صناعه يفككون الأسطورة.. وهم الفيلم السياسى

- الفن «مش رسالة» والأعمال السينمائية تنجح بالصدق وليس الشعارات
- الرقابة تقتل الإبداع ولو عرضت 5000 فيلم على الأزهر هيرفض 4900!
- السينما لا يجب أن تهتم بالأيديولوجيا ولا الرسالة
- البعض اعتبر فيلمًا مثل «حين ميسرة» تحريضًا ضد النظام
بعد أحداث «25 يناير» فى 2011، ظهرت عدة مصطلحات دخيلة على عالم السينما المصرية وفق السينمائيين وصُناع الأفلام أنفسهم، أبرزها «الفيلم السياسى»، الذى أُطلق على الأعمال السينمائية التى تطرح فى ثناياها قضية اجتماعية، أو تُلقى الضوء على أمور تتعلق بالسياسة.
ويرفض صُناع السينما هذه المصطلح بقوة، ويؤكدون أن من روجه وحاول نشره فى الأوساط الثقافية، إما مغرض يستهدف الترويج لمصطلح غير موجود فى صناعة السينما منذ نشأتها لأغراض لها علاقة بالسياسة، أو جاهل لا يعرف شيئًا عن صناعة السينما.
خلال هذا الملف، تشتبك «حرف» مع هذا الواقع الجديد، الذى يحاول البعض فرضه على صناعة السينما، من خلال طرح عدة تساؤلات على صُناع السينما أنفسهم، والفنانين الذين قدموا أفلامًا صنفها البعض كـ«أفلام سياسية»، لنستكشف معًا أسباب ظهور هذا المصطلح على صناعة السينما، وسر التوقيت الذى بدأ ينتشر فيه بصورة ملحوظة.

نبيلة عبيد: بعض النجوم يصطنعون أزمات مع الرقابة ترويجًا لأعمالهم
رغم تقديمى عدة أفلام تمس أمورًا سياسية فى حقب زمنية معينة، من بينها «كشف المستور» و«الراقصة والسياسى»، لم أواجه أى أزمات فى تقديم هذه الأفلام، لا على مستوى جهاز الرقابة ولا أى من مؤسسات الدولة الأخرى.
لا أحب تسمية «أفلام سياسية»، فهى أفلام بها جرأة واختراق لقضايا مهمة، لكن لا يوجد ما يسمى بـ«الفيلم السياسى»، لأن كل هذه الأفلام لا ترفع شعارات ولا تحمل رؤى سياسية، بل تقدم حكايات وقصصًا من الواقع.
أى عمل سينمائى يناقش قضية مجتمعية أو قضية رأى عام هو فيلم فقط، ولا يجب تحميله أكبر من ذلك. شخصيًا، كنت أؤدى الأدوار كممثلة فقط بعدما أعجبتنى القصص، ولم نستهدف منها أى «شو»، أو الترويج لنفسى كمناضلة سياسية أو معارضة، فى مقابل عدد من الفنانين يفعلون ذلك من أجل «الشو».

كثير من الفنانين كانوا يختلقون مشكلات مع الرقابة بهدف الترويج لأعمالهم، عن طريق الادعاء بمنع هذه الأعمال من قبل الرقابة، أو تدخلها فيما يقدمونه. تابعت بنفسها الكثير من هذه الأمور خلال مسيرتى. حقيقة كان هناك نجوم ونجمات يروجون لتفاصيل ليست موجودة أصلًا فى الأفلام، بهدف اختلاق أزمة حول هذه الأعمال قبل عرضها.
مصطلح «الفيلم السياسى» اخترعه البعض، من أجل التريج لأفكار معينة تخصهم وحدهم. بينما أى فيلم يحمل قضية اجتماعية أو إنسانية، يمس المجتمع وقد يؤثر فى الأفكار، ولا يمكننا تصنيفه كـ«فيلم سياسى»، لأن السينما والفن لا علاقة لهما بالسياسة.
الهدف من السينما هو المتعة والترفيه، وليس دورها اقتحام عالم السياسة، فالسياسة تمارس من خلال الأحزاب والمؤسسات السياسية مثل البرلمان. أما السينما فالهدف الرئيسى منها هو الترفيه، وتصنيف الأفلام ينحصر بين «التراجيدى» و«الكوميدى»، وما دون ذلك مجرد اختراعات لا مكان لها فى عالم صناعة السينما.
