المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المخرب المجدد.. كيف نقل البابا فرنسيس الكنيسة من الظلامية إلى الحداثة؟

البابا فرنسيس
البابا فرنسيس

عندما يتوفى أحد البابوات، تتحول الأنظار إلى الفاتيكان حيث تسيطر البروتوكولات المتعلقة بانتخاب خليفته والطقوس المرتبطة بالوفاة على الشاشات التليفزيونية لأيام أو حتى أسابيع، وتتحول شخصيات الكرادلة- الذين يشكلون المجمع الانتخابى- إلى محور التقارير الإعلامية المحلية والدولية، حيث تخضع تحركاتهم ومواقفهم لتحليلات دقيقة من قبل خبراء متخصصين فى شئون الكنيسة الكاثوليكية.

فى الوقت نفسه، يجرى الجمهور العالمى بحثًا موسعًا عن كل ما يتعلق بشخصية البابا الراحل ومرشحى الخلافة المحتملين، فى مزيج من الفضول العلمى والافتتان الشعبى بالطقوس السرية التى تحيط بانتخاب أعلى منصب فى الكنيسة الكاثوليكية.

وتظل هذه الفترة الانتقالية- من الوفاة حتى انتخاب البابا الجديد- واحدة من أكثر اللحظات إثارة فى الحياة الدينية والسياسية العالمية، حيث تختلط التقاليد القديمة بالسياسة المعاصرة فى مشهد فريد من نوعه.

وفى خضم الأجواء المصاحبة لرحيل البابا فرنسيس وانتخاب خليفته، يعود إلى الواجهة كتاب «المخرب/ المجدد اليسوعى: بروفايل شخصى للبابا فرنسيس» «The Jesuit Disruptor: A Personal Portrait of Pope Francis» للكاتب الكندى مايكل هيجينز، الباحث والمؤرخ المتخصص فى شئون الفاتيكان.

«هيجينز» الذى يشغل منصب الرئيس الفخرى لجامعة القديس جيروم فى واترلو بكندا، كما يعمل مستشارًا لهيئة الإذاعة الكندية فى برامجها المتعلقة بالكنيسة، أصدر كتابه عن دار أنانسى للنشر فى سبتمبر ٢٠٢٤، قبل عدة أشهر من وفاة البابا فرنسيس.

ويُسلط الكتاب الضوء على التغيير الإيجابى الذى أحدثه الحبر الأعظم خلال خدمته فى الكنيسة الكاثوليكية، حيث يرسم صورة شخصية عميقة للبابا فرنسيس، مستندًا إلى سنوات من البحث والملاحظة المباشرة.

ومع اقتراب موعد انعقاد المجمع المغلق لانتخاب البابا الجديد، المتوقع بين ٦- ١١ مايو، يكتسب كتاب «المخرب اليسوعى» أهمية استثنائية كمرجع أساسى لفهم التحولات الكبرى فى الفاتيكان، حيث يُقدّم رؤية عميقة لكيفية تحرير البابا فرنسيس الأرجنتينى المولد الكنيسة من قيود التقاليد الصارمة، وكفاحه لإدخال إصلاحات جذرية تواكب العصر الحديث.

وللوهلة الأولى، يصطدم القارئ بعنوان الكتاب، إذ قد يترجم البعض كلمة «disruptor» إلى «المُخرب»، غير أن المؤلف يلفت الانتباه إلى التهجئة التى تنتهى بـ«or»، مميزًا إياها عن الصيغة الأكثر شيوعًا للكلمة والتى تنتهى بـ«er»، والتى تعنى «مُخرب»، حيث يشير إلى أن قاموس كامبريدج يُعرّف «disruptor» بصيغتها المنتهية بـ«or» على أنها الشخص الذى يُحدث تغييرًا جذريًا فى الطريقة التقليدية لعمل مؤسسة ما، خاصة من خلال أسلوب جديد وفعال، ما يجعل معنى الكلمة ينتقل من «مخرب» إلى «مجدد».

ويرى المؤلف مايكل هيجينز أن حتى مصطلح «مخرب» يمكن أن يحمل دلالات إيجابية ومؤثرة، فهو يصف البابا فرنسيس بأنه «المُخرِّب المُتمرس»، الذى يُعيد تشكيل أساليب قديمة فى إدارة الكنيسة.

