أغنية الوفاء... «من كان يا مكان».. هدية تامر حسنى لرواد المسرح والفن المصرى

لأسباب كثيرة جدا، أقول إن أغنية تامر حسنى «من كان يا مكان» فى افتتاح مهرجان نقابة المهن التمثيلية، أكثر من مجرد أغنية، لأنها قدمت وثيقة تاريخية فى دقائق بسيطة لتاريخ الفن المصرى، تاريخ ربما نسيناه، انحرفنا عنه كثيرًا، لكن الأغنية أكدت أن ذاكرتنا على الأقل لا تزال بخير، لا تزال تستدعى هؤلاء وتدين لهم بالفضل وتعرف قيمتهم الحقيقية.
لن أبالغ إذا قلت إن الأغنية أثارت فى داخلى أسئلة، وأنا أرى المسرح المصرى الآن وقد انطفأ تمامًا، وسألت: هل يمكن أن نعود إلى هذا الزمن؟ وهذه المواهب الضخمة العملاقة؟ من المؤكد أن الإجابة محبطة، لكن على الأقل هذه الأغنية جمالها فى أنها تذكرنا بما يجب أن تكون عليه قضيتنا التى انحرفنا عنها، وهى أن المسرح يجب أن يعود وأن الفن يجب أن يعود، ولن يعود إلا بجرأة وتحرر، وأن تضحك الناس وهم يعرفون أنك تدينهم وتخلصهم.

بعد هذه المقدمة التى يبدو وأننى «أحزق فيها» وربما يرى فيها البعض أننى أمنحها معانى كبيرة أكثر مما تحتمل، سيسأل أحدهم الآن: «هل رأيت كل ذلك فى بساطة هذه الأغنية»؟ والحقيقة أجيب أن الأغنية ذكرتنا برواد حقيقيين، فبكل تأكيد، وبكل تلقائية، قام عقلى بعملية مقارنة بين الماضى والحاضر، فصعق، المدهش أنه صادفنى أكثر من تعليق قال: «هو مين صنوع وقبانى»، والمقصود، رواد المسرح يعقوب صنوع وأبوالخليل القبانى؟، فالأجيال لا تعرف الرواد الأوائل، فكيف لنا أن نقدم فنًا حقيقيًا يناسب الحاضر والمستقبل ولا يعرف الماضى؟
فجال فى خاطرى سؤال: ما العمل لنكون امتدادًا لأبطال هذه الأغنية؟ الإجابة هى: أعدوا المسرح لجمهوره لا جمهورًا للمسرح، أخرجوا الرواد من الصور إلى المناهج، ومن المناهج إلى البروفات. دعوا أسماءهم تتردد فى ورش الإعداد لا فى افتتاحيات الخطب والمهرجانات.

أعيدوا المعهد إلى دوره: مصنع عقول، لا مصنع شهادات، افتحوا الأبواب للجرأة المنضبطة: نص يؤلم ويشتبك وإخراج يفكك، وتمثيل يشفينا من أمراض البرص التى أصابتنا من التمثيل الحالى، أعيدوا النساء إلى مركز الضوء الذى صنعنه أصلًا، احترموا الكوميديا بوصفها علاجًا لأمراضنا وأوجاعنا، استردوها من مرضى الصوابية السياسية الذين جعلوا حياتنا وكلماتنا كلها «على الشعرة»، فصرنا لا نتحمل بعضنا البعض من لزوجتنا وهشاشتنا.
والحقيقة لا أريد أن أسهب أكثر من ذلك فيما استدعته بداخلى هذه الأغنية حتى لا تكون كلماتى عبارة عن غضب لا معنى له. وأعود لمشهد تامر حسنى نجم الجيل، واختياره المناسب ليصل بشعبيته الكبيرة إلى الأجيال الجديدة ليعرفوا أسماء ورموز الفن والمسرح المصرى، هؤلاء الرواد الذين كتبوا الكلمة الأولى بروحهم ودمهم بلا مبالغة.

والحقيقة وأنا أستمع إلى هذه الأغنية، أعجبنى البناء الفنى لها، فهى أغنية لا تردد فقط أسماء الرواد، لأنها فى الحقيقة قد تكون فكرة متهالكة من تكرارها، لكن أعجبنى الإيجاز واختيار الأسماء بعناية، وبداية الأغنية التى بدأت بفكرة «كان يا مكان» للدليل على أن الفن المصرى هو الذى اخترع فن الحكى، فوثق فى البداية هذه الكلمات: «من كان يا مكان مسرحنا زمان.. صندوق مليان بكنوز ورموز وده مش تهويل.. أسماء علامات صنعوا الحكايات.. وسابولنا تاريخ بكى ضحك صريخ»، ثم بدأ بأسماء العصر الذهبى للتأسيس، مثل «يعقوب صنوع والقبانى، جورج فاتحلك باب يا ريحانى»، فهذا الإيجاز البسيط ليس مجرد رص للأسماء، ولكنها دقيقة تاريخيًا، فيعقوب صنوع، هو الأب الروحى للمسرح المصرى، ونعرفه بـ«موليير مصر»، وهو الرجل الذى بفنه هدد عرش الخديوى فنفاه، وكان هو أول من وضع مبدأ أن المسرح المصرى هو مرآة المجتمع وصوت المعارضة، لذا أن يأتى اسمه فى بداية الأغنية، هى حقيقة تاريخية باعتباره المؤسس.

