الجمعة 07 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

خالد العنانى.. أسراره التى لا يعرفها أحد

خالد العنانى
خالد العنانى

«أنا ابن فلاح بسيط من قرية فى الزقازيق، لكن هذا الفلاح بنى نفسه بنفسه، من الصفر، وكان الوحيد بين إخوته الذى أكمل تعليمه حتى صار مهندسًا».. بهذه الكلمات يحب الدكتور خالد العنانى أن يعرف نفسه.

دائمًا يبدأ الحديث من عند والده، المهندس أحمد، قدوته ومثله الأعلى و«صاحبه».

ولد «العنانى» فى حى المنيل بالقاهرة، عام ١٩٧١، لأسرة متوسطة الحال، الأب مهندس ويعمل مديرًا لأحد المصانع، والأم تدرس الفرنسية فى كلية السياحة والفنادق جامعة حلوان، ولديه شقيقة واحدة.

فى طفولته قضى عدة أشهر فى إيطاليا، حيث كان والده يتلقى تدريبًا هناك، ولا يزال يتذكر الفترة التى قضاها فى إحدى الحضانات الإيطالية، ويحتفظ بصور لهذه المرحلة، ويحفظ أسماء بعض من أول أصدقائه فى الحياة.

وعندما عاد إلى مصر التحق بمدرسة الليسيه، وكان من المتفوقين دائمًا، حتى إنه حصل على المركز الثالث على مستوى غرب القاهرة، ونُشر اسمه فى الصفحات الأولى بالجرائد ضمن الأوائل.

وكانت هذه من أجمل لحظات سعادته وسعادة أسرته.

وفى الثانوية العامة كان حلمه أن يصبح مهندسًا، كما والده، لكن تفكيره بدأ يتغير بعض الشىء بفعل جيرانه، وكانوا يعملون فى الإرشاد السياحى، وأعجبته حياتهم.. حياة السفر و«الخروجات» والأماكن السياحية، وقرر أن يدخل كلية السياحة والفنادق إذا لم يحصل على المجموع الذى يؤهله لكلية الهندسة، حلمه الأول.

وجاءت الامتحانات وبعدها النتائج وحصل على مجموع ٨٩.٥٪، ويومها تعرض للإغماء فى مدرسته حين سمع النتيجة، فقد كان يطمح فى مجموع أعلى.

وعلى الرغم من أن هذا المجموع يؤهله للالتحاق بكلية الهندسة إلا أنه حسم قراره بدراسة الإرشاد السياحى فى كلية السياحة والفنادق.

وكان جيرانه كلمة السر، فضلًا عن والدته التى كانت كثيرًا ما تأخذه معها إلى الكلية.

وفى اختبارات القبول «الإنترفيو» تعجبت لجنة الاختبار من دخوله الكلية مع أن مجموعة يؤهله للهندسة، لكنه أخبرهم بأن هذا قراره.

وكان النجاح حليفه، وطوال سنوات الدراسة كان الأول على دفعته، وفى فترات «إجازة الصيف» عمل لبعض الوقت موظف استقبال فى أحد الفنادق، حتى يتعلم، وكان راتبه ٥٠ جنيهًا فى الشهر، وكان عليه أن يقف على قدميه ١٠ ساعات فى اليوم.

وبالطبع لم يكن يبحث عن المال بقدر ما كان يبحث عن التعلم والانضباط والاحتكاك الحقيقى بعالم السياحة.

وبعد التخرج عُيّن معيدًا بالجامعة.

ومع التدريس عمل بالإرشاد السياحى، متحديًا نصيحة عميد الكلية بأن عليه أن «يهتم بالتدريس فقط».

وكانت بدايته توحى بنبوغ كبير، حتى إن والده أخبره كثيرًا بأنه سيصبح وزيرًا، لكنه كان يضحك لصعوبة الفكرة، فكما قال: «لم تكن لدىّ واسطة، وكانت لدىّ قناعة آنذاك بأنه لا بد من واسطة للوصول إلى منصب كهذا».

لكن هذه النبوءة تكررت أيضًا عندما ذهب للدراسة فى فرنسا، فقد أخبره أستاذه بأنه سيصبح وزير آثار مصر بعد ١٠ سنوات، وكان الحدث فى عام ٢٠٠٣. غير أنه ابتسم وأعاد عليه ما قاله لوالده، وأضاف أنه «لا أحد فى مصر يعرفه»!

ومع الدراسة والتدريس فى الخارج زادت خبراته ومعارفه، وفى مصر كان مركزه الجامعى يتطور.

وكان القدر يُمهّد طريقه بخطوات هادئة وثابتة، وبدأ فى العمل العام مع توليه الإشراف على المتحف القومى للحضارة المصرية ثم المتحف المصرى بالتحرير. ولأول مرة طلبت منه إحدى الجهات الرفيعة سيرة ذاتية بعد فترة قليلة من تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مهام منصبه.

ومع نجاحاته فى المتحفين عُيّن، فى عام ٢٠١٦، وزيرًا للآثار، ليبدأ فصلًا جديدًا من مسيرة النجاح، التى كانت أبرز معالمها دمج وزارتى السياحة والآثار تحت قيادته.

وخلال فترة توليه شهدت مصر طفرة فى العمل الأثرى والسياحى، وبلغت ذروتها فى حدث استثنائى، هو موكب المومياوات الملكية الذى أذهل العالم، وقدّم مصر بصورة تليق بعراقتها الحضارية وقدرتها التنظيمية، وظل فى منصبه حتى عام ٢٠٢٢.

وبعدها بعام اختارته مصر مرشحًا لمنصب المدير العام لـ«اليونسكو».

ووراء هذا النجاح الكبير قصة إنسانية لا تقل عمقًا عن مسيرته المهنية. 

تزوج الدكتور خالد العنانى من شيرين، وهى إحدى طالباته فى الجامعة، والتى أصبحت شريكة حياته ورفيقة رحلته، ورُزقا بولد وحيد هو «عمر».

ويروى «العنانى» دائمًا أن كل إنجاز حققه كان ثمرة دعمها وتشجيعها، خصوصًا فى سنوات الشباب حين كان يدّخر كل ما يملكه ليسافر ويجرى أبحاثه العلمية. 

اليوم، وبعد عقود من الاجتهاد والعمل المتواصل، يقف الدكتور خالد العنانى فى مقدمة المشهد الدولى بعد فوزه بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، ليصبح أول

عربى يتولى هذا المنصب الرفيع فى تاريخ المنظمة، وأحد أبرز الوجوه الثقافية فى العالم.

تلك هى حكاية خالد العنانى، حكاية مصرية أصيلة تبرهن أن أبناء هذا الوطن قادرون دائمًا على الوصول إلى العالمية حين يؤمنون بأنفسهم وبقدراتهم.