جبل على كتفى.. سارة حوَّاس تتوق إلى التحرر وتبحث عن معنى وجودها فى ديوانها الجديد

- نحن أمام ذات تكره مثاليتها المفرطة التى قبلت أوضاعًا وأشخاصًا ترفضهم ومشاعر ربما ضاعت هباء
نجت سارة حواس فى ديوانها الأولى: «جبل على كتفى».. من إصدار مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية 2025 من فخاخ كثيرة، تعتور دائمًا نشر الديوان الأول فى حياة الشعراء، فلكى يثبت الشاعر فى ديوانه الأول أحقيته وجدارته، يذهب إلى الشأن العام، وينشر قصائد لا رابط بينها، ولا وحدة موضوعية، أو حتى شكلية، ويتحرج من القصائد الذاتية، التى تبدى حقيقة نفسه ومشاعره، كأنه يخجل من الظهور الحقيقى، فيتوارى خلف أقنعة عامة، لا تعطى فكرة عن مذهبه أو رؤيته الشعرية، وهذا أمر أول تجنبته سارة حواس.

تنتظم الديوان روح صادقة، معترفة غير هيابة من التعبير عن الذات فى أضعف حالاتها وأنبلها، وأشدها انكسارًا ويأسًا، فذهبت إلى أدق مشاعر الأنثى تفتش فيها وتبرزها، وتختار لها لغتها البسيطة الفطرية غير المتأثرة بشعر آخر، وغالب الدواوين الأولى فى حياة الشعراء تأتى أخلاطًا من قراءاتهم وممن يحبون من الشعراء، فهذه القصائد بلا مرجعية، لا أقصد بلا ثقافة، بل بلا تأثر بشاعر أو تيار، بلا تبنٍّ لمقولات سابقة عن الشعر، إنه شعر يعبر عن لحظته، عن زمنه، لا يخاصم مفردات واقعه، ولا يخلق مشاعر معلبة، بل مشاعر بشرية لها رائحة وهموم، متقلبة، تعيش وفق ما تفرضه الذات الشعرية عليها، لا ما يفرضه الواقع، ومن هنا تنشأ المأساة، وتتولد المفارقة التى تختار لنفسها حصنًا آمنًا هى القصيدة:
«كُلَّما كتبتُ قصيدةً
شعرتُ بالنقصانِ
كأنَّنى أزرعُ قطرةَ ماءٍ
فى نهرٍ بلا جَنَاحٍ
كلَّما كتبتُ قصيدةً
تتكاثرُ الأفكارُ فىَّ
تتمرَّد كثَوْرٍ هاربٍ من حلبةٍ للموت
........
تَتُوهُ ذراعاىَ منِّى فى بحْرِ أسماكٍ مُلوَّنةٍ
قدماى تقوداننى نحوَهُ
نحوَ شمسٍ بقلبٍ عَطُوفٍ
تُمطرُنى غَماماتٍ على شكلِ قُلُوبٍ مُكتملةٍ
لم يُغْرَس فيها سهمُ كيوبيد
كلَّما كتبتُ قصيدةً
طارت كلماتى بعيدًا».
الروح التى كتبت هذا الشعر، تفتقد شيئًا ما، تشعر دائمًا أنها مقيدة، وتتوق إلى التحرر، قد يكون هذا الفقد إحساسًا ما، إنسانًا ما، معنى ما، وأنا أميل إلى فقدها المعنى بشكل أعمق، تبحث طوال سعيها عن معنى وجودها، وغايته، ولماذا عليها أن تعانى كل هذه المشاعر المتضاربة دون جدوى؟، إنها تشعر أنها ينبغى أن تكون فى مكان آخر، فى مناخ آخر، إنها ذات تكره مثاليتها المفرطة التى قبلت أوضاعًا وأشخاصًا ترفضهم ومشاعر ربما ضاعت هباء.
إنها ذات فى حالة لوم دائم لنفسها، فى حالة ندم وتطلُّع للتغيير، تحاول فك الأسر الذى وقعت فيه، يشير مفهوم «فك الأسر» من منظور علم النفس إلى التحرر من الأوضاع التى تُسبب الضيق النفسى، سواء كانت داخلية كالأفكار والمشاعر السلبية، أو خارجية كالظروف الاجتماعية التى تقيّد الفرد، لذلك تحاول الطيران من جديد، فمن قص جناحيها ترك فى نفسها جرحًا يحتاج زمنًا ومناخًا آخر وأناسًا آخرين للتعافى منه، ليس بنسيانه بكتابة، بل بنبشه والاستفادة من دروسه، «حتى ما يؤلمنى لا أتذكره».
من دلائل هذه المثالية اختيار قاموس من مفردات ليس لها ظلال واقعية، كأنها ترفض البقاء على الأرض مثل: روح جناح، نور، شفيف، قمر، سماء، بحر الغفران، كروان أبيض، كف نبى، الكتابة، الورقة البيضاء، القصيدة، غيمة.
ومن دلائل المثالية أيضًا محاولة التمسُّك بحضور الأب برسم صورة مثالية له، ومحاولة خلق الحبيب الغائب على الصورة نفسها، فالماضى كله «غراب» والآتى كله، حلم غامض تحاول رسمه بكتابته، وكأن مجرد الحلم به سيحضره.
الحبيب هنا غير متعين، غير واضح لا رائحة له، ولا عرق ولا لمسة حية، فقط: «كل ما أعرفه الآن هو أننى: أحب».

