الجزائرى محمد سارى: كثيرٌ من الكتّاب العرب وقع فى فخ الهيمنة الأيديولوجية فتحوّلت رواياتهم إلى خُطب سياسية

- تتويج الروايات التاريخية بالجوائز دليلٌ على تخلّى الرواية العربية عن الحاضر ولجوئها إلى الماضى
- الرواية الجزائرية رغم هيمنة الخطاب الأيديولوجى أرّخت للمجتمع فى مرحلة حرجة وحاسمة من تاريخه الحديث
- أزمة العشرية السوداء لم تأخذ حقها روائيًا بسبب تعقيدها.. وجميع الأطراف أسهم فى تأز يم الوضع
- العودة للتاريخ تنبع من رغبة مشتركة بين الكُتّاب والقراء فى التمييز بين الحقيقة والزيف
- يستطيع الروائى أن يتملّص من هيمنة الأيديولوجيا الفجّة إذا نجح فى استثمار أدوات السرد وشروطه
- أعترف بأننى استفدت كثيرًا من الترجمة وانفتاحى على الآداب العالمية فى تنويع أسلوبى الروائى
فى المشهد الأدبى الجزائرى والعربى، يبرز اسم محمد سارى باعتباره واحدًا من أبرز الأصوات الإبداعية والنقدية، فقد جمع الكاتب الجزائرى بين الكتابة الروائية والنقد الأدبى والترجمة، فى مسيرة امتدت لعقود من التجريب والتحليل، حتى صار اليوم من الأسماء المؤسسة لمشهد نقدى وروائى جزائرى معاصر يتكئ على مرجعيات معرفية متنوعة، وينفتح على القضايا السياسية والاجتماعية التى عصفت بالجزائر فى العقود الماضية.
فى مجال النقد، عمل سارى فى الجامعة الجزائرية، وأصدر العديد من الأعمال النقدية منها «محنة الكتابة»، و«فى معرفة النص الروائى: تحديدات نظرية وتطبيقات»، و«الأدب والمجتمع»، و«وقفات فى الفكر والأدب والنقد»، و«الرواية بين السرد، التاريخ، الأيديولوجيا والترجمة».
وفى موازاة جهده النظرى، لم يتوقف محمد سارى عن كتابة الرواية، فكتب أعمالًا تمزج بين السياسى والتاريخى، واهتم على نحو خاص بالكتابة عن العشرية السوداء فى تاريخ الجزائر. ومن أبرز أعماله الروائية «الورم»، و«الغيث»، و«القلاع المتآكلة»، و«حرب القبور»، و«جسدى المستباح»، وأيضًا «نيران وادى عيزر»، و«كعبة الشمال والزمن الخائب».
وإلى جانب التأليف، يُعد محمد سارى من أبرز المترجمين الجزائريين، إذ نقل إلى العربية أعمالًا مهمة لكتاب جزائريين يكتبون بالفرنسية مثل رشيد بوجدرة، ومليكة مقدّم، ومحمد ديب، وسليم باشى، وبوعلام صنصال، وأعمالًا أخرى لكُتاب فرنسيين.
يقف هذا الحوار مع الكاتب الجزائرى على أبرز محطات جهده النقدى والإبداعى، كما يتطرق إلى مناقشة رأيه فيما يخص علاقة الرواية العربية بالأيديولوجيا انطلاقًا من كتابه النقدى الأحدث بهذا الصدد.

■ انطلاقًا من كتابك النقدى الأحدث «الرواية بين السرد، التاريخ، الأيديولوجيا والترجمة»، إلى أى مدى يمكن القول إن الرواية العربية، بخلاف نظيرتها الغربية، ما زالت تحتفظ بعلاقة ملزمة بالأيديولوجيا؟ وهل يعود ذلك إلى السياق السياسى والاجتماعى العربى، وإلى كون الرواية العربية لا تزال تُكتب فى فضاء ثقافى يبحث عن خلاص جماعى؟
- الرواية العربية ومنذ نشأتها كانت مرتبطة أشد الارتباط بهموم المجتمع العربى حاضرًا وماضيًا. حاضرًا بروايات واقعية مثل رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحى، وماضيًا بالروايات التاريخية لجرجى زيدان والروايات الأولى لنجيب محفوظ، وكذلك كانت الروايات الجزائرية التى كتبت بالفرنسية فى العهد الاستعمارى؛ مولود فرعون ومحمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وآسيا جبار، فقد بيّنوا الوضع الاجتماعى المزرى للشعب الجزائرى تحت نير الاستعمار الفرنسى.
