كبار يكتبون عن كبار..
صافى ناز كاظم تكتب: رأس موضوع عن الـ«يوسف إدريس»
ما زلت أدور حول نفسى حتى أهرب من التقائى برغبتى فى التعبير عنه. أخشى أن تلتقى عينى بعينى وتورطنى لأجلس وأضع أمامى المسئولية.
ما زلت أريد أن آخذ منه أختزنه ولا أبوح به، كأن تنغلق النفس على سرها الحيوى.
مدينتى: ما إن أغمض عينى لأتصور نفسى لو كنت دونها حتى أرانى فى عراء.
لست أتصور وجودًا لى لو أننى لم أتفتح عليه وأنضج به وأتخذه من البداية حتى الاستمرار: «قوميتى» الفنية: يوسف «اليوسف» إدريس.
...
لست ناقدة له. لست عارضة «للبيضاء»، روايته التى فرغت لتوى منها - لست متكلمة عنه.. سأظل دائمًا معبرة عما يعنيه لى «اليوسف» هذا، المدينة التى أخوضها وأتجولها فأتعلمنى: أشم رائحتى، أرانى، أصافحنى، أجادلنى أناقضنى، فتهذبنى معارضتى وتبلور لى وجهًا أعرفنى به.. وجهًا متحيرًا واضحًا، ضاحكًا مجهشًا بالبكاء.

هذه «المدينة» الشاعرة، الطفلة العجوز عمر الشجن المصرى، حين أحاول أن أرسمها تهمى على آلاف من صور، وكلمات وحروف: هطولًا كل قطرة منه وجهًا مفاجئًا جديدًا، مختلفًا وغريبًا لكنها تصنع برغمها سيلًا واحدًا لخط لا عوج فيه.
منذ شهور كتبت:
ما أقبح كل ما كتب عن يوسف إدريس! كتبوا عنه كما يكتبون عن أى رجل منهم. لم يدركوا أن يوسف إدريس لا بد أن تنحت له الكلمات الخاصة للتعبير عنه.. لكى يمكن أن نصل ونفهم لماذا هو فناننا «الحديث» حقًا، «المستقبلى» و«الكلاسيكى» معًا، ولماذا هو شىء فريد واحد فى حياتنا الأدبية المعاصرة. على مدى السنوات ما زال يتأجل مشروعى «دراسة فى كيفية تذوق يوسف إدريس»، يتأجل مشروعى كما تتمنى الحامل دائمًا تأجيل لحظة الميلاد رهبة وتوترًا من الألم والمتعة».
حين كتبت هذا الكلام كنت أعنى أنه يجب أن يتنحى النمطيون فى النقد والتذوق والفهم والمحاسبة عن عالم يوسف إدريس ولا يدسوا أنوفهم عندهم، فقد تضخمت وتبلدت لكثرة ما أسرفت وضنّت على نفسها.

الكشاف العالم يوسف إدريس.. هذا الملىء ثراء وخصوبة بكل- وأستعير كلماته من «البيضاء»- «الأشياء الدقيقة التى لا تظهر إلا لتتلاشى، وإذا تلاشت فلا تستطيع مهما حاولت أن تعيدها إلى الوجود بسميات أو ألفاظ»: الكشاف لمثل هذا العالم المتناهى فى الرقة والصلابة، المتناهى فى البساطة والتعقيد.. فى الشعر والماديات.. فى كل الأشياء ونقيضها أو جدلها.. لا يمكن أن تملكه إلا باستحضارك قلبًا مثل قلب الصوفى.. الملىء بالنقاء، العارف بالخطيئة.. قلبًا يجلوه شجن عظيم، ينقيه فى دوام من الترهل ويجعل منه وعاء شفافًا بإمكانه أن يجمع فى اختزال هائل.. النبض الإنسانى العريض مع خلاصة المصفى والمخصوص والخاص الموقف بالذات على إنسان مصر.
استحضار ذلك الكشاف البسيط الصعب ليس مشكلة القارئ العادى الذى ينتقى الكتب صدفة أو بالذات.. هذا القارئ يحس بعالم يوسف إدريس رحبًا بأخذه بالدفء والمتعة والفهم دون أن يدرك- أو يهمه أن يدرك- على وجه التحديد كيف تم له ذلك. إنما عنيت.. هؤلاء الذين قد تدفعهم الجرأة والاعتيادية المهنية إلى التصدر للحكم والتقييم.
فى عمل له «البيضاء»- الرواية التى صدرت كاملة أخيرًا هذا الأسبوع بعد أن ظلت ناقصة سنوات طويلة منذ كتبها عام ١٩٥٥، وهو تقريبًا نفس العام الذى ظهرت له فيه مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالى» التى عرفنا بها اسم يوسف إدريس أول مرة - منذ الكلمة الأولى تأخذك قصة الحب مندفعة فى وجهك كخرطوم دم أحمر ساخن مندفع خارج شريان مذبوح، لا تملك- والدم يرش عينيك وفمك وأنفك- لحظة تمد فيها يدك لتغلق الفوهة أو تهدئ منها. وحين يتصفى الشريان ويسكت الدم ينتهى الكتاب تمامًا عند تهدل القطرة الأخيرة فتغلقه لاهثًا محتاجًا إلى الراحة والتريض، وتحس بعبث التقسيمات الأزلية.. رواية.. قصة.. شعر.. إلخ.

