الأحد 22 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

سنوات الحرب.. 3 إصدارات حديثة تسلط الضوء على المخاطر النووية المتزايدة

حرف

- «الشتاء النووى» يقضى على الحضارة الإنسانية خلال أشهر قليلة

- تبادل القصف النووى يملأ الغلاف الجوى بالإشعاعات ويُغرق العالم فى ظلام دامس

- الرئيس الأمريكى يحظى بمهلة زمنية 6 دقائق فقط لاتخاذ قرار بشن هجوم نووى انتقامى

- «بوتين» قد يختار توجيه ضربة نووية محدودة لتحريك القتال لصالحه فى أوكرانيا

- العالم مُهدد بـ«سباق تسلح نووى ثلاثى» بين الولايات المتحدة والصين وروسيا

- كوريا الشمالية قد تلجأ لاستخدام أسلحتها النووية انطلاقًا من مبدأ «استخدمها وإلا ستخسرها»!

فى ظل تصاعد التوترات الدولية، وعودة شبح الحروب الكبرى إلى المشهد العالمى، أصبح الحديث عن الخطر النووى ضرورة مُلِحة أكثر من أى وقت مضى، خاصة مع امتلاك نحو 9 دول ما يقارب 12 ألف رأس نووى.

هذه الصدامات الكبرى، تجعل العالم يقف على حافة كارثة غير مسبوقة، تتزامن مع الذكرى الثمانين لأول تفجير نووى اختبارى فى صحراء نيو مكسيكو عام 1945، وهو الحدث الذى فتح الباب أمام حقبة جديدة من التهديدات التى لا تزال تلقى بظلالها القاتمة على المستقبل.

ورغم تأكيدات الرئيسين الأمريكى والسوفيتى رونالد ريجان وميخائيل جورباتشوف فى قمتهما بجنيف عام 1985، بأن «الحروب النووية لا يمكن كسبها، ولا يجب خوضها أبدًا»، عادت احتمالية وقوع مواجهة نووية لتتصدر المشهد السياسى العالمى، مدفوعة باضطرابات جيوسياسية وصراعات إقليمية متزايدة.

فى هذا العدد من جريدة «حرف»، تقدم زاوية «ماذا يقرأ العالم الآن؟» نظرة فاحصة على 3 إصدارات حديثة تسلط الضوء على المخاطر النووية المتزايدة، وتقدم سيناريوهات قاتمة لمستقبل العالم، وتكشف كيف يمكن أن يتحول النزاع النووى من مجرد احتمال مخيف إلى واقع مروع. 

الحرب النووية: سيناريو.. Nuclear War: A Scenario.. «الرعب القادم».. العالم يتعرض لدمار شامل فى 72 دقيقة فقط!

يصنف كتاب «الحرب النووية: سيناريو» الصادر عن دار «داتون» منتصف العام الماضى، للصحفية «آنى جاكوبسن»، المرشحة سابقًا لجائزة «بوليتزر»، كواحد من أبرز الإصدارات التى تناولت المخاطر النووية المحدقة بالعالم، حيث تصدر قوائم الأكثر مبيعًا فى منصات كبرى مثل «أمازون» و«نيويورك تايمز» و«لوس أنجلوس تايمز».

وتكشف «جاكوبسن»، فى كتابها، أن ثمة سيناريو وحيدًا- باستثناء اصطدام كويكب- يمكنه إنهاء العالم كما نعرفه فى أقل من ساعتين: وهو الحرب النووية، كما اعتمدت فى كتابها على عشرات المقابلات الحصرية مع خبراء عسكريين ومدنيين، حيث يصور ببراعة كيف يمكن لـ١٢ ألف عام من الحضارة أن تتدمر فى وقت لا يتجاوز مدة مباراة كرة قدم.

ويقدم الكتاب وصفًا دقيقًا لـ«سيناريو يوم القيامة»، بدءًا من اللحظة الأولى لإطلاق صاروخ نووى، مرورًا بالدقائق الحرجة التى تليها، وصولًا إلى الدمار الشامل الذى يمكن أن يحل بالعالم خلال ٧٢ دقيقة فقط. 

وتكشف «جاكوبسن» بالوثائق والأرقام كيف أن ترسانة الأسلحة النووية الحالية قادرة على محو الحضارة البشرية فى وقت أقل مما تستغرقه مشاهدة فيلم سينمائى.

ويقدم الكتاب تصورًا مرعبًا لحرب نووية معاصرة قد تنشب بسبب سلسلة من سوء الفهم والتصعيد السريع، مفترضًا أنه تبدأ القصة عندما تطلق كوريا الشمالية ضربة مفاجئة بصاروخ باليستى عابر للقارات يستهدف واشنطن العاصمة، يليه إطلاق صاروخ نووى ثان من غواصة كورية شمالية باتجاه محطة «ديابلو كانيون» النووية فى كاليفورنيا. 

وعلى الرغم من المحاولات الأمريكية لاعتراض الصاروخين، تفشل الدفاعات فى منع الضربتين، فترد واشنطن بمحاولة شن هجوم مضاد على كوريا الشمالية، لكن المسار الجوى الوحيد المتاح يمر عبر المجال الجوى الروسى، فتحاول القيادة الأمريكية يائسةً إبلاغ روسيا بأن الصواريخ ليست موجهة ضدها، لكن فشل الاتصال يؤدى إلى تفسير روسى خاطئ للحدث على أنه هجوم أمريكى.