وفى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى حيث كانت المجتمعات العربية تتوق إلى التغيير الاجتماعى والرقى الثقافى تحت سُلَطات نهجت الاشتراكية باعتبارها وسيلة للخروج من التخلف بعد التخلص من الاستعمار والسُلَطات الملَكية، جربت الرواية العربية تيارات الواقعية بمختلف تنوعاتها لتُعرى الظلم الاجتماعى والقمع السياسى السائد فى المجتمعات العربية، ونمثّل برواية «شرق المتوسط» لعبدالرحمن منيف، وروايات حنا مينة، والروايات الواقعية لنجيب محفوظ إلى غاية الثلاثية. وقد ساعد الفكر اليسارى لكثير من الروائيين العرب مثل الطاهر وطار، وعبدالحميد بن هدوقة فى الجزائر، وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطانى فى مصر، وحنا مينة فى سوريا على سبيل المثال لا الحصر، إلى تبنى التنديد بالظلم الاجتماعى وقمع الحريات السياسية عمومًا. وكانت هذه الروايات تُغلّب الخطاب الأيديولوجى اليسارى على السرد الروائى، وأبرزت رؤية العالم المتمحورة حول مشروع اجتماعى اشتراكى عمومًا باعتبارها وسيلة للقضاء النهائى على الفقر والقفز بالمجتمعات العربية إلى الرقى والرفاهية. فكان الروائى آنذاك يعتبر نفسه مناضلًا سياسيًا مع كونه أديبًا يكتب روايات فنية ممزوجة بالخطاب السياسى والأيديولوجى.

■ إلى أى مدى تغيّر هذا النهج لاحقًا؟ وما السبب؟
- تخلى أغلب الروائيين عن النهج الواقعى بعد فشل هذه السياسات فى تطوير المجتمعات العربية بل وتدهور أوضاعها، ما أدى إلى خيبة أمل كبيرة فى أوساط الكتاب والمثقفين عمومًا، فلجأوا إلى كتابات غارقة فى الضبابية «جمال الغيطانى والطاهر وطار مثلًا»، تستعين بالتاريخ البعيد أو القريب. نجد أن أغلب الروايات المتوّجة بجوائز الرواية العربية تاريخية وهو أحسن مثال على هذا التخلى عن الحاضر واللجوء إلى الماضى. ويعود السبب إلى خيبة الأمل فى تحقيق المشاريع الاجتماعية والسياسية لفترة ما بعد الاستقلال الوطنى، وتراجع الحريات السياسية، وفقدان الكاتب العربى أمل التغيير فى الواقع، مع تراجع المقروئية؛ فلم تعد الرواية تستقطب القراء مثلما كانت قبل عصر الرقمنة، فضلًا عن ابتعاد عموم الجمهور عن القراءة وظهور عصر الصورة والقراءات السريعة السطحية، ما أوقع الرواية العربية فى مأزق حقيقى، سواء من حيث عدد النسخ المنشورة أو المتابعة النقدية الجادة لما يُنشر من روايات.

■ تناولتَ فى كتابك عددًا من الروايات الجزائرية منذ خمسينيات القرن الماضى.. فهل ترى أن الثيمات التى طورتها الرواية الجزائرية عبر العقود تحولت إلى قيد يعيد إنتاج الأسئلة نفسها ويحدّ من أفق التجريب؟
- لقد قال بعض النقاد الذين تناولوا الرواية الجزائرية فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى، سواء تلك المكتوبة بالفرنسية أو بالعربية، إنها رواية مقاومة حقيقية، ذلك أنها تأسّست فى مرحلة تاريخية وسياسية كانت فيها الجزائر قد بدأت فى معركتها الحاسمة والنهائية للتخلص من الاستعمار الفرنسى ومن التخلف عبر انتهاج الاشتراكية. لذلك نقول إن الروائى الجزائرى اعتبر نفسه مكملًا للنضال السياسى الوطنى، فراح ينتقى من المجتمع المشاهد ونماذج الشخصيات التى تُثمن هذا النضال وهذه المقاومة.