فرغم شبه الاعتذار الذى كتبه يوسف إدريس فى تصدير الكتاب- إنها رواية تقليدية الشكل وما إلى ذلك، فأنا لم آبه بما قاله وقلت.. يا لها من قصيدة طويلة النفس بلغت وتعدت الثلاثمائة صفحة، ولا تكتشف أنها ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير حتى تنتهى فتعرف من لهاثك وامتلائك ذلك الشوط الذى قطعته وذلك الزمن الذى مر دون أن تتحرك من مكانك.
قصة حب صافية بلا جدال، لا تتعب نفسك لتصوير الرمز وراء بطلتها «سانتى» اليونانية البيضاء، المُشرب وجهها بالحمرة والتوهج الجذاب الذى يضفيه انفعال الالتزام السياسى على وجه حلو صغير.
وقد يجعلك تندهش وأنت تتساءل ما الذى رماه- وهو الوجه الرقيق - فى المعمّة الخشنة.
ولكن، أليست بذور الأصل فى «معامع» الكفاح والتحرر هو ذلك الشعور الرومانتيكى الشاعر، الإنسانى النقى الذى يرفض بشكل شخصى غاضب فكرة وصور الظلم والقهر؟
قد تأخذ الأشكال فيما بعد قوالبها وخطوطها العلمية والمادية المقننة وغير المقننة، لكن حتمًا لا يبدأ بذرة أى حركة تحرر أو نضال إلا ذلك الشىء الرقيق الشفاف الصادق المشرب بالحمرة والخجل الكامن داخلنا جميعًا.

«نحن نسعد بساعة الراحة إذا جاءت فى وسط يوم كامل، أو ربما حياة كاملة من الشقاء، نسعد بها سعادة مبالغًا فيها، كتلك التى يحسها الضارب فى الصحراء حين ينتهى إلى واحة».
لذلك حين نرى بطلنا الطبيب الشاب المُقسم يومه بين عمله وحيرته أمام مشاكل عمال ورش السكك الحديدية ودائرتهم المفرغة، للتحايل بطلب الإجازات لتعويض الخصومات، ومشاكل ترمم ولا تحل أبدًا، وبين عيادته الفقيرة فى الحى الفقير، وبين دوره السياسى فى المجلة التى تصدر كل مرة بمعجزة - حين نراه يغرق نفسه فى حب «سانتى» حبًا واهمًا لم تشاركه فيه قط.. لكنه يعيشه كاملًا نابضًا متدفقًا بالسخونة والامتلاء ولحظات الفرحة القصيرة التى تحفر نفسها نشوة عارمة تعيد كائنًا حيًا- لا نذهب مع هواجس الطبيب الشاب فى إحساسه بالخطيئة لأنه أحب وهو مشتبك فى صراع البحث عن سُبل مناهضة الحكومة الرجعية.. لا نستغرب هوس استمساكه بهذه التى.. «بالضبط هى بكل ما أحب فى النساء فيها، وكيف أقول هذا وأفسره؟ أأقول إن من نظراتى الأولى لها كنت قد قررت أنها لى، طال الزمن أو قَصُر، شاءت الظروف أم لم تشأ. ماذا أقول؟ هل أقول إننى منذ الوهلة الأولى كدت أضمن قصتنا معًا، كأن أنوارًا كاشفة قد أضاءت كل ما سوف يُقبل.. لجزء من الثانية ثم انطفت الأنوار».
إنها بالضبط التوازن الشعرى الضرورى لحياة قاسية ليحفظ للنفس «التبريد» المطلوب حتى لا تحترق وتفسد.«.. تتبلبل الخواطر وترتفع الأسماء وتهوى كالأسعار حتى ليلتبس الأمر على الرائى فى الظلام، وهو لا يلحظ فارقًا كبيرًا بين الخائن والشريف، وبين الانتهازى وصاحب المبدأ. ويعشش الشك حتى ليشك الواحد أحيانًا فى نفسه، فالظلام يضاعف الشك.. والشك يقطر فى العيون ظلامًا.. الشك الذى يورث الرعب. ولم أكن قد آمنت بعد أن الشك المركب إذا طال بقاؤه فى النفس يأكلها ويهرؤها كماء النار. وأن نفوسنا كأكبادنا ممكن أن تصاب بالتضخم والتليف وتفقد إحساسها الإنسانى وطيبتها ونكهتها وتمرض وتموت، ويظل صاحبها يحيا بلا نفس، وما أبشع أن يحيا الإنسان بلا نفس عملها الأساسى أن تتذوق طعم الحياة، وتحبب صاحبها فى كل ما هو حى، وتحبب كل الأحياء فيه..».

