبة مخلوقاته بما فيها من أشجار وحيوانات، وإنه إذا تخلصنا من الكراهية فيما بيننا فإن حياتنا ستكون أفضل، وتخليص القلب من الكراهية من أصعب الأعمال وأشقّها على النفس التى جبلت على المنافرة، المحبة تدرج أيضًا أكثر من الكراهية، وما تنجزه من عمل بسبب المحبة أضعاف أضعاف ما تنجزه بسبب الكراهية، فضلًا عن أن المحبة لا تهدم فيما الكراهية تفعل، أراد الشيخ أحمد أن يُقدِّم لهؤلاء البسطاء ما فى قلبه باللهجة الدارجة، ولم يتعمد الإغماض أو التعمية، إلا ما اقتضى الحال.

ومع تقدم الوقت، وتعاقب الشهور والسنوات، كان من الواضح أن الشيخ أحمد لم يكن مجرد عابر فى طنطا، إذ تحوّل السطح الذى يقيم فيه إلى مكان شهير تنتقل أخبار ما فيه إلى مجالس أهل القلم فى بقاع كثيرة من بلاد المسلمين.

الشيخ أحمد وفى سنين قليلة، جعل من سطحه مدرسة أخرى، كانت مدرسة مزيجًا ما بين مدرستى الجيلانى والرفاعى، فقد بسّط علوم الطريقة وألبسها ثوب السلوك القريب المتاح والمستطاع، حتى أصبحت مدرسة الفقراء بحق، وأطعم الطعام، واعتمد على نفسه فى معيشته، ولم يرض أن ينفق عليه أحد، فاشترى أرضًا صغيرة واتخذ غنيمات، واتخذ راعيًا وخبازًا، فأكل وأطعم، لم يُرد أن يكون ذلك الشيخ الذى يُتصدَّق عليه بين أناس يأكلون بعرق الجبين، ولم يُرد أن يكون الشخص ذا الكرامات الذى يأكل من حيث لا يعرف الناس، أراد بحق أن يكون قريبًا بقدر ما يسمح الحال، أراد أن يكون معلمًا ليس إلا، وتناقل الناس عنه قوله «أنا زيت من لا زيت له»، فلا يمكن مواجهة هذا الفقر وهذا الضعف إلا بالدور العميق الذى يدفع إلى العمل والمحبة.

ولكن الناس لا تقبل شيخًا بهذا الحضور دون حكاية، فلا بأس ببعض المبالغات أو الزيادات، فالشيخ بلثامين، إذ لا يمكن لهذا الحضور أن يكون بلا خفاء أو بلا غياب، حتى لو كان غيابًا جزئيًا وراء لثامين، ولهذا تدحرجت حكايات وراء حكايات حتى صارت الحكاية الأولى لا قيمة لها، فالشيخ انتفى تلميذه وخادمه اليافع عبدالعال بعد أن فاجأ والدته بقصة عنه لا يعرفها إلا من كان حاضرًا لحظة ميلاد عبدالعال، والشيخ صاحب كرامات كثيرة، وقد استطاع أن ينتصر على كل من عاداه أو حسده من أعيان طنطا وما جاورها، حتى أولئك الذين سمعوا به فى القاهرة من أكابر القوم ومتنفذيهم من الأتابك أو القضاة لم يستطيعوا مجاراته فى علمه وفى كشوفاته وفيوضاته، كان لا بد لطنطا أن تنتصر على القرى والبلدات الأخرى، حتى على القاهرة، كان الشيخ أحمد يرى ويسمع، نفى ما وسعه النفى، ولكنه كان يعرف فى قرارة نفسه أنه لا يستطيع أن يمنع تحوله إلى جزء من حركة الأيام.. آه يا شيخ غدى بن مسافر، نحن حكايات فى نهاية الأمر.. ولأننا كذلك فيما يبدو، فإن أكثر ما يتأثر فى الحكاية هو عدم معقوليتها.. وكان الواقع لا يكفى، أو أن الواقع لا يكفى حقًا، الشيخ أحمد أدرك ذلك فى جبال هكار، يبدو أن الأمر كذلك، فلما أتهم فى طنطا أنه شيخ العامة والفقراء اضطر أن يدخل فى مناظرات مع بعض الفقهاء العابرين أو الذين أتوا قصدًا- بإيعاز من أتابكة القاهرة- للتعرف إلى هذا القادم صاحب الشهرة، وقد فتح الله صدر الشيخ أحمد، فناظر وجادل حتى أسكت، ولما التقى الفقيه الشهير ابن دقيق العيد، وجرى بينهما حوار، لم يجد ابن دقيق العيد تفسيرًا لذلك القبول الذى سرى فى قلبه وهو يستمع إلى الشيخ أحمد الذى كان يتدفق بكل بدنه ليقول إن حب الله لا حدود له، وإن حب النبى حب يختصر كل المحبة فى الدنيا، وإن شرط المحبة هو سر الشريعة وهدفها، ماذا يمكن لابن دقيق العيد أن يضيف على ذلك؟ باطن الشريعة هو ظاهرها، أليس كذلك؟