الخميس 04 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الشاعر أحمد عنتر يخاطب الموت قبل رحيله

أحمد عنتر
أحمد عنتر

رحل الشاعر أحمد عنتر «١٩٤٤ نوفمبر ٢٠٢٥» بعد أن جايل أبناء جيله وأبناء جيلين سابقين من الشعراء، وذلك منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى، ونشر فى مجلات ذلك العهد الزاهر بمصر والعالم العربى، وحصيلة ذلك إصداره دواوين عديدة.

نشر مقالاته ودراساته فى دوريات، ودور نشر عديدة بمصر والعالم العربى، واقتصر على ديوانه «أبجدية الموت والثورة» الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ٢٠١٢، ولذلك التاريخ دلالته، ويستدعى الديوان قصيدة هكذا تكلم المتنبى الذى حمل الديوان اسمها وكانت فى سبع عشرة صفحة حين صدر بعد مضىّ أربع سنوات عن الهيئة العامة لكتاب عام ٢٠١٦. 

مفاتيح القراءة والتأويل تتمثل فى أربعة مفاتيح، أو مداخل أوّلها: العنوان «أبجدية الموت والثورة»، وثانيها: الإهداء إلى أمل دنقل المعروف بثوريته الفنية وإلى نقيضه ممن أسماهم أدعياء الشعر، وهدف هذا النص الموازى إبراز عدم تحقق أهداف ثورة يناير ٢٠١١، الذى بلغ منتهاه فى آخر قصيدة من الديوان بعنوان «وداعًا أيتها الثورة» تلك التى كتبها بين السادس من فبراير حتى الثانى من مايو عام ٢٠١١، والتى جاءت مخالفة لنهج ترقيم القصائد المتبع بالأرقام، وذلك بحروف الأبجدية وفقًا لأول حرف فى القصيدة، والذى سنتناوله بعد قليل؛ إذ خالفت القصيدة الأخيرة النهج؛ فلم تحمل حرفًا كسابقاتها، ولذلك دلالته؛ إذ ضاعت اللغة والتواصل، وفقد البيان والحرف؛ مع فقدان بعض مقاطع القصيدة التى تتضمن الثورة. 

ثالثها: تصدير الديوان ببيتين لشوقى.

رابعها: خمس صفحات فى مستهلها يوضح الشاعر فيما أصدر من دواوين أنه «لا يحول بين القارئ والنصّ»، «ولا يفرض عليه أو يحاصره برؤية ما».

ومع قيام ثورة يناير ٢٠١١، حيث نشط شعر الثورة، وتأكد الدور الفنى والتاريخى لهذه القصيدة مع ما يشبهها ويجرى فى مضمارها من شعر الثورة.

ولهذا ختم ديوانه بقصيدته «وداعًا أيتها الثورة»، مخالفًا كما أسلفنا مخالفة نهج الالتزام بحروف الأبجدية فى أول حرف منها، فجاءت كالختام والخاتمة، أو خلاصة القول وفصل الخطاب، ماضية مع النيل منذ فجر الحضارة المصرية القديمة، موحية أن الأبجدية فقدت معناها ودلالاتها.

وقد قام النص على ثمانية عشر مقطعًا، هى حروف العنوان جميعها بدءًا بحرف الألف، وانتهاءً بحرف الهاء، وقريب من الأبجدية هنا قصيدته «أوتوجراف» ص ٧ من ديوانه «هكذا تكلم المتنبى»؛ ليصور ثنائية التضاد فى حياتنا: سلمًا وحربًا، أفرادًا وجماعات، ولهذا سارع التضاد إلى العنوان «أبجدية الموت والثورة»، ويتغلغل فى ثنايا الديوان وحناياه بين الموت والحياة، الطرف الأول باللفظ الصريح، والثانى بدلالاته وإيحاءاته؛ فمصطلح الثورة سياسيًا واجتماعيًا يعنى التغيير، تمامًا كما صور طه حسين حيرته فى مطلع صباه بين ما أسماه «الثبات والتغير»، إذ إن الثورة تغيير لما هو قائم، وبذلك فإن واقع الموت يقابله واقع الحياة؛ الموت، أو المنون، وهو نصف العنوان.

ويتصل بالموت الحرب، حيث يشتبك اللون باللون، ويزداد الالتحام بالموت بضمير المتكلم من: يلبس الحزن وجهى حتى: مداخل موتى، ويتقابل الموت والحياة فى ديوان هكذا تكلم المتنبى مسرعًا إلى العنوان، ليمضى الخطاب الشعرى مع حركة المعنى فى تقابلات ثنائية متضادة بهدف إظهار المعنى، وذلك مطابقة لمبدأ «وبضدها تتميز الأشياء»، الموت من ناحية، والحياة/ الثورة، من ناحية أخرى، وذلك من خلال اللوحات التالية:

ليكون المكان البطل هنا ميدان التحرير، ميدان الثورة، ومن حوله جمعت لوحة المكان بين: 

النهر، نهر النيل بعبقه التاريخى، وبحاضره الحيوى، والتاريخ قد رسا على شاطئ النهر فى ميدان التحرير، جامعًا بين الخرافة والحزن، بدءًا من طفولة الإنسان المصرى على شاطئيه، حتى اغتصابه من الغزاة.

وحين يودع الثورة يستحضر التاريخ منذ فجر الحضارة راهبًا يستقرئ التاريخ.

وبذلك امتزج المكان بالزمان، مصداقًا لحقيقة أنه لا ينفصل الزمان عن المكان، وأنهما لا ينفصلان وبذلك قالت نظرية النسبية فى صفحاتها الأولى تجلى ذلك بدءًا من فجر الحضارة المصرية العريقة، فمقاومة الغزاة على مر العصور بتنوع أسمائهم وجنسياتهم، وقصورهم وممتلكاتهم، منتهيًا إلى السؤال الاستنكارى، والتناقض الزمانى والمكانى حين ننتقل من رحاب حضارة وادى النيل إلى واقع الثورة المعاصر، وليقوم التناص برسم الملامح حين يتلاقى الضدان، أو السابق واللاحق عن طريق التناص السائد فى أعماله جميعها: لا بد من صنعا، ادخلوها بسلام، أوديسيوس خائنًا، تجليات تراثية، ورقة منسية من أوراق سيف الله.. المغمد، وعفوًا أبا تمام، وهكذا تكلم المتنبى، ويتسامى التناص إلى سورة ياسين، والسبع آيات، والمصحف، أو إلى رحاب الأنبياء فى التخييل والتصوير، وفى مقدمة التصوير الاستغاثة والاستعانة، وذلك بمناداة الوطن أو مناجاته كثيرًا.

وفى ذلك كله أسهمت بلاغة الحذف بدلالة النقاط الأفقية المتتالية فى إثراء حركة المعنى؛ تطبيقًا لمقولة البلاغيين «البلاغة الإيجاز».