«سانتى» لم تكن صدفة أو قدرًا أو وهمًا عابثًا لمراهق.. بل حاجة ملحة كان البحث عنها جاريًا فى وجدان الطبيب الشاب بشكل قد لا يتبينه «فالإنسان منا آلة معقدة غريبة».. البحث عن التوازن الذى لا يحقق شيئًا ماديًا محسوسًا- له مطافه المعروف ونهايته- بل يحقق ذلك الذى يقلب فى الصدر قطعة الماس.. التوق فيتولد الشعر بكل صخبه وهدوئه.. يبنى المهدم والمكسور والذى يوشك أن ينقض.. يقيمه.
لم يكن مهمًا إذن أن تتحقق «سانتى» امرأة فعلية راكعة متجاوبة بين يدى فتانا الظمئ. كان مهمًا حقًا أن تظل «مستحيلًا» لا يتحقق، وبذات الوقت «ممكنًا» يكون محورًا لإذكاء وقدة الروح والنفس.. «وأحس أن شيئًا كان ينقصنى وعاد، روحى ربما أو ما هو أكثر من روحى..».
تتحرك قطعة الماس وتنسكب الألوان.. الوردى والشمسى والقرمزى والفيروزى والأبيض.. حزم متآلفة ومتعاكسة، مشرقة وكابية، لا تثبت ولا نهاية لها ويشرئب إلى جوارها الكالح والرطب والمجعد.. فالألوان لا تلغى شيئًا لكنها دوائر الفلين الصغيرة الطافية، يقف عليها العابر فلا يقع فى المستنقع.. الاكتئاب واليأس.
حين ينطلق فتانا موغلًا فى يومه المزدحم المتناقض.. تحت الأرض يكتب الممنوع، ومع وفاقه يتجادل فى المحظور.. المحظور فوق أن ينبسه على الإطلاق، والمحظور بين رفاقه.. أن يثير المعارضة مع قيادته. وفى الورشة عقليًا وفكريًا وعاطفيًا مع العمال وفى جبهتهم.. لكنه الطبيب المرتبط مقعده عندهم بالجبهة المعادية. وعيادته وقريته وطرق الأمل التى لا يبدو لها مسلك.. حين يكده الإنهاك ويصبح جرف اليأس قريبًا.. تأتى الساعة الثالثة والنصف- ساعة قدوم «سانتى» لدروس اللغة العربية- تأتى بأوهامها وألونها فتشمس الأشياء من جديد..
«.. ما كان بيننا من أحاديث لم تكن مهمة، فأحاديثنا فى الواقع كانت تتحول إلى موسيقى لا تهم مفرداتها كثيرة فيتكلم الواحد منا ليخرج أصواتًا حنونًا منغمة يرد بها على أصوات أخرى صاعدة من حنجرة عزيزة ثانية..» وتبنى الألوان خلايا النفس التى صدعها الإنهاك والتعب.
وكما تتحول الوردة إلى مذاق ردىء حين تؤكل، وتبدو الفراشة حشرة قبيحة حين تطوى جناحيها وتستكين.. تتهدل الأوهام المشعة حين تمد يدك لتقبض عليها. وكان على الطبيب الشاب أن يتعلم الحكمة الصعبة.. أن الوهم حقيقة- بل لعله يكون أكثر الأشياء حقيقة- لكن حقيقته تكمن فى أنه غير ملموس. تصنعه الألوان من إشعاعها أحجامًا متغيرة ومدى غير منتهٍ.
وتغيب «سانتى» ويغيب كل شىء فى أعوام السجن الذى يدخله فتانا ورفاقه حين تتغلب عليهم مؤقتًا الحكومة الرجعية. لكن حين تتحول «سانتى» إلى ذكرى فى قلب الطبيب تنهال عليها السنوات.
هل تغيب حقًا؟ أو تظل ذلك المذاق من العسل الذى لا يلبث يواتيه رحيقًا خافتًا عذبًا يتحرك كل حين تحت لسانه؟ «.. كنت وأنا ماشى بجوار شوقى أحبها، وأنا أحيا تحت الأرض أراها وفوق الأرض أراها، وأراها وأنا أريد أن أراها وأراها وأنا لا أريد أن أراها. هى شوقى ومحفظته والمكان الذى كنا ذاهبين إليه والمجلة وفتحى سالم وخوفى وشجاعتى، ولولا أنى مدرك ومؤمن أننى سأراها ما كنت قد صحوت من النوم أو ذهبت للورشى، أو ضحكت أو حزنت أو احتملت وجودى على ظهر الدنيا لحظة واحدة..».