وبالفعل، نجد الثيمات المشتركة مثل التأكيد على الهوية الجزائرية المختلفة عن الهوية الفرنسية، والتأكيد على أن تحقيق هذه الهوية لن يكون إلا بالثورة على الاستعمار أولًا والتخلف والجهل ثانيًا. وبما أنه لا ثورة إلا بالعنف، فنجد العنف ظاهرًا فى جميع الروايات مثل «الدار الكبيرة» و«الحريق» لمحمد ديب، و«نجمة» لكاتب ياسين، و«اللاز» للطاهر وطار وغيرها من الروايات الجزائرية. إن هذه الروايات بالرغم مما يقال عن هيمنة الخطاب الأيديولوجى، قد أرّخت للمجتمع الجزائرى فى مرحلة حرجة وحاسمة من تاريخه الحديث.
■ ما تفسيرك للاهتمام السردى الراهن فى الرواية العربية بالتاريخ، سواء القديم أو الحديث، وهل تعتقد أن هذا التوجه يعكس تحولات فى الوعى الثقافى العربى أم أنه رد فعل على الواقع المعاصر؟
-إن عودة الرواية العربية إلى الموضوعات التاريخية فى المجتمع العربى تُعدّ ظاهرة عامة، ولها أسباب عدة. بعض هذه الأسباب موضوعى، ينبع من رغبة مشتركة بين الكُتّاب والقراء فى مساءلة التاريخ، ومحاولة الفرز بين حقيقة ما وصلنا من أحداث، وبين الزيف الذى طالها بفعل تأثير هيمنة الأيديولوجيات عبر المراحل التاريخية، تلك الهيمنة التى سعت إلى إخفاء الجرائم البشعة التى ارتكبتها سُلطات حاكمة فى فترات معينة باسم الدين والدولة، وباسم الحفاظ على تماسك وقيم المجتمع. لكن، هناك حقيقة أخرى جلية وعامة فى جميع المجتمعات العربية، تتمثل فى تراجع الحريات السياسية والفكرية، سواء بسبب ما تمارسه السلطة المهيمنة، أو ما تقوم به بعض الجماعات بدعوى الحفاظ على «قيم المجتمع العربى الإسلامى الخالدة»، فى محاولة لتقديمه خاليًا من جميع العيوب، حاضرًا وماضيًا.
تُفسّر هذه الأسباب عودة الرواية إلى التاريخ، كما فعل الروائى واسينى الأعرج، الذى تخلّى عن النهج الواقعى فى رواياته الأولى، وسافر فى رواياته الجديدة إلى عوالم الأمير عبدالقادر، ومى زيادة، وحيزية «قصة حب مأساوية جزائرية من نهاية القرن التاسع عشر». وكذلك فعل كتاب آخرون من المشرق العربى، مثل يوسف زيدان فى «عزازيل»، وبهاء طاهر فى «واحة الغروب»، وكثير من الروائيين العرب الذين نالت رواياتهم التاريخية جوائز مرموقة، من بينهم ربيع جابر عن «دروز بلجراد»، وعبدالوهاب عيساوى عن «الديوان الإسبرطى»؛ الحاصلتين على جائزة البوكر العربية.