خالد يوسف: مصطلح دخيل.. الأفلام إما كوميدية أو درامية أو خيال علمى
«الفيلم السياسى» مصطلح دخيل على السينما.. «مفيش حاجة اسمها فيلم سياسى»، لأن الأفلام دراما، والدراما إما «تراجيدى» أو «كوميدى»، وبالتالى الأفلام إما «كوميدية» أو «تراجيدية»، وتحت هذين العنوانين الكبيرين تأتى تصنيفات أخرى، مثل الفيلم «الميوزكال» أو «االاستعراضى» أو «لايت رومانسى» أو «لايت كوميدى».

لا يوجد شىء اسمه «فيلم سياسى»، ولا «فيلم اجتماعى» حتى لو كان يناقش قضية اجتماعية. أفلام الحرب العالمية الثانية- على سبيل المثال- لا يُطلق صناعها عليها «أفلام الحرب». كل هذه الأنواع من الدراما المعروفة، ولا يوجد ما يسمى بـ«فيلم سياسى» أو «اجتماعى» أو «حربى».
البعض من غير المتخصصين يرى أن هناك أفلامًا لها بُعد سياسى، أو تنقل أحداثًا معينة فى ظرف سياسى معين، فأطلقوا عليها هذا المصطلح- عَرضًا- لكن المصطلح الوحيد الذى ظهر فى السينما حول العالم كله كنوع جديد هو «أفلام الخيال العلمى».
والفيلم الرومانسى مثلًا فى مصر، يختلف عن فيلم رومانسى فى فنزويلا، لأن الظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمع، سواء اجتماعية أو اقتصادية أو حتى نفسية، تؤثر على طبيعة الدراما نفسها فتختلف من مكان إلى آخر.
الشاعر الراحل نزار قبانى يقول: «هل يوجد من يختلى بحبيبته على نهر النيل أو على نهر الفرات دون أن تمر على رءوسهم طائرة ذاهبة لكى تدمر أطفال فلسطين أو أطفال العراق؟ هذه المقولة معناها أن الدراما الخاصة بالمنطقة العربية يلزم أن تتضمن نقاط اشتباك بينها وبين الواقع المعاش».
عندما تتحدث عن مصر فى الثمانينيات والتسعينيات مثلًا، ستجد أن الهجرة إلى الخارج، التى ميزت المجتمع آنذاك، لها ظلال واضحة فى السينما، وهذا طبيعى، فالسينما تتلاقى مع ظروف المجتمع الذى تُقدم فيه بكل تفاصيله، سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

البعض يقول إن الأفلام التى تطرح قضايا سياسية أو اجتماعية لا تحقق إيرادات كبيرة، وهذا كلام غير حقيقى، فأفلامى التى طرحت قضايا من قلب المجتمع حققت إيرادات كبيرة، ونجاح الفيلم دائمًا مرهون بأسباب عديدة، أهمها على الإطلاق صدق المبدعين الذين يقدمونه.
ثانى هذه الأسباب الظرف النفسى للمجتمع وما يمر به فى هذه اللحظة، وهل هذا المجتمع مهيأ لاستقبال مثل هذه «التيمة» وبهذه المعالجة الآن أم لا، فمثلًا أفلام مثل «باب الحديد» أو «الأرض»، وغيرهما الكثير، «سقطت» فى السينما وقت طرحها، ثم نجحت و«كسرت الدنيا» وأصبحت جزءًا من وجداننا وتاريخنا السينمائى، عندما عُرضت فى التليفزيون بعد ذلك. لماذا سقطت فى وقتها؟ لأن الظرف النفسى فى المجتمع آنذاك لم يكن مهيأ لاستقبال هذه «التيمة».
«حين ميسرة» يعد أكثر أفلامى تحقيقًا للنجاح والإيرادات فى وقته، هل لو قدمته الآن سينجح نفس النجاح؟!... «وارد آه ووارد لا». لكن فى كل الأحوال، الظروف المحيطة بالمجتمع عامل مهم فى نجاح أو عدم نجاح أى عمل سينمائى.
على المستوى الشخصى، أنا مهموم بالهم العام للناس، ولا أستطيع أن أناقش قضية، حتى لو قصة حب، دون أن أنزلها إلى أرض الواقع، وعندما أفعل ذلك أجد نفسى مشتبكًا مع الظروف الموضوعية على الأرض، التى تؤثر على قصة الحب هذه.