والبابا فرنسيس، بصفته زعيم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، يُعتبر أيضًا قائدًا عالميًا يتمتع بحضور أخلاقى قوى وقدرة على التواصل مع عامة الناس وأتباع الديانات غير المسيحية، كما يُعدّ صوتًا أخلاقيًا موثوقًا فى قضايا مثل الهجرة، والتفاوت الاقتصادى، والآثار السلبية للشعبوية السياسية، والتهديدات البيئية المتزايدة، ومع ذلك، واجه تحديات كبيرة تتعلق بمشكلات عميقة فى البنية التحتية والحوكمة داخل الكنيسة.

ويوضح «هيجينز» فى كتابه، الذى يمتد على ٣٤٤ صفحة، أن البابا فرنسيس، خلال حياته، سعى إلى إصلاح الفاتيكان وضمان تطور الإيمان الكاثوليكى ليواكب تحديات القرن الحادى والعشرين.

وفى هذا المسعى، حافظ على تقاليد الرهبنة اليسوعية، وهى رهبنة ذات تاريخ عريق فى مجالات التعليم، والبعثات الإنسانية، والدفاع عن العدالة الاجتماعية، وحتى مع وفاته، ظل رمزًا للإصلاح والتجديد، حيث سعى إلى الجمع بين التقاليد الراسخة والتحديث الضرورى لمواكبة العصر.

ويسلط المؤلف الضوء على دلالات اختيار البابا فرنسيس اسمه، موضحًا عمق المسئولية الملقاة على عاتق أى بابا للفاتيكان، ويقتبس وصف «توماس هوبز» للبابوية بأنها «شبح الإمبراطورية الرومانية الراحلة الجالس والمُتوّج على قبرها»، ليعكس الثقل التاريخى والدينى الذى يحمله هذا المنصب.

ويشير إلى أن البابا فرنسيس، عند توليه المنصب، اختار اسمه ليعكس توجهاته الروحية والاجتماعية، فهو أسقف روما ويحمل جميع الألقاب والرتب الأخرى التى ارتبطت بالبابوية على مر العصور، مثل الحبر الأعظم، وبطريرك الغرب، ورئيس أساقفة إيطاليا، ورئيس دولة الفاتيكان، ونائب المسيح، وهذا الاسم لم يكن مجرد اختيار، بل كان تعبيرًا عن رؤيته الإصلاحية ونهجه المتجذر فى العدالة الاجتماعية والروحانية.

وحسب الكتاب، سار خورخى بيرجوليو «البابا فرانسيس» مثل فقراء العالم على الدرب، متضامنًا مع المهمشين، مصغيًا إلى المنبوذين، ومبتكرًا نموذجًا جديدًا للبابوية بفضل حساسيته الشخصية.

وبصفته يسوعيًا، يرتبط إرثه بروح الإصلاح والتجديد، مستلهمًا من فرنسيس كزافييه، أحد أبرز المُبشرين فى الجيل الأول من اليسوعيين، كما تأثر بشخصية بيدرو أروبى، الرئيس العام لجمعية اليسوعيين خلال فترة ما بعد المجمع الفاتيكانى الثانى، التى شهدت تحولات عميقة، والذى تلقى تدريبًا طبيًا وعمل فى هيروشيما خلال كارثة الهجوم النووى عام ١٩٤٥، ليكون نموذجًا يُجسد الحوار المحترم والتفانى فى خدمة الإنسانية.

ويشكّل التكوين اليسوعى للبابا فرنسيس حجر الأساس فى تحليل «هيجينز»، إذ يبرز دوره ككاهن، ثم أسقف، وصولًا إلى منصب الكاردينال، باعتباره انعكاسًا لنهج اليسوعيين، الذين كانوا على مدى التاريخ يجمعون بين هندسة النظام وإعادة تشكيله بطرق جديدة.

ويرى «هيجينز» أن البابا فرنسيس لعب هذين الدورين بشكل متوازن، حيث أظهر قدرة على الحفاظ على التقاليد الدينية مع السعى المستمر نحو التغيير والإصلاح.

ومن الواضح أن «هيجينز» معجبٌ بالبابا فرنسيس وبالنهج الرعوى الأقل عقائدية الذى يبدو أنه يتبعه فى بابويته، إذ يشير فى كتابه إلى أنه بينما شدد سلفاه البابا يوحنا بولس الثانى والبابا بنديكت السادس عشر على الالتزام الصارم بالسلطة الدينية والعقائدية، كان «فرنسيس» أكثر إصغاءً، ساعيًا إلى تكييف تقاليد الإيمان الراسخة وعقيدته مع الواقع المعاصر.