ويبقى السؤال مطروحًا: ماذا قدّم الروائى العربى للحاضر وللتاريخ من خلال هذا السفر عبر القرون؟ هل عالج مسائل حاضرة عبر ربطها بأخواتها فى مراحل تاريخية معينة، من خلال مقارنات ومقاربات، وإن كانت رمزية أو تلميحية؟ هل أدخل جديدًا أو صحح فى أحداث مرحلة تاريخية زُوّرت، فأعاد إليها صوابها؟ كما فعلت الكاتبة الجزائرية آسيا جبار فى روايتها «بعيدًا عن المدينة»، حيث عادت إلى وضعية المرأة فى العهد الإسلامى الأول، وأبرزت شخصيات نسائية مثل فاطمة الزهراء «زوجة على بن أبى طالب وابنة الرسول»، فى فترةٍ كان فيها الخطاب الإسلاموى المتطرف فى الجزائر يُنادى بعودة المرأة إلى البيت، ومغادرتها ساحة العمل. بيّنت الرواية أن المرأة فى العهد الإسلامى الأول كانت فاعلة فى الحياة السياسية والاجتماعية، بل والاقتصادية أيضًا. إنها أسئلة تحتاج إلى دراسات معمّقة، ومقاربات مدققة، تربط بين عوالم الرواية والأحداث التاريخية المتلاصقة معها.

■ كيف يمكن للكاتب أن يوازن برأيك بين الرسالة السياسية أو الفكرية التى يسعى لإيصالها وبين متعة السرد الأدبى.. وما الخط الفاصل بين الحكاية الإبداعية والخطاب الأيديولوجى؟
- لا تخلو رواية من البُعد الأيديولوجى، لأن الرواية فى جوهرها تُعبّر عن رؤية للعالم، تمثل المجموعة الاجتماعية التى ينتمى إليها الكاتب، سواء أكان ذلك بشكل صريح أو ضمنى. غير أن الاختلاف يكمن فى كيفية تناول هذه الأفكار وهذه الأيديولوجيات.
الرواية تقوم على مسارات فردية، وشخصيات تعيش ظروفًا وأحداثًا معينة، وتملك مشروعًا سرديًا تسعى إلى إيصالِه إلى نهايته. وهى حرة فى استخدام جميع الخطابات الممكنة، الأدبية منها وغير الأدبية، بشرط أن تخضع هذه الخطابات كلّها للخطاب السردى، وأن تذوب فى الأساليب النثرية المعتمدة على أفعال القص والوصف والحوار. فلا يجوز أن تندرج تلك الخطابات بوصفها خامات يمكن فرزها أو فصلها عن السرد القصصى، الذى يقوم جوهريًا على الفردانية، ويبتعد عن التعميم والخطاب الجمعى. فالفلسفة هى التى تتحدث عن العام، أما الرواية، فيأتى خطابها دومًا ملتصقًا بفرد محدد، وبكيفية عيشه لحياته من خلال علاقته مع الآخرين، سواء أكانوا مؤيدين لمشروعه أم معارضين له عبر أحداث أخرى.
ومن هنا، يتتبع القارئ مسار شخصية معينة، بما تحمله من رؤية مجتمعية وفكرية تعبّر عنها فى تعارض مع شخصيات أخرى. وأفضل مثال على ذلك نجده فى رواية «الإخوة كرامازوف» لدوستويفسكى، أو «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ.
فإذا نجح الروائى فى استثمار أدوات السرد وشروطه، فإنه يستطيع أن يتملّص من هيمنة الأيديولوجيا الفجّة، كما تُعبّر عنها عادةً الكتب الفلسفية والفكرية والاجتماعية. وهذا هو الشرط الأساس للحفاظ على خصوصية وجنس الخطاب السردى الروائى. لكن، للأسف، وقع كثير من الكتّاب العرب فى فخ هذه الهيمنة الأيديولوجية، فجاءت رواياتهم أقرب إلى خطابات سياسية أو أيديولوجية، منها إلى الخطاب الروائى الأصيل. ويمكن الإشارة إلى بعض أعمال الطاهر وطار، وحنا مينة، كمثال على هذا الاتجاه.

■ فى أكثر من عمل روائى لك.. تعرضت للعشرية السوداء فى الجزائر.. وكذلك تناولت بالنقد أعمالًا روائية جزائرية تطرقت إلى هذا الموضوع.. ما الذى تراه مفقودًا أو لم يتم تناوله بشكل كافٍ فى الأعمال السابقة حول الموضوع؟ وكيف تسعى لسد هذه الثغرات فى رواياتك ؟
- إن الأزمة السياسية والمجتمعية التى مرّت بها الجزائر فى العشرية الأخيرة من القرن العشرين والمعروفة تحت مُسمّى «العشرية السوداء» لا ينبغى أن تمر دون الكشف عن أسبابها وأحداثها الدامية ومآلاتها، تلك الأزمة التى كادت تعصف بالدولة والمجتمع الجزائريين. وعلينا نحن الكتاب الذين عايشناها قبل وأثناء وبعد وقوعها أن نتحدث عنها ونكشف خباياها كى لا تقع الجزائر ومعها الدول العربية فى أزمة أخرى مماثلة لتشابه الأوضاع السياسية والثقافية والفكرية. صحيح أن الكثير كُتِب عنها سواء من زاوية تاريخية وفكرية وسياسية، إلا أن الرواية هى التى ستقدّم هذه الفترة فى بعدها الإنسانى والتى تؤثر حتمًا فى قرائها.
لقد عشت هذه الفترة بكل عنفوانها، فشاهدت كيف تحولت الجزائر من بلد يعج بالمشاريع الجيدة لتنميته فى الخمس وعشرين سنة، التى تلت الاستقلال، إلى فوضى عارمة وفقر ويأس ثم إلى حرب أخوية أتَت على الأخضر قبل اليابس، ورأيت خير الرجال والنساء من عموم الشعب ومن الكتاب والمفكرين والمثقفين والإعلاميين يُغتالون فى عمليات إرهابية بشعة، وكنت أنا نفسى محل تهديد بسبب كتاباتى المنددة بالعنف الدموى، فكيف أترك هذه الفترة تمر دون الكتابة عنها، أولًا لفهمها ولتنوير الرأى العام بخلفياتها ومسبباتها كى يعمل كل فرد لتجنبها مستقبلًا.
الأزمة معقدة، ولها أبعاد سياسية واقتصادية وتاريخية وطبيعية مؤصلة فى تاريخ الاضطرابات السياسية والاجتماعية فى تاريخ الجزائر الطويل الملىء بالصراعات والتمرّدات. ثم إن الدولة الجزائرية الحديثة التى قامت مع ثورة التحرير بدأت تتشكل وفق معطيات جديدة، وكان الشعب الجزائرى يأمل فى أن تكون الجزائر «يابان إفريقيا» فى أواخر القرن العشرين، فكيف انهارت كل تلك المشاريع والأحلام على يد الجزائريين أنفسهم.
لهذه الأسباب كلها كتبت سبع روايات عن تلك الفترة ابتداء من «الغيث»، حيث حاولت تشريح المسببات المؤدية إلى الأزمة، مرورًا بـ«الورم» و«القلاع المتآكلة» و«حرب القبور» و«جسدى المستباح» إلى «حصاد الرمال»، حيث عالجت مرحلة ما بعد المصالحة الوطنية وفترة العودة شيئًا فشيئًا إلى السلم المدنى وانتعاش الحياة من جديد، استثمرت فيها كل معارفى وتجربتى وقراءاتى ومعايشتى للأحداث، إذ لم أغادر الجزائر طوال تلك الفترة مثلما فعل الكثير من الكتاب والمثقفين بل بقيت أشاهد وأسمع وأقرأ وأكتب وأشارك فى لقاءات أدبية وثقافية فى العاصمة وفى مدن داخلية كثيرة، بل وحتى فى ملتقيات خارج الجزائر. كل هذا لأقدم شهادتى عن تلك الأزمة الخانقة.
ولا أظن أن هذه الأزمة أخذت حقها من الدراسة والكتابة الروائية لعمق تعقيدها وتعدد أطراف الصراع المتناحرة، والاتهامات التى يكيلها كل طرف للطرف الآخر، وبرأيى أن جميع الأطراف متسببة فى اشتداد تأزُم الوضع سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا وإن بدرجات متفاوتة، ومما زاد الطين بلّة طبيعة الإنسان الجزائرى والجغرافيا بتضاريسها المساعدة جدًا لحركات التمرّد العنيف بجبالها الشامخة التى تحيط الجزائر العاصمة وكثيرًا من المدن الداخلية الأخرى. وقد تسمح الفترة الزمنية والسنوات التى تفصلنا الآن عن تلك العشرية بالعودة إليها بتروٍ ودون تشنج وإعمال العاطفة والمصالح الآنية ومساعدة الظروف