الظروف الموضوعية على الأرض يمكن أن تخلق القهر الذى يؤثر بدوره على قصة الحب، وكذلك اللا حرية، أو الظرف الاقتصادى الصعب، فأجدنى أشتبك مع كل هذا، لأننى أحب أن أقدم قصة حب «لها ساقان واقفتان على أرضية مفهومة»، ومن ثم أتعاطى مع الواقع بكل إشكالياته، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو النفسية.
بالنسبة للرقابة على الأعمال السينمائية، الرقابة فى مصر مختلفة تمامًا عن العالم بأكمله. وبصفة عامة، الرقابة مُدمرة للفنون وللإبداع بشكل عام، لأن المُبدع لا يجب أن يكتب وهو مشغول بالرقيب: «هيوافق ومش هيوافق على إيه»، وإذا انشغل المبدع بذلك فلن يقدم الفن الذى يسعى لتقديمه.
كلما زادت مساحات الحرية و«اللا رقابة»، كانت الأفلام أكثر نضجًا وصدقًا، لذا أرى أن قرارات منع الأفلام خطأ فادح، وعندما تتدخل المؤسسات، سواء الدينية أو السيادية أو الأمنية، فى المحتوى الفنى، يقتل هذا الفن بشكل عام، مثلما حدث فى تعامل الأزهر مع فيلم «الملحد».
«إحنا لو أدينا الأزهر الـ٥٠٠٠ فيلم اللى اتعملوا فى الـ١٢٠ سنة اللى فاتوا، هيرفض منهم ٤٩٠٠ فيلم»، لأن قادته ومسئوليه ودعاته يطبقون على الأعمال الفنية قاعدة الحلال والحرام، والفنون لا تُطبق عليها غير القواعد التى يخضع لها كل فن، وهو النقد الفنى أو الأدبى.
هذا ليس كلامى، بل رأى المحكمة الإدارية العليا، التى توجهت إليها بشكوى بعد منع أحد أفلامى، فقالت بالنص: «إن تدخل أى جهة إدارية أو سيادية فى عمل فنى يعد قهرًا لإرادة مُبدِعه، وهو أمر لا يكفله القانون ولا الدستور»، مؤكدة أيضًا أن «القواعد التى تُطبق على أى فن، هى قواعد النقد الخاصة بهذا الفن، وليست القواعد العامة الموجودة فى المجتمع».
وتقديم الأحداث السياسية الكبرى فى السينما هو حق للمبدعين، لكننى أفضل تقديم مثل هذه الأحداث بعد فترة لا تقل عن ١٠ سنوات من حدوثها، حتى يكون هناك نضج وموضوعية فى تقديمها على الشاشة، تمامًا مثل أفلام الحرب العالمية الثانية، التى قدمها صناعها بعد الحرب بحوالى ١٠ سنوات.
الأفلام التى قُدمت بعد ثورة ١٩٥٢، من المؤكد أنها تضمنت انتصارًا لمنظومة القيم الحاكمة للمجتمع آنذاك، مثل التحرر الوطنى والعدالة الاجتماعية، وغيرها من القيم التى كانت تعكس انتصار المجتمع وليس النظام. ورغم أن الدولة كانت حاضرة فى أفلام الخمسينيات والستينيات، وكان من الطبيعى أن تروج هذه الأعمال للأفكار الجديدة للنظام، كان المبدعون أنفسهم مقتنعين بما يقدمونه، بعكس أزمنة أخرى.. النظام فى هذه الفترة «زق» المبدعين لتقديم أفلام تنتصر لصالح أفكاره، لكن هم أنفسهم أيضًا كانوا مقتنعين بهذه الأفكار ويروجون لها عن قناعة.
أرى أن مفهوم «السينما المستقلة» يكاد يكون غائبًا عن المشهد السينمائى فى مصر، وهذا لم يكن وليد اللحظة، فمصر لم تعرف وجودًا فعليًا ومستدامًا لهذا النوع من السينما، فى أى مرحلة من تاريخها الطويل. المشكلة الحقيقية فى «السينما المستقلة» ليست فى الأفكار أو الكوادر أو الرغبة، لكنها كامنة فى منظومة الإنتاج والتسويق، والأهم فى الرسوم والتصاريح التى تُفرض على أى عمل سينمائى، دون تفرقة بين فيلم ضخم وآخر مستقل بسيط.