ويتناول «هيجينز» الجدل الدائر حول موقف البابا فرنسيس من الرأسمالية ومدى اهتمامه بالمفكرين المحافظين، خاصة داخل الطائفة الكاثوليكية الأمريكية، كما يرد على هذه الادعاءات بالإشارة إلى تأكيد البابا على أهمية المجمعية كنهج يُعزز وحدة الكنيسة ويعيد إليها الشعور بالسلطة الروحية والقيادة الأخلاقية.

ويشير «هيجينز»، فى كتابه، إلى الخطوات الجريئة التى اتخذها البابا فرنسيس، ليس فقط لمواجهة النزعة التقليدية المتصلبة، بل أيضًا لتجديد الكنيسة وتنقيتها من بعض العوائق الإدارية التى تعرقل مسيرتها، فقد تبنى البابا نهجًا إصلاحيًا شاملًا، ساعيًا إلى إعادة هيكلة الكنيسة برؤية أوسع تتماشى مع العصر الحديث.

كما يوضح الأهمية العميقة لأصول البابا فى الأرجنتين، والتى لعبت دورًا أساسيًا فى تشكيل نظرته الإصلاحية، ويقتبس من الكتاب تأكيد البابا فرنسيس على أن الهيمنة الأوروبية الحصرية على الكنيسة قد انتهت، فلم تعد الكنيسة امتدادًا للسلالة النبيلة لروما الإمبراطورية، بل أصبح مركز ثقلها المستقبلى فى جنوب الكرة الأرضية.

وعلى خلاف سلفه المباشر، بنديكت السادس عشر، لم يعلّق البابا فرنسيس آمالًا كبيرة على استعادة الإيمان المسيحى فى أوروبا، إذ يرى أن الصحوات المتفرقة فى أنحاء القارة لا تبشّر بعودة الهيمنة الكاثوليكية الرومانية، لكنه يدرك حاجة أوروبا الكاثوليكية إلى إعادة التواصل العميق مع الإيمان الذى تباعدت عنه، وهو ما يشير إلى رؤيته الشاملة لضرورة انفتاح الكنيسة على العالم بمختلف ثقافاته وأوضاعه الاجتماعية.

ويُبرز الكتاب نهج البابا فرنسيس فى الربط بين مصير الفقراء والهشاشة المتزايدة للكوكب على المستويات السياسية والبيئية والاجتماعية، ويشير إلى أن البابا وضع الفقراء والضعفاء فى صميم رسالته، معتبرًا أن معاناتهم ليست منفصلة عن الأزمات التى يشهدها العالم، بل مرتبطة بشكل وثيق بتدهور الأوضاع العالمية.

ومن وجهة نظر البابا، فإن الفئات الأكثر هشاشة هى الأكثر عرضة للتأثر بتغيرات المناخ، والتفاوت الاقتصادى، والاضطرابات السياسية، مما يستوجب استجابة عالمية عادلة وشاملة تعكس التزام الكنيسة بالقضايا الإنسانية الكبرى.

ويشير إلى أن انتخاب البابا فرنسيس عام ٢٠١٣ شكّل لحظة فارقة، إذ بدا وكأنه بالفعل «مُخرِّب» للوضع الراهن، ليس بالمعنى السلبى، بل بمعنى القائد الذى يعيد تشكيل المشهد من خلال رؤية إصلاحية جريئة، إذ كان يؤمن بأن القيادة الحقيقية تستوجب الانفتاح على التغيير، وإفساح المجال لحوار أعمق بين الشعوب والمجتمعات، بدلًا من الاكتفاء بنقاش فكرى مجرد.

وبهذا النهج، تجسّدت روحانيته اليسوعية فى الانخراط الفعلى فى العالم، والعمل من الداخل لضمان أن يبقى الدين قوة أخلاقية حية، قادرة على التفاعل مع المتغيرات الاجتماعية.

فى المقابل، يواجه هذا التوجّه مقاومة قوية داخل الكنيسة، حيث توجد قوى مؤثرة تخشى التغيير وتعمل بشكل نشط للحفاظ على التقاليد القائمة، وهو ما يجسد الصراع المستمر بين التحديث والمحافظة داخل المؤسسة الكنسية.