وتستجيب موسكو بإطلاق أكثر من ٩٠٠ رأس نووى نحو أهداف أمريكية، ما يدفع واشنطن وحلفاء «الناتو» إلى الرد بإطلاق كامل ترساناتهم النووية، وخلال ساعات قليلة، تتحول هذه السلسلة من سوء الفهم إلى كارثة عالمية تودى بحياة مئات الملايين وتدمر الحضارة الإنسانية،

ويقدم الكتاب تحليلًا مروعًا لمدى هشاشة التوازن النووى العالمى، حيث يكشف كيف يمكن لسوء تقدير بسيط أو خطأ تقنى أن يتسبب فى كارثة إنسانية غير مسبوقة. من خلال دراسة البروتوكولات العسكرية الأمريكية للرد على الضربات النووية، يبرز المؤلف المخاطر الجسيمة للسياسات النووية الحالية للدول العظمى.

ويستعرض العمل وثيقة تاريخية صادمة تعود لعام ١٩٦٠، حيث كشف الخبير جون روبل عن خطة أمريكية سرية لهجوم نووى استباقى على الاتحاد السوفيتى كان من شأنه إبادة ما لا يقل عن ٦٠٠ مليون نسمة، نصفهم من سكان الدول المجاورة، واللافت أن هذه الخطة الدموية لقيت تأييدًا من كبار القادة العسكريين الأمريكيين آنذاك، باستثناء معارضة وحيدة من الجنرال ديفيد شوب.

آنى جاكوبسن

ويخلص التحليل إلى أن أى مواجهة نووية، سواء كانت مقصودة أو نتيجة سوء فهم، تحمل فى طياتها بذور الدمار الشامل الذى قد يقضى على الجنس البشرى بأكمله، ويقدم الكتاب تحذيرًا صارخًا من أن العالم ما زال يعيش على حافة الهاوية النووية، حيث تظل سياسات الردع النووى قنبلة موقوتة تهدد مستقبل البشرية جمعاء.

ويقدم التحليل تصورًا دقيقًا لكيفية تحول المواجهة النووية إلى حرب شاملة خلال دقائق معدودة، حيث تبدأ الأزمة عندما تطلق كوريا الشمالية صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات من طراز «هواسونج- ١٧» باتجاه البنتاجون فى واشنطن، حاملًا رأسًا نوويًا حراريًا بقوة ١ ميجا طن، ورغم اكتشاف التهديد فورًا، تعجز أنظمة الدفاع الأمريكية عن اعتراض الصاروخ خلال مرحلة الإطلاق الحرجة.

وتتصاعد الأزمة عندما تفشل الصواريخ الاعتراضية الأمريكية الأربعة التى أطلقت من كاليفورنيا فى إسقاط الصاروخ الكورى، وبعد ١٦ دقيقة فقط من الهجوم الأول، تطلق غواصة كورية شمالية صاروخًا باليستيًا آخر من طراز «بوكجوكسونج- ١» من مسافة ٣٥٠ ميلًا من سواحل كاليفورنيا، تعجز أنظمة الدفاع الأمريكية قصيرة المدى عن التصدى لهذا التهديد بسبب انتشارها فى مواقع بعيدة.

وتتحول الكارثة إلى واقع عندما يصيب الصاروخ الثانى محطة «ديابلو كانيون» النووية فى الدقيقة ٢٣، مسببًا انهيارًا نوويًا، وكرد فعل، تبدأ الولايات المتحدة هجومًا نوويًا مضادًا على كوريا الشمالية فى الدقيقة ٢٤، لكن المسار الجوى للصواريخ الأمريكية يمر حتمًا عبر المجال الجوى الروسى.

وتتفاقم الكارثة عندما يصيب الصاروخ الكورى الأول واشنطن العاصمة فى الدقيقة ٣٣، بينما يخطئ النظام الروسى فى تقدير عدد الصواريخ الأمريكية العابرة لمجاله الجوى، معتقدًا أنها مئات بدلًا من العشرات، وهذا الخطأ فى التقدير قد يدفع روسيا للرد نوويًا، محولة المواجهة المحدودة إلى حرب عالمية مدمرة خلال أقل من ساعة.

ولأنه لم يسمع من الرئيس الأمريكى، واستنادًا إلى أكاذيب الولايات المتحدة السابقة خلال زمن الحرب، يعتقد الرئيس الروسى أن الولايات المتحدة شنت هجومًا ضد روسيا، وبحلول الدقيقة ٤٥، يأمر الرئيس الروسى بشن هجوم شامل عليها وعلى الدول المعادية المفترضة فى «الناتو» وأوروبا، وفى الدقيقة ٥٠، تكتشف الولايات المتحدة الهجوم الروسى الوشيك وتطلق هجومها النووى الشامل على ٩٧٥ هدفًا فى روسيا.

ومن الدقيقة ٥٢، تتعرض كوريا الشمالية لضربة بـ٨٢ رأسًا نوويًا أمريكيًا، وفى الدقيقة ٥٥، تفجر بيونج يانج رأسًا نوويًا فى قمر صناعى يدور على ارتفاع ٣٠٠ ميل فوق الولايات المتحدة، ما يؤدى إلى توليد نبضة كهرومغناطيسية تشل شبكات الكهرباء والمعالجات الدقيقة.

وفى الدقيقة ٥٧، تدمر الصواريخ الباليستية الروسية التى تطلق من الغواصات منشآت الحرب النووية الأمريكية وتغمر المخبأ النووى فى مجمع «رافن روك ماونتن»، ما يسفر عن مقتل الرئيس الأمريكى.

وفى الدقيقة ٥٨، تتعرض دول أوروبية بما فى ذلك ألبانيا وبلجيكا وبلغاريا وكرواتيا وإستونيا وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا والنرويج والسويد وتركيا وأوكرانيا والمملكة المتحدة لضربة نووية روسية.