«الفيلم المستقل» يقوم فى الأساس على تقليل النفقات، باستخدام فريق عمل صغير ومعدات أخف لتقليل التكلفة، لكنه يُفاجأ بأنه مُطالب بدفع نفس الرسوم التى تُفرض على الأفلام الكبرى، رسوم تصوير وتصاريح والحى والمحافظة والشرطة والمطافئ، كلها لا تفرّق بين فيلم تكلفته مئات الملايين وآخر مُستقِل بموارد محدودة.. «ده اللى بيكسر ضهر السينما المستقلة، وبيعجزها من البداية».
وعن تصنيفات الأفلام، أرى أن هناك أفلامًا «تجارية» وأخرى «نخبوية». هناك مبدعون كُثر لديهم قدرة عالية على التعبير، لكنهم لا يعرفون كيف يتواصلون مع الجمهور العادى.. يمكن أن تكون «التيمة» الخاصة بهم ضبابية، أو السرد مُعقد ومُركّب، وهذا يجعل الفيلم أقرب إلى فئة معينة من المشاهدين، وليس كل الناس.. و«ده مش غلط... دى طبيعة التنوع فى الفن».
أرفض ما يسمى «الرسالة» فى السينما، فالفن لا يُنتَج بغرض إرسال رسائل مباشرة، وإنما يحمل القيم بشكل غير واع أحيانًا، ويؤثر فى المتلقى من خلال تفاعله الوجدانى مع كل عمل، لذا لدى تحفظ على هذا المصطلح.
نحن لا نعمل فى الإعلام ولا نقدم خطبًا، نحن نصنع فنًا، نقدّم قصة إنسانية أو دراما اجتماعية أو حتى مأساة، ومن خلال السياق الطبيعى للأحداث، تظهر قيمة أو موقف معين ينتصر لفكرة أو يطرح تساؤلًا ما، لكن لا يوجد أحد يكتب فيلمًا ويقول: «أنا عايز أوجه رسالة كذا.. لو أنت بنى آدم سوى وعندك قيم نبيلة، غصب عنك هتكرس لقيم رفيعة فى شغلك، ولو أنت عندك أفكار متخلفة، برضه هتظهر فى شغلك، حتى من غير ما تحس».
السينما لا تتوجه إلى العقل بل للوجدان.. «فى ناس فاهمة غلط أن الفنون بتخاطب العقل، لأ، الفنون عمومًا، والسينما بشكل خاص، تخاطب الوجدان». السينما تشكل الوجدان الجمعى للأجيال الجديدة، تأثر فيهم من غير أن يشعروا، ولما السينما تكرّس لقيمة معينة، بتغرسها فى الوجدان، لا تشرحها للعقل.
قضية مثل حق المرأة فى اختيار شريك حياتها، أو أن تكون شريكة فى التنمية وتصبح مديرة ورئيسة، قدمتها السينما المصرية وانتصرت لها منذ سنوات طويلة، دون أن ترفع شعارات ولافتات، وعلى رأسها أفلام مثل «مراتى مدير عام» و«الأستاذة فاطمة».
«النهارده البنت ممكن تيجى تقول لأبوها: فى زميلى بيحبنى وعايز يتقدم لى، والأب ما يعتبرهاش متمردة ولا خارجة عن الآداب»، هذا مشهد كان من المستحيل أن يحدث فى الأربعينيات والخمسينيات، فوقتها البنت التى كانت تفعل ذلك إما «منفلتة» أو «متمردة».
ما صنع هذا الفارق ليس الإعلام ولا الخطب ولا التعليم، بل السينما، السينما التى تقدم قصة حب فتنتصر لقيمة الحب والاختيار، السينما التى تجعل حواء مديرة أو رئيسة فتنتصر لمكانتها فى المجتمع. هذا يزرع مثل هذه القيم بداخل الناس، وحتى لو الفيلم انتهى نهاية مأساوية، حينها ستخلق تعاطفًا مع الفكرة، وتكرس لحق المرأة فى الحب أو الإرادة أو الاختيار، وهذا جوهر الفن الحقيقى الخالى من الخطب والشعارات.