وكأن الذات تبحث عن الحب، وتخاف الفناء فى المحبوب، تحاول دائمًا التعمية على خوفها من الفناء فى الآخر، الآخر دائمًا يدور حول محورين، غراب فى الماضى، وشىء جميل غامض فى المستقبل، مرسوم فى هيئة لا تقبل النقص «أحب رجلًا يسكب الحب لى فى كؤوس أرتشف منها حتى أفيض».
برغم أن «جبل على كتفى» تحمل ثقل الماضى ووطأته، فإن الديوان يراوح بين قطبى سلب وإيجاب، بين «رجل أسود» و«عصفور أزرق»، وهما عنوانان يأتيان متتابعين فى الديوان، يدلان على رجل أساء، ورجل حنا، ثم يأتى الرجل الثالث الذى يمثل الحب الذكورى كطيف يلوح فوق الرأس، وعدا بجمال لا يصدق، يغفر خطيئة الرجل الغراب، وفقد الأب الحانى، بين التجربة السيئة التى يلفها السواد، وهى مفردة وردت بصيغ كثيرة ومتعددة: يسألنى قلم أسود، رجل أسود جلس على كرسى فى شكل ثعبان بلا لسان، وهكذا لا تكاد قصيدة تخلو من ظلال هذه الكلمة، وفى مقابلها يأتى دائمًا: السلام، الحب، العصفور الأزرق، قمر يغفو على صدرى، لا يرى سواى، فكأنها رحلة من الألم إلى التعافى، من المحنة إلى الخروج.
يمثل قطب السلب:
رجلٌ أسودُ
جلسَ على كُرسىٍّ
فى شكلِ ثُعبانٍ بلا لسانٍ
أطْعَمَهُ من سُمَّهِ حتَّى تشبَّعَ
صارَ يلدَغُ من يلمَسُ ذراعَهُ اليُمْنَى
وقطب يتمثل فى العصفور الأزرق:
بعدما صِرتُ أنامُ على سريرٍ من غيمةٍ بيضاءَ
مرفُوعًا على أرجُلٍ من تُفاحةِ آدمَ
مسنُودًا على جدارٍ من ريشِ يمامةٍ زرقاءَ
أركضُ فى نهرٍ باسمى
أَوْدَعَهُ حامدٌ فى كفَّىّ
لا يسمحُ بخوفٍ أو استسلامٍ
لا يسمحُ برجُوعٍ أو استغفال
إن هذه القصائد مدفوعة بطاقة روحية، هى بنت معاناة وتوق للتحرر، الذى لا يكون هنا إلا فى صيغة حب يحرر الروح، ويطلقها من دائرة السواد والقيد: «الآن أصبحت وسأظل، لم يعننى مكان ولا زمانى، صرت أحلم، أركض، حتى يلامس قلبى سمائى، أمشى كطائر، واثق فى رجليه، لا فى غضة»، إنها الخفة والروحانية والأمل، الحب الجديد ليس مجرد علاقة، بل حالة من السلام الداخلى الذى يبعث على التحرر من الألم القديم، إنه النور الذى يطارد الظلام، الخلاص والراحة فى مواجهة الماضى، الأمر كله يدور حول رمزين متناقضين، لكنهما يتكاملان، من حيث إنهما تعبير عن حياة وروح واحدة، لم تستسلم رغم بقاء الجبل على الكتف طويلًا.

ينتظم القصائد فى هذا الديوان ما يشبه جوًا عامًا، يقدس ويؤسطر الوحدة والانغماس فى الذات، التى هى هنا فى هذه الوحدة والعزلة مصدر للإلهام الشعرى ومنبع عاطفى، والوحدة تعنى أن هناك من فرضها علينا، تعنى إجبارنا على تأمل ما مر بنا، وهى غير العزلة، لأن العزلة تعنى اختيارًا واعيًا وطوعيًا، فى حين أن الوحدة غالبًا ما تكون ألمًا وفقدانًا، وهذا ما يتصادى مع ما قلته حول محاولة الذات فك الأسر، والإصرار على الخروج من دائرة القيدين الذاتى والموضوعى اللذين يكبلان الروح:
وحدى مع فنجان قهوة وغمامة
عقل خاو
ذاكرة تعج بالحنين إلى اللاشىء «من قصيدة فنجان قهوة وغمامة ص٧٣»
أو:
«فى مقهى بعيدٍ
وحدى أجلسُ
يسألنى قلمٌ أسودُ
وكتابُ شعرٍ وحيد مثلى»
لم تنشغل لغة الديوان بالمجاز والبلاغة كثيرًا، بل اعتمدت بلاغة الدقة فى التعبير عن المشاعر الفطرية، المشاعر المتفاجئة بأن هناك عوالم متعددة، وليس عالمًا واحدًا، ليس عالم الغراب الأسود، وعالم الجيل الماضى، هناك أيضًا ثلج أبيض، ثلج يذوب، يطير بين غيوم وردية بلون شفتى قلبه، هناك أيضًا: قمر يغفو على صدرى، أحسبه يمشى معى، يعد خطواتى كظلى، لنجد أنفسنا مرة أخرى أمام لغة ترسخ ثنائية الظلام والنور، ثنائية الماضى والحاضر، الحب والفقد، ليكون الختام النهائى متفائلًا:
لمَّا عرفتُكَ
خاصمتُ الشَّوارعَ الحزينةَ
والطُّرقَ التى تؤدِّى إلى روما
والحُفرَ الكئيبةَ.