القبانى، فهو أبوخليل القبانى، فهو الحكاء العظيم فى تاريخ المسرح المصرى، وهو صاحب الفضل فى وضع أساس المسرح الغنائى.
أما جورج أبيض، فكان هو الرجل الذى حوّل المسرح إلى صناعة ترفيهية، كان مصنعًا لنجوم التاريخ العربى بالكامل، فهو «رائد التعريب المسرحى»، إذ كرس حياته للمسرح لأكثر من ٥٠ عامًا، وقد كرمته الدولة بتسمية مسرح الأزبكية باسمه وإقامة تمثال نصفى له فى المسرح القومى، لإسهامه الجوهرى فى تقديم المسرحيات الكلاسيكية باللغة العربية بطلب من الزعيم سعد زغلول، بدلًا من الفرنسية. فجعل للفن المسرحى لغة وطنية خالصة.

ولأن جورج أبيض هو الذى منح نجيب الريحانى فرصته الأولى، وكان صاحب الفضل فى اكتشاف موهبته الاستثنائية وصقلها، ومهد له الطريق نحو النجومية التى جعلت منه أحد أعمدة المسرح المصرى، فكان طبيعيًا أن تذكره الأغنية بذكاء مع جورج أبيض، والتركيز على شخصية كشكش بيه الشهيرة فى الأغنية «كان كشكش بيه يرمى الإيفيه.. جمهوره يقوله إرميه تانى» كانت لفتة ذكية من المؤلف عن قوة هذه الشخصية، وارتباطها بالجمهور.
وانتقلت الأغنية ببراعة من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التنظيم الفنى والريادة فى الكوميديا الحديثة، فى مقطع «يا عزيز ولا يوم من أيامك يوسف بيه مسرحه قدامك»، فيوسف وهبى هو «عميد المسرح العربى»، الذى أسس فرقة رمسيس المسرحية عام ١٩٢٣، وهو مشروع فنى ضخم ضحى من أجله بالثروة التى ورثها عن أبيه، وإسهامه لم يكن فقط فى التمثيل، بل فى وضع «قواعد وأسس أعطت للمسرح هيبته وساعدت على التخلص من الفوضى»، فحول المسرح إلى مؤسسة.

وعزيز عيد هو أول فنان يقوم بإخراج المسرحيات على أسس علمية، واهتم بتطوير التمثيل عبر حركة الممثل، واستخدام الديكور والإضاءة بشكل احترافى.
انتقلت الأغنية إلى جيل آخر، فى مقطع «يا على يا كسار.. يا بديع سلم على الأبيارى»، ليربط بين على الكسار وشريكه الأول فى الكتابة بديع خيرى. أسس الكسار أول فرقة مسرحية كوميدية خاصة به عام ١٩٢٥، حيث كانت مسرحياته التى كتب أزجالها بديع خيرى، لا تهدف للإضحاك فقط، بل دروسًا مجانية عميقة للجمهور، ومن زكى طليمات إلى بديع إلى المؤلف الكبير أبوالسعود الإبيارى، كان طبيعيًا أن تنتقل الأغنية إلى إسماعيل ياسين فى مقطع: «وارميلنا على سمعة سلامك»، فأشهر أعمال الإبيارى كانت مع شريكه إسماعيل ياسين فقدما أشهر المونولوجات والمسرحيات والأفلام.

ولم تغفل الأغنية عمالقة الستينيات والسبعينيات الذين شكلوا الذاكرة الجماعية لجيل كامل، سواء فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولى اللذين كانا يمثلان قمة الكوميديا الراقية والحديثة، ودورهما فى تقديم عادل إمام زعيم الفن العربى، فى جملة «يا فؤاد هات مدبولى وقوله عادل إمام الجيل كله».
وسمير غانم الذى وصفته الأغنية: «وسمير لو ميت ساعة لوحده عمر الناس منه ما هيملوا»، وهى شهادة على قوة حضوره الكاريزمى وقدرته على الاستحواذ المطلق على الخشبة، حتى فى أدواره المنفردة، ما جعله «أيقونة كوميدية فذة».

الجميل فى هذه الأغنية كان التكريم لرواد المسرح النسائى، إذ أشار إلى سيدات حملن على عاتقهن رسالة المسرح بشرف وتفانٍ، بعبارة «يا ست سميحة يا وحشانا». فهى سيدة المسرح العربى بلا منافس، وكذلك أمينة رزق التى عاشت حياتها للمسرح والفن ولم تتزوج، فاستحقت عن جدارة لقب راهبة الفن المصرى.
الجميل أيضًا هى إشارة الأغنية للمسرح الاستعراضى الشهير الذى قدمته شريهان، وكذلك علامات المسرح المصرى مسرحية ريا وسكينة، التى كان أبطالها نجمتين بارعتين، شادية وسهير البابلى.

فى النهاية، كانت الأغنية وثيقة لتطور المسرح والفن المسرحى وتنوعه وتعدده وعبقريته، والسؤال: لماذا لم تذكر الأغنية أيًا من نجوم مصر الحاليين؟ بكل بساطة، الإجابة فى المقدمة، لذلك ليس لدى خاتمة!