خيرى بشارة: غلبة السياسة ليست فى صالح «الفن السابع»

غلبة السياسة على السينما غير مفيدة، والسينما لا يجب أن تهتم بالأيديولوجيا ولا الرسالة، بل يجب أن تهتم بالحياة والواقع، لذا دائمًا ما ينجح المخرج الذى ينقل تجربة حياتية أو يشيد عالمًا خاصًا، وبما أن الحياة قصص بلا «حبكة»، عليه أن يضيف إليها هذه «الحبكة».
«الحبكة» هنا ليس معناها «الصنعة»، بل معناها وجود وحدة وغاية، رؤية تكشف عن معان وفهم، وتجعل المشاهد يخرج من الفيلم مختلفًا عن ذاته التى شاهدت الفيلم. لو استطاع المخرج أن يفعل ذلك فقد نجح. إذن المطلوب هو مزيد من الفهم والتأمل والجدل مع الذات والآخر، وليس تقديم شعارات ورسائل سياسية تحمل أيديولوجيات لا تهم المشاهد.
لا يجب أن تتبنى السينما أفكارًا سياسية، ولا أؤمن بأن هناك فيلمًا يمكن تصنيفه كـ«فيلم سياسى»، لأن الواقع دائمًا متغير، وهناك اختلاف بين الأجيال فى فهم السياسة، فلكل جيل فهمه واستيعابه، ولا يمكن مثلًا أن نقدم فيلمًا يحمل أفكارًا اشتراكية أو شيوعية أو غيرها فى هذا الزمن، لأن الأجيال الحالية لن تستوعبه، وحتى لن تستوعب الأفلام التى تحمل أفكارًا سياسية وأيديولوجيات وأُنتجت فى أزمنة سابقة، والمجتمعات الناضجة تعرف جيدًا أن حيويتها كامنة فى تعاقب وتفاعل الأجيال لا صراعها.
أفلامى كلها شعبية، أو على الأقل حاولت صناعتها كذلك. لكن أعمالى الأولى: «الأقدار الدامية» و«العوامة ٧٠» و«الطوق والأسورة» و«يوم مُر ويوم حلو» لاقت احتفاءً من النخبة المثقفة، فيما هجرها المشاهد العادى، لذا اعتبرها «أفلامًا نخبوية». السينما فى رأيى ظاهرة شعبية، يجب أن تخاطب الجمهور العادى، وهو ما عملت عليه فيما بعد. بعض المخرجين حاولوا أن يستفيدوا من ذلك فى تقديم صيغ شعبية للوصول إلى جمهور أكبر، وهذه أهمية وجود سينما من هذا النوع.
والسينما بعد أحداث ٢٥ يناير اختلفت كثيرًا. حينما عُدت من الخارج بعد تنحى «مبارك»، ذهبت إلى ميدان التحرير، لكنى شعرت بأننى أجنبى أو زائر من الفضاء، وقال لى كثيرون حينها إننى واحد ممن تسببوا فى هذه الثورة، لأننى كنت ممن حرضوا على التمرد والتغيير من خلال أفلامى، وكنت أرد عليهم قائلًا: «لا هذه ثورتكم أنتم الشباب وليست ثورتنا نحن». وأنا لا أحب أن أطلق عليها «ثورة»، لأن «الثورة» يجب أن تنجح حتى تُسمى هكذا، وأفضِّل أن أطلق عليها «انتفاضة»، مثل «انتفاضة ١٩٧٧»، وإن كانت هى أكبر وأضخم بالتأكيد».
بالنسبة للرقابة ومقص الرقيب، لم أتعرض أبدًا لمضايقات فى عصر «السادات» أو «مبارك»، تعرضت لبعض المضايقات من الصحفيين والنقاد والرقيب، وليس من النظام نفسه، فمثلًا فى مسلسل «أهل إسكندرية»، مشكلة النظام ليست معى، المشكلة مع بلال فضل وعمرو واكد وبسمة، بينما المسلسل لا يحتوى على أى شىء يتعلق بالثورة، وكل أحداثه قبلها من الأساس.