وبحلول الدقيقة ٩٢ من الصراع، تتعرض الولايات المتحدة لضربة بنحو ١٠٠٠ رأس نووى روسى آخر، وبحلول هذا الوقت، يُقتل مئات الملايين من الأشخاص، وتنتهى الحرب النووية بعد أقل من ساعتين من بدايتها، تاركةً معظم نصف الكرة الشمالى مُدمَّرًا وغير صالح للسكن.

ويتسبب الصراع النووى فى حرائق تُطلق شرارة شتاء نووى، ما يؤدى إلى توقف الزراعة وتدمير النباتات، وقلب السلاسل الغذائية رأسًا على عقب، وتُباد الحيوانات وتعانى البشرية من مجاعة واسعة النطاق، باستثناءات قليلة، بما فى ذلك الدول الواقعة فى أقصى الجنوب، أستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين وأجزاء من باراجواى، ويتسبب الغبار النووى فى تسمم إشعاعى.

وبعد أشهر، ومع انتهاء الشتاء النووى، تفشل طبقة الأوزون، المتضررة بفعل الحرب النووية، فى حماية الحياة من أشعة الشمس فوق البنفسجية، مما يجبر البشرية على العيش تحت الأرض، بينما تنتشر الحشرات والأوبئة الناتجة عن تحلل الجثث فوق الأرض، وتستغرق الأرض نفسها ٢٤ ألف عام للتعافى من الحرب النووية، بينما لم يُذكر مصير البشرية.

وتؤكد المؤلفة فى تحليلها الصادم أن الخطر الحقيقى لا يتمثل فى دولة معينة أو جماعة ما، بل يكمن فى الأسلحة النووية ذاتها، وتستند فى استنتاجها إلى مقولة الزعيم السوفيتى «خروتشوف» التى تحمل شيئًا من التنبؤ وهى: «سيحسد الناجون الموتى»، حيث ترسم صورة قاتمة لعالم ما بعد الضربة النووية.

وتصف الكاتبة بتفصيل مروع آثار انفجار نووى بقوة ميجا طن واحد على العاصمة واشنطن: رياح عاتية تمزق أجساد البشر، وصواعق كهربائية قاتلة تتناثر فى الفضاء المحترق، ومشاهد مرعبة لضحايا يعانون الصدمات والنزف حتى الموت، تتحول المراكز السياسية إلى رماد، بينما تلفظ الحيوانات فى حدائقها أنفاسها الأخيرة.

على المستوى العالمى، يحجب الدخان الكثيف أشعة الشمس لسنوات، مما يؤدى إلى مجاعة جماعية تقضى على موت مليارات البشر، مختتمة تحليلها بتشبيه مروع قائلة: «لقد انقرض الجنس البشرى كما انقرضت الديناصورات من قبل»، مؤكدة أن الحرب النووية هى حرب بلا منتصرين، فقط خاسرون.

ست دقائق قبل الشتاء.. Six Minutes to Winter.. فرصة عيش أطفالنا حتى 2045 دون كارثة نووية لا تتعدى 50%

صدر حديثًا عن دار «بلومزبرى» المرموقة كتاب «ست دقائق قبل الشتاء: الحرب النووية وكيفية تجنبها» «Six Minutes to Winter: Nuclear War and How to Avoid It» لمؤلفه مارك ليناس، الخبير البارز فى الشئون البيئية والجيوسياسية. 

ويتمتع «ليناس» بمكانة أكاديمية مرموقة، حيث يشغل منصب باحث فى جامعة أكسفورد المرموقة، كما يقود فريقًا بحثيًا فى معهد بويس طومسون التابع لجامعة كورنيل، فضلًا عن دوره المؤثر كنائب لرئيس مجلس الأجندة العالمية فى المنتدى الاقتصادى العالمى، حيث يشرف على ملف التقنيات الناشئة وتأثيرها على مستقبل البشرية.

وفى كتابه الصادم، يرسم مارك ليناس صورة قاتمة لمستقبل البشرية، محذرًا من أن الحضارة الإنسانية قد تنهار خلال ساعات قليلة إذا ما اندلعت حرب نووية شاملة، موضحًا أن مجرد تبادل صاروخى محدود قد يؤدى إلى شهور من الظلام الدامس، يتبعها شتاء نووى قد يستمر عشر سنوات، يقضى على معظم أشكال الحياة على الكوكب.

ويستنكر المؤلف التركيز العالمى على قضية تغير المناخ، بينما يتم تجاهل الخطر النووى الوجودى الذى يهدد البشرية جمعاء، حيث يحذر قائلًا: «نحن نسير نائمين نحو نهاية العالم»، مشيرًا إلى أن احتمالية نشوب حرب نووية مدمرة تقدر بأكثر من ٦٠٪ فى الوقت الحالى، مع تزايد التوترات بين القوى العظمى.

ويقدم «ليناس» تحليلًا إحصائيًا مقلقًا، مشيرًا إلى أن البشرية قد حالفها الحظ لـ٧٥ عامًا منذ اختراع الأسلحة النووية، لكن الحسابات الرياضية تشير إلى احتمال بنسبة الثلثين لحدوث حرب نووية كبرى قبل عام ٢٠٤٥. هذا الخطر يتفاقم مع التوترات الجيوسياسية الحالية حول تايوان وكشمير وفلسطين وأوكرانيا، التى وضعت العالم على حافة الهاوية النووية، كما كان الحال فى أسوأ أيام الحرب الباردة.

ويتابع: «كان العالم محظوظًا للغاية بتجنبه حربًا نووية خلال أزمة الصواريخ الكوبية، عندما كانت احتمالات اندلاع حرب نووية (كما قيّمها الرئيس جون كينيدى نفسه فى أعقابها مباشرةً) مرتفعةً لمدة ١٣ يومًا حرجة، وأدى غزو روسيا لأوكرانيا فى فبراير ٢٠٢٢، مصحوبًا بتهديدات نووية صاخبة من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، إلى رفع مستوى الخطر إلى مستويات أعلى مما شهده معظمنا فى حياتنا».

ويخيم شبح القنبلة علينا مرة أخرى، تمامًا كما حدث بين الخمسينيات والثمانينيات، ولكن بينما انتهت الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتى، لم تختفِ القنبلة أبدًا، لقد توقفنا عن التفكير فيها، لكن الآن هو الوقت المناسب للبدء من جديد، حيث يجب أن ندمر أى قنبلة نووية، قبل أن تُدمرنا.

ووفق الكتاب، يقف العالم على شفا كارثة مناخية، ليست ناجمة عن انبعاثات الغازات الدفيئة التدريجية، بل عن ظهور مفاجئ للأسلحة النووية، وهو احتمالٌ ازداد وضوحًا فى ظل الصراعات الحالية بين قوى دولية نووية، فى حين أن الآثار طويلة المدى للانبعاثات غير مؤكدة، وستؤدى الحرب النووية إلى شتاء نووى فورى.

وعندما نفكر فى كارثة نووية، نميل إلى التفكير فى الآثار المباشرة: انفجارات نووية حرارية تحرق المدن وتُبخّر السكان، لكن أسوأ العواقب تتكشف بعد وقت طويل من انفجار الأسلحة، هو تبادل قصف نووى كبير من شأنه أن يُغطى الغلاف الجوى بالإشعاعات، ويُغرق العالم فى ظلام دامس، ويُبشر بشتاءٍ يستمر لعقد من الزمان، بينما من المرجح أن يُقتل ملايين البشر فى الحرائق الأولية، ومن المرجح أن يموت معظم السكان- بمن فيهم سكان الدول المتحاربة- فى مجاعة الشتاء اللاحقة.

مارك ليناس

وقد يبدو الصراع النووى الإقليمى بين دول مثل الهند وباكستان محدودًا فى ظاهره، حيث قد لا يتجاوز عدد ضحاياه بضعة ملايين إذا ما اقتصر على تفجير عشرات الرءوس النووية. 

لكن الواقع أكثر تعقيدًا وخطورة، فعندما تبدأ الصواريخ الباليستية بالتحليق، تصبح القدرة على تحديد أهدافها الحقيقية شبه مستحيلة، مما يضع القوى النووية الكبرى أمام خيارات مصيرية يجب اتخاذها خلال دقائق.

والسيناريو المتوسط، الذى يتضمن استخدام بضع مئات من الأسلحة النووية، كفيل بتدمير النظام الغذائى العالمى وإثارة فوضى تجارية عالمية، مما سيؤدى إلى موت مئات الملايين. 

أما فى أسوأ الحالات، فإن الشتاء النووى سيقضى على الحضارة الإنسانية خلال أشهر قليلة، حيث سيهرب الناجون عبر القارات بحثًا عن الطعام والأمان، ليموت معظمهم جوعًا أو مرضًا.

والمفارقة الصادمة تكمن فى تجاهل العالم لهذا التهديد الوجودى، مقارنة بالاهتمام العالمى بقضية تغير المناخ. فبينما تخصص المليارات لمكافحة التغير المناخى، وينشط الآلاف فى المؤتمرات البيئية، يبقى الخطر النووى فى الظل، بل إن بعض الحركات المناهضة للأسلحة النووية ركزت جهودها بشكل غريب على معارضة مفاعلات الطاقة النظيفة بدلًا من التركيز على الأسلحة التى تهدد وجود البشرية جمعاء.

إن نظام الحد من التسلح الذى بناه قادة العالم بشق الأنفس خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة أصبح فى حالة يرثى لها، وتنتهى معاهدة «ستارت الجديدة»- وهى اتفاقية وُقّعت عام ٢٠١٠ وتُحدّد طاقة روسيا والولايات المتحدة بـ١٥٥٠ رأسًا حربيًا منتشرًا لكل منهما- فى فبراير المقبل، وتحتفظ كل من روسيا والولايات المتحدة بأكثر من ٥ آلاف رأس حربى إضافى كاحتياطى، وفى غضون ذلك، تُعزّز الصين ترسانتها النووية بوتيرة سريعة.

فى ظل هذه الخلفية من تزايد عدم الاستقرار الاقتصادى والجيوسياسى، يتجلى التناقض الصارخ بين التهديد الوجودى الحقيقى- وإن كان يُتجاهل إلى حد كبير- المتمثل فى الحرب النووية، والاهتمام الهائل والجهد السياسى المبذول لقضية المناخ، ورغم أن تغير المناخ أمر حقيقى، وهناك الكثير مما يمكننا فعله بل وينبغى علينا فعله حياله، لكن الحرب النووية تُمثل التهديد الأكثر إلحاحًا.

وتُظهر التوترات الحالية بين الدول المالكة للأسلحة النووية أن لا خطر يُعادل التهديد الذى تشكله هذه الأسلحة على الحضارة الإنسانية، ورغم أن إزالة الأسلحة النووية بالكامل قد تبدو هدفًا صعب التحقيق كالقضاء التام على الانبعاثات الكربونية، إلا أنه يجب أن يحتل الأولوية المطلقة فى أجندة كل زعيم سياسى وكل قائد مجتمعى، بغض النظر عن انتماءاته الفكرية أو مواقفه السياسية، فالخطر النووى ليس تهديدًا مستقبليًا، بل هو أزمة راهنة تتطلب تحركًا عاجلًا.

ويكشف المؤلف عن حقائق صادمة تضعنا وجهًا لوجه مع الكارثة النووية المحتملة، مبينًا أن الحقيقة الأولى تقضى بأن البشرية تعيش اليوم تحت سيف مسلط من عشرات الآلاف من الرءوس النووية المنتشرة حول العالم، فى وقت تشهد فيه العلاقات الدولية أعلى درجات التوتر. 

والحقيقة المرة أنه لا أحد يمكنه الانتصار فى حرب نووية، بل الجميع خاسرون، والسبيل الوحيد لضمان ألا تتحول كوابيسنا إلى واقع هو العمل الجاد نحو عالم خالٍ تمامًا من الأسلحة النووية.

هذا التحذير ليس مجرد تنبؤ، بل هو صرخة استغاثة تتناسب مع حجم الخطر الذى يهدد مستقبل الجنس البشرى بأكمله، ففى عالم تسوده الأسلحة النووية، لا يوجد أمان حقيقى، ولا استقرار دائم، فقط هدنة مؤقتة تنتظر أى شرارة لتنقلب إلى دمار شامل.

والحقيقة الثانية أن الحرب النووية تعد احتمالًا حقيقيًا نظرًا لعدم الاستقرار الجيوسياسى فى عصرنا، فنحن الآن على حافة الهاوية، ويزداد خطر الحرب النووية، نظرًا لحوادث التصادم الحالية واستمرار سياسة حافة الهاوية بين القوى العظمى والدولية، وقد تكون فرصة أطفالنا للعيش حتى عام ٢٠٤٥ دون كارثة نووية أقل من ٥٠٪.

والحقيقة الثالثة هى انهيار جميع معاهدات الحد من الأسلحة النووية القديمة التى يعود تاريخها إلى الحرب الباردة، وستنتهى صلاحية آخر معاهدة، وهى معاهدة «ستارت الجديدة» فى فبراير المقبل.

فى غضون ذلك، تسعى الصين إلى تحقيق التكافؤ النووى مع الولايات المتحدة وروسيا، وتظهر منصات الصواريخ المحصنة فى صحارى شمال الصين، ومن المرجح أن تحصل إيران على قنبلة نووية خلال أشهر أو أسابيع، فى ظل مهاجمة الولايات المتحدة وإسرائيل مواقعها النووية.

وأظهرت روسيا بوضوح فى حربها على أوكرانيا أن الأسلحة النووية لا تزال مفيدة فى الحروب، حتى لو لم تُستخدم فعليًا، لأن تأثيرها الرادع يُقلل من مقاومة بقية العالم، ويأتى ذلك فى ظل توترات حالية بين الهند وباكستان، إذ يقترب البلدان مجددًا من الحرب بسبب كشمير، وكلاهما يمتلك مئات الأسلحة النووية.

والحقيقة الرابعة أن الخطر الأكبر يكمن فى حقيقة أن آلاف الأسلحة النووية حول العالم فى حالة تأهب قصوى، مما يزيد احتمالات وقوع خطأ كارثى. 

وفى الولايات المتحدة، يمتلك الرئيس الأمريكى وحده سلطة إصدار أمر الإطلاق، دون الحاجة إلى استشارة أى جهة، كما لا يملك أى شخص فى سلسلة القيادة صلاحية رفض أمر رئاسى مباشر.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن أمام الرئيس مهلة زمنية لا تتجاوز ست دقائق لاتخاذ قرار بشأن شن هجوم انتقامى فى حال اكتشاف تهديد نووى معادٍ، وهو ما يعنى ست دقائق فقط لاتخاذ قرار قد يؤدى إلى حرب نووية شاملة تهدد الجنس البشرى وتدمر جزءًا كبيرًا من المحيط الحيوى.

وشهد العالم بالفعل عدة حوادث نووية كادت أن تتسبب بكوارث غير مسبوقة خلال العقود الماضية، نتيجة أعطال تقنية، وسوء فهم بشرى، وخلل فى أنظمة الكمبيوتر، مما يؤكد أن مجرد خطأ بسيط قد يكون كافيًا لإشعال فتيل كارثة لا رجعة فيها.

على شفا أرمجدون.. At the Precipice of Armageddon.«الضغط على الزر» أصبح قريبًا بعد 80 عامًا

فى ٣١ مارس ٢٠٢٥، صدر كتاب «The New Nuclear Age: At the Precipice of Armageddon» أو «العصر النووى الجديد: على شفا أرمجدون»، عن دار النشر «بوليتى»، للكاتب أنكيت باندا، الخبير الدولى المعروف فى السياسة النووية والجغرافيا السياسية والدفاع الباحث فى برنامج «السياسة النووية» بمؤسسة «كارنيجى» فى واشنطن.

يحذر «باندا» فى كتابه من دخول العالم عصرًا نوويًا جديدًا، تعود فيه الأسلحة النووية إلى صدارة المشهد الدولى بطرق لم نشهدها منذ «الحرب الباردة»، فى ظل تهديدات قوى عظمى مثل روسيا بشن ضربات نووية، واستمرار الصين وكوريا الشمالية فى تعزيز ترسانتيهما، وظهور آفاق جديدة للانتشار النووى من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا.

ويكشف أن هناك ٩ دول معروفة تمتلك أسلحة نووية هى: الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل، وكوريا الشمالية، وقرار استخدامها فى أى وقت يقع على عاتق قلة من الأشخاص، بل على عاتق شخص واحد فى كثير من الأحيان.

ويسرد الخبير النووى، فى الكتاب المكون من حوالى ٣٠٠ صفحة، العوامل الدائمة والناشئة التى تُسهم فى هذا العصر النووى الجديد، مثل العلاقات المتوترة بين القوى العظمى، والديناميكيات متعددة الأقطاب المعقدة، والتراجع الحاد فى ضبط التسلح، شارحًا كيف أصبح تعايشنا مع «القنبلة النووية» أكثر تعقيدًا وخطورة.

العصر النووى الثالث

دخلنا إلى مستوى تهديد جديد، سواء من القوى العظمى أو الجهات الفاعلة غير الحكومية. فبعد ٨٠ عامًا من «هيروشيما وناجازاكى»، لم تعد سياسات الردع النووى كافية للتعامل مع احتمال التصعيد النووى المتزايد، وأصبح قادة العالم فى حاجة إلى إعادة تركيز جهودهم بشكل عاجل على استراتيجيات نزع السلاح.

يؤثر احتمال التصعيد النووى مجددًا على طريقة تفكير وتصرف صانعى القرار السياسى والمؤسسات العسكرية حول العالم، لكن بخلاف خطر «الحرب الباردة»، فإن تزايد عدد الأطراف النووية، ووفرة التقنيات الجديدة، بما فى ذلك «الذكاء الاصطناعى» والأسلحة الجديدة المتطورة، يجعلان البحث عن الاستقرار أبعد ما يكون عن البساطة، وإدارة مخاطر المواجهة النووية تتطلب إلحاحًا وتفكيرًا جديدًا لإنقاذنا من هاوية الكارثة العالمية.

الردع الاستراتيجى حافظ على السلام خلال «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، مدعومًا بهيكل أساسى من المعاهدات والاتفاقيات، والتى أصبح معظمها زائدًا عن الحاجة. بينما زادت الصين ترسانتها النووية بشكل كبير، وهذا قد يدفع الولايات المتحدة إلى تحديث مخزونها الخاص، ما يشعل سباق تسلح ثلاثى الأطراف.

ويُحتمل كذلك نشوب صراع بين الهند وباكستان، والذى غالبًا ما يتم تجاهله فى الغرب، إلى جانب إيران وكوريا الشمالية، واللتين لا تُظهران أى اهتمام يُذكر بقواعد حظر الانتشار النووى الدولية، وتضخان الموارد فى الأسلحة النووية والصواريخ لحملها.

بناءً على ذلك، ندخل الآن «عصرًا نوويًا ثالثًا» تُشكّله الجغرافيا السياسية المتصدعة، والتقنيات سريعة التغير، ففى هذه اللحظة، بالقرب من الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، توجد حقيبة عادية المظهر، أما رفيقتها، التى أيضًا قريبة وربما فى مكان ما على جسده، فهى بطاقة بلاستيكية مغلفة، كلاهما يحملان لقبين جذابين «كرة القدم» و«البسكويت»، وهو أمر يتناقض تمامًا مع النتيجة التى قد يتوصل إليها رئيس الولايات المتحدة إذا قرر استخدامهما.

أنكيت باندا

وتحمل بطاقة «البسكويت» رمز مصادقة نووى يتغير يوميًا. أما حقيبة «كرة القدم» فتحتوى على خيارات لشن هجوم نووى، ويجوز للرئيس فى أى وقت، وبمحض إرادته، استخدام هذه الخيارات لإطلاق بعض من آلاف الأسلحة النووية الأمريكية.

ونظرًا للضغوط النفسية التى يتعرض لها الفرد الذى يواجه قرارًا مصيريًا كهذا، فالوقت اللازم للكشف عن إطلاق نووى روسى والتحقق منه، قد لا يترك للرئيس سوى ١٥ دقيقة للرد، غالبًا ما يكون مفاجئًا ومخيفًا للناس، فالرئيس لا يحتاج إلى أى تدخل أو موافقة من أى شخص آخر للضغط على الزر.

وتعود السلطة الرئاسية على الأسلحة النووية الأمريكية إلى الرئيس «ترومان» عام ١٩٤٥. لكن بعد ٨٠ عامًا، تغير الكثير، فقد دخلنا الآن «عصرًا نوويًا ثالثًا»، بعد الأول الذى تمثل فى المواجهة بين القوى العظمى المسلحة نوويًا خلال «الحرب الباردة»، والثانى الذى بدأ مع نهاية «الحرب الباردة»، وركز على الحد من عدد الدول الجديدة التى تمتلك أسلحة نووية.

ويمثل العقد الذى يبدأ فى عام ٢٠٢٠ انتقالًا إلى «عصر نووى ثالث» جديد وأكثر خطورة وتعقيدًا، مع ظهور ديناميكياتٍ نوويةٍ متعددة الأقطاب مترابطة، جعلت توازن الرعب بين قوتين عظميين، والتفاهم المتبادل والتعاون الذى نشأ بينهما فى نهاية المطاف، يُستبدل تدريجيًا بعالمٍ تُعَدُّ فيه الصين قوةً رئيسية.

على سبيل المثال، نضجت برامج كوريا الشمالية النووية والصاروخية المرتبطة بها، لدرجة أن الصحفيين يميلون إلى الإشارة إلى عمليات الإطلاق الكورية الشمالية على أنها «اختبارات» بدلًا من «تدريبات». وتمتلك الهند وباكستان، العدوتان اللدودتان، أيضًا أسلحة نووية. بينما يبدو الشرق الأوسط على وشك الانهيار، لا تزال إسرائيل غامضة بشأن قدراتها، وليس من الواضح ما إذا كانت إيران ستُقدم على الاندفاعة الأخيرة للحصول على سلاح، ومتى.

ونظرًا للتنافسات المعقدة والقلق القائم بين هذه الأطراف المختلفة، من الصعب الآن أكثر من أى وقت مضى، تقدير التداعيات والتخطيط لها فى حال غيّرت أى من هذه الدول موقفها النووى، أو منافسوها. 

ويزداد هذا الخطر مع تقدم التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال، من شأن محاولة دولة ما تطوير درع صاروخى يشبه «القبة الحديدية الإسرائيلية»، تغيير ميزان الردع بشكل كبير، من خلال جعل تلك الدولة أقل عرضة للأسلحة النووية للأعداء، وخلق تفاوت قد يدفع الطرف الآخر إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية.

استخدمها وإلا ستخسرها!

فى خضم كل ذلك تبرز أهمية معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى عام ١٩٧٢، والتى كان جوهرها قبولًا متبادلًا لفكرة أن التعرض لضربة انتقامية من الطرف الآخر سيوفر بعض التهدئة لحوافز سباق التسلح.

من التحديات الأخرى مشكلة «البحار الشفافة»، فإذا أدى تقدم تكنولوجى مفاجئ إلى كشف الرادع النووى البحرى لدولة ما للعدو، فإن قدراتها على الرد ستتآكل بشدة، وقد تدفعها إلى زيادة ترسانتها وتنويعها.

وتشير مشكلة «البحار الشفافة» إلى الآثار المحتملة للتطورات فى تقنيات استشعار المحيطات وكشف الغواصات، وتحديدًا ما يتعلق ببقاء الغواصات النووية والتوازن الاستراتيجى الأوسع. 

وقد يتوقع البعض أن يلعب «الذكاء الاصطناعى» دورًا محوريًا وربما مشئومًا فى العصر النووى الجديد، فقليل من الخبراء، داخل الحكومات أو خارجها، يضغطون من أجل دمج الذكاء الاصطناعى فى عملية صنع القرار بشأن استخدام الأسلحة النووية، وتشير المحاكاة إلى أن البشر تحت الضغط يستمعون إلى نصائح المقربين من البشر أكثر مما يستمعون إلى ما تخبرهم به أجهزة الكمبيوتر. 

ومن المرجح أن نجد «الذكاء الاصطناعى» يسهم فى مشاكل من نوع «البحار الشفافة»، ما يجعل تتبع الأسلحة النووية للأعداء أكثر جدوى، وبالتالى المخاطرة بالتصعيد الوقائى من قبل هؤلاء الأعداء. وغالبًا ما تُطرح كوريا الشمالية فى هذه السيناريوهات: إذا اكتشف رئيسها كيم يونج أون أن التكنولوجيا الكورية الجنوبية أو الأمريكية تتعقب أسلحته بنجاح، مهددةً بتعطيلها أو على وشك حرمانه من التحكم فيها، فمن المحتمل أن يتحقق سيناريو «استخدمها وإلا ستخسرها»، الذى طالما خشى الجميع حدوثه!

تُظهر الحرب فى أوكرانيا سيناريو آخر محفوفًا بالمخاطر فى «العصر النووى الجديد»، فلا شك أن الكثيرين منّا قد واجهوا لأول مرة فكرة الأسلحة النووية فى ساحة المعركة أو كسلاح تكتيكى، فى نقاشات وسائل الإعلام حول خيارات فلاديمير بوتين فى الصراع. ونظرًا لتعثر الغزو الروسى الأولى، ودعم دول «الناتو» أوكرانيا، بدا من المعقول لبعض المحللين أن يختار «بوتين» توجيه ضربة نووية محدودة لتحريك القتال لصالحه، وتحذير «الناتو» من تقديم أى دعم إضافى لأوكرانيا.

سيكون الخطر هنا مزدوجًا، ففى أحسن الأحوال، بعد قرابة ٨٠ عامًا من عدم الاستخدام، ما أن يبدأ استخدام سلاح نووى واحد فى ساحة المعركة، سيتطور الأمر سريعًا إلى تبادل نووى شامل بين مختلف أطراف الصراع الأوكرانى.

وقد تميل الولايات المتحدة نفسها فى المستقبل إلى استخدام ضربات نووية محدودة، فكلما ازداد تمدد قواتها التقليدية، وتمركزها ضد روسيا فى أوروبا والصين بالمحيط الهادئ، زاد احتمال حاجتها للجوء إلى الأسلحة النووى، ربما، كما حدث مع «بوتين»، على أساس أن سلاحًا واحدًا قد يكون كافيًا لإقناع العدو بالتراجع.

البؤر النووية الساخنة

تتعدد «البؤر النووية الساخنة» الحالية والمستقبلية، ومعظمها مألوف للقراء، مثل إيران وشبه الجزيرة الكورية وجنوب آسيا. ومن بين أسباب القلق الرئيسية، على مدى السنوات القليلة المقبلة، تبرز تايوان.

ألعاب الحرب التى تبحث فى كيفية تطور محاولة صينية للسيطرة على تايوان بالقوة، كانت فى الماضى تميل إلى تجاهل أى خيار نووى، أو التوقف عند نقطة استخدام الأسلحة النووية. لكن فى الآونة الأخيرة، بدأ هذا يتغير، مع نمو القدرات النووية الصينية بوتيرة متسارعة، ووجود شكوك حول مدى استعداد الولايات المتحدة للمخاطرة فى الدفاع عن تايوان.

كان «الأمن النووى» فى «الحرب الباردة» يعنى- إلى حد كبير- التزام واشنطن وموسكو وبكين بضبط النفس، وفى بعض الحالات، التفاوض على جوانب من ترساناتها النووية بما يخدم مصالحها المشتركة.

وكانت معظم الدول النووية الأخرى فى تلك الحقبة السابقة، مثل فرنسا والمملكة المتحدة وإسرائيل، حليفة للولايات المتحدة. أما الهند، وهى قوة عظمى، فقد انضمت متأخرة نسبيًا إلى النادى النووى، فى عام ١٩٧٤.

علاوة على ذلك، تمكنت واشنطن آنذاك من الضغط على حلفائها: كوريا الجنوبية وتايوان للتخلى عن برامجهما النووية السرية، بالتزامن مع تخلى جنوب إفريقيا عن برنامجها الخاص، مع نهاية «الحرب الباردة». فى المقابل، أصبحت باكستان وكوريا الشمالية قوتين نوويتين مُعلنتين.

برزت كوريا الشمالية، ولم تعد لاعبًا تافهًا، بل مُسلّحًا بالكامل، فى نادٍ نووى مُزدحم، انضمت إليه عام ٢٠٠٦، ومنذ ذلك الوقت دأبت على تطوير الأسلحة النووية والمركبات اللازمة لإيصالها إلى أهداف فى الولايات المتحدة، والمنشآت العسكرية الأمريكية، فى اليابان وجوام وأماكن أخرى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

بدأت بيونج يانج رحلتها نحو الأسلحة النووية فى أعقاب الحرب الكورية، عندما هددت واشنطن بالدمار النووى، وبالإضافة إلى مواجهة القوات التقليدية الهائلة للولايات المتحدة وحلفائها، المنتشرة فى شبه الجزيرة الكورية واليابان وأماكن أخرى فى المنطقة، وكذلك القوات النووية الاستراتيجية الأمريكية، كان على كوريا الشمالية، من ١٩٥٨ إلى ١٩٩١، أن تأخذ فى الاعتبار الأسلحة النووية التكتيكية لواشنطن فى كوريا الجنوبية، وأدرك قادتها ضرورة امتلاك القدرة على «ردع قوة نووية عظمى معادية».

وعملت كوريا الشمالية على تطوير مركبات لإيصال الحمولات النووية إلى أهدافها. وأشار إطلاقها صاروخ «تايبودونج- ١»، فى عام ١٩٩٨، وهو نموذج تجريبى لتكنولوجيا الأقمار الصناعية حلّق فوق اليابان، إلى مستقبل محتمل للصواريخ ذات الرءوس النووية القادرة على ضرب أهداف إقليمية والولايات المتحدة.

وتُهدد القدرات النووية المتنامية لكوريا الشمالية واشنطن، وتُقوّض مصداقية مظلتها النووية القائمة منذ فترة طويلة فوق سيول وطوكيو، فكلا الحليفين الآسيويين لا بد أنهما يتساءلان، كما فعل الرئيس الفرنسى شارل ديجول خلال «الحرب الباردة»، عما إذا كانت واشنطن ستضحى بالمدن الأمريكية دفاعًا عن حلفائها البعيدين؟!

ومع إعلان زعيم كوريا الشمالية، كيم يونج أون، فى نوفمبر ٢٠١٧، عقب التجربة الناجحة لصاروخه الباليستى العابر للقارات «هواسونج- ١٥»، أن الردع النووى لبلاده قد اكتمل، وضع حدًا لنظرة استخفاف ببلاده، كانت راسخة منذ زمن طويل بين قادة ومواطنى الولايات المتحدة.

لا يُنسى فى هذا السياق الرئيس الأمريكى الراحل، ريتشارد نيكسون، وهو يسخر من كوريا الشمالية فى عهده، ويصفها بأنها «دولة تافهة من الدرجة الرابعة»، وكذلك غلاف مجلة «نيويوركر»، الذى يصور كيم يونج أون قبل بضع سنوات على أنه «طفل صغير يلعب بالصواريخ»، بعد أن أجرى تجربته النووية الرابعة، فى يناير ٢٠١٦.

وأصبحت كوريا الشمالية، التى لطالما تعرّضت لتهديدات عسكرية من رؤساء أمريكيين، من «أيزنهاور» و«كلينتون» إلى «ترامب»، تمتلك الآن نظامًا كاملًا للردع النووى، ولم يعد بإمكان واشنطن الانخراط فى قصف شامل لها، كما حدث فى الحرب الكورية، أو إعطاء الضوء الأخضر لخطط كوريا الجنوبية الحالية لشن ضربة استباقية، دون توقع الإفلات من انتقام نووى ضدها.

والأسوأ من ذلك، أنه بعد التقلبات الدبلوماسية، التى بدأت من أعماق تهديد الرئيس «ترامب» خلال فترة ولايته الأولى بـ«النار والغضب»، وصولًا إلى اجتماعات قمته المذهلة التى باءت بالفشل فى النهاية مع كيم يونج أون، يبدو أن بيونج يانج الآن متحالفة بقوة مع موسكو.

لقد ولّد عدم استخدام الأسلحة النووية عقودًا من التراخى والثقة المفرطة، وميلًا لدى عددٍ كبيرٍ جدًا من المفكرين إلى استبعاد احتمال وقوع كارثة نووية، رغم أن هناك الكثير مما ينذر بالخطر، أولها أن ضبط التسلح أصبح أكثر تعقيدًا، نظرًا لكثرة الأطراف الفاعلة، وتنوع التقنيات المستخدمة، فضلًا عن مشاكل الثقة، فمن الصعب تصور «بوتين» أو شى جين بينج يسمحان للولايات المتحدة بالوصول إلى ترساناتهما، والعكس صحيح.

لكن يمكن إدارة المخاطر، وعمل الدول النووية على أخذ مخاوف أعدائها فى الاعتبار، من خلال الالتزام بالامتناع عن التدخل فى أنظمة القيادة والسيطرة النووية الخاصة بها، وهذا من شأنه أن يقلل من احتمالية سيناريو «استخدمها وإلا ستخسرها» فى شبه الجزيرة الكورية.