أما فيلم «قشر البندق» فحمل إسقاطات سياسية كثيرة تحيل إلى فساد ذلك العصر، وكان واضحًا فى الفيلم أن الفندق هو مصر، وأن مديره هو رئيس الجمهورية، لذا لا يُذاع الفيلم فى القنوات كثيرًا، بسبب احتوائه مشاهد تبين أكل أطفال الشوارع من القمامة، والناس فيه تموت فى سبيل تحقيق أحلامها، وهم فى سباق محموم من أجل الجائزة. أيضًا يحتوى الفيلم على سخرية مريرة من الرأسمالية. لكن فى النهاية هل يمكن أن نصنفه كـ«فيلم سياسى»؟ بالطبع لا، فهو فيلم إنسانى يقدم قضايا اجتماعية، ولا يرفع شعارات ولا يحمل أيديولوجيات سياسية.
عمرو سعد: أزمة «كارما» مصطنعة ومصر أكبر من منع فيلم

لا أؤمن بمصطلح «الفيلم السياسى»، وأرى أن أعمالى التى قدمتها مع المخرج خالد يوسف، وقد يُدرجها البعض تحت هذا التصنيف، هى أعمال من الواقع والحياة والمجتمع، ولا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد.
حتى عندما كان خالد يوسف يميل لتقديم تفاصيل تتعلق بالسياسة فى هذه الأعمال، كنت أتجاهلها، لأننى أرفض أن أكون جزءًا من توليفة تخدم أو تروج لفكرة ما تخدم هوى المخرج، وترفع شعارات سياسية، فأنا اتعامل طوال الوقت كممثل وليس سياسيًا.
أزمة منع عرض فيلم «كارما» كانت «مصطنعة»، فقصة العمل هى فكرتى من الأساس، ولم يكن بها أى توجه أو أفكار سياسية، وهو ما ظهر للجمهور عندما عُرض الفيلم فى موعده كاملًا دون حذف أى مشاهد. مصر بلد كبير، ولا يمكن أن تمنع عرض فيلم، رغم أن المخرج خالد يوسف أخذ «الحدوتة» فى هذا الفيلم إلى اتجاه السياسة، لأنه مهتم بها ولديه علاقة بالعمل السياسى ويمارسه.
البعض اعتبر فيلمًا مثل «حين ميسرة» تحريضًا ضد النظام، وهذا ظلم بين، فلا يمكن أن يسبب فيلم سقوط نظام أو التحريض ضده. الفيلم حقق نجاحًا كبيرًا بسبب اختراقه للواقع، وفتح ملفات مسكوتًا عنها مثل العشوائيات وما يحدث بها.
هانى رمزى: أفلامى «صرخة مواطن» ومسئول قال لى «سيبك منها»

لم أتعرض لأى ضغوط أو مضايقات عندما قدمت أفلامًا مثل «عايز حقى» و«ظاظا»، وغيرهما من الأفلام التى حملت طابعًا قد يميل للسياسة فى بعض تفاصيلها.. كنت كثيرًا ما أجد اعتراضات من الرقابة، لكن بالمناقشات والحوار تُحل الأزمات فى هدوء.
الرقابة تعد إحدى مؤسسات الدولة، وكان صناع الأعمال يعانون كثيرًا لخروج أفلامهم إلى النور. المنتج والكاتب يتعامل بطريقة «اشترى دماغك» و«ابعد عن الشر وغنيله». لكن كان لدى إصرار على المجازفة، والحمد لله كانت الأمور تسير بشكل جيد، واتمكن من إقناع الرقابة، وعرض الأفلام دون أى مضايقات، لتحقق وقتها نجاحًا كبيرًا، علمًا بأنها كانت تعبر عن «صرخة المواطن».
أما الأزمة الحقيقية التى كانت تواجهنى فهى إنتاجية، إذ إن المنتجين يرفضون كثيرًا هذه الأعمال ولا يتحمسون لإنتاجها. كما أن بعض الفنانين الذين يعملون معى كانوا- فى البداية- يرفضون خوفًا من حدوث أزمة. فيلم «ظاظا»، على سبيل المثال، رُفض من عدة جهات إنتاجية، رغم عدم رفضه رقابيًا، حتى تحمست له جهة إنتاج وقدمناه. هذا ما حدث أيضًا فى «جواز بقرار جمهورى».
بصفة عامة، هذه الأفلام إنسانية اجتماعية و«فانتازية»، لا ترفع شعارات سياسية ولا تحمل أيديولوجيات، ولا يجب تحميلها أكبر من كونها أفلامًا للترفيه والمتعة من قلب الواقع، وبعض الإسقاطات التى يعتبرها البعض سياسية هى إسقاطات على المجتمع نفسه وواقعه.. الأفلام الاجتماعية أصلها سياسى، وفى لقاء ودى جمعنى بمسئول سياسى بارز قال لى: «سيبك من الأفلام دى»، لكنه قالها بسخرية ونصيحة، ولم يتدخل يومًا لمنعى أو مضايقتى.
مصطلح «الفيلم السياسى» لا وجود له على أرض الواقع، يمكن أن تجد فيلمًا كوميديًا يقدم قضية إنسانية أو اجتماعية، أو فيلمًا يقدم قضية شائكة، ولا يصح أن نصنفها كـ«أفلام سياسية»، لأن السينما لا علاقة لها بالسياسة ولا شعاراتها ولا ممارساتها.
هناك أفلام يمكن تقديمها فى مرحلة زمنية معينة، ولا يمكن أن تقدم فى مرحلة أخرى، وهذا مرتبط بالحالة العامة والظروف المحيطة، وهنا يظهر ذكاء الصُناع فى اختيار التوقيت المناسب لعرض أعمالهم للجمهور.
أحمد مصطفى: القائلون إن «25 يناير» حررت السينما «مضللون»

وزارة الثقافة شاهدت فيلم «البرىء» قبل عرضه، ورغم ذلك لم يواجه أى أزمة رقابية بقدر ما واجه من عدم إقبال المنتجين على تنفيذه، قبل بدء العمل عليه، حتى إن النجم أحمد زكى نفسه رفض أن ينتج الفيلم، رغم أنه أسس شركته للإنتاج فى التوقيت نفسه.
الرؤية قبل بداية التصوير كانت غير واضحة تمامًا، حتى إن صناع الفيلم كادوا أن يفقدوا الأمل فى تقديمه، كى لا يتعرضوا لمشكلات وأزمات مع الدولة، لكن فى النهاية بإصرارهم تحقق الهدف وقدموا الفيلم. وفى كل الأحوال، «البرىء» ليس فيلمًا سياسيًا بل إنسانى فى المقام الأول. حاول البعض بعد «ثورة ٢٥ يناير»، الترويج لأفكار مغلوطة عن السينما، وروجوا أنها أصبحت أكثر حرية مما قبل، وهذا غير صحيح بالمرة، لأن السينما المصرية طوال تاريخها تقدم أعمالًا قوية ومؤثرة، وتلقى الضوء على كل القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. من يتحدثون عن أن «ثورة ٢٥ يناير» حررت السينما المصرية «مضللون»، والدليل على ذلك تلك الأعمال التى قُدمت، منذ فيلم «لاشين» الذى طرح قضية «الأسلحة الفاسدة» مثلًا، وعلى مدار ٥٠ عامًا، فكلها تناولت قضايا مهمة تشتبك مع الواقع. أما بعد «ثورة يناير» تحولت السينما لـ«سبوبة»، وانتشرت «الأفلام التافهة». تغير استراتيجيات الحكومة يتيح للمبدعين تقديم أعمال «ممنوعة»، بمعنى أن الصناع من الممكن أن يقدموا فيلمًا معينًا فى حقبة زمنية، ولا يتمكنوا من تقديم نفس الفيلم فى حقبة زمنية أخرى. الصناع عليهم دور كبير فى اقناع الرقابة بمبرراتهم، ومناقشة جهات الرفض بنفس طويل وقدرة على تحقيق الهدف. رغم منع فيلم «البرىء» لمدة عام، تمكن صُناعه فى النهاية من تحقيق الهدف وعرضه، بعد إقناع الجهات المسئولة برؤيتهم، ليتم تصوير الفيلم عام ١٩٨٥ ويُعرض عام ١٩٨٦، أى أن فترة المنع لم تطل.
بالنسبة لقلة هذه النوعية من الأفلام، الأزمة ليست أزمة دولة ولا نظام، لكن الواقع أن صُناع السينما أنفسهم يخشون تقديمها، ولا يجازفون بالتجربة أو حتى الاقتراح. المنتجون والفنانون أنفسهم يرفضون الاتجاه لمثل هذه الأعمال، خشية الصدام أو المضايقات، التى من الممكن ألا تحدث أصلًا. المنتجون تحديدًا يخشون من الخسارة المادية و«وجع الدماغ»، لذا فإن هذه النوعية من الأفلام لا تجذب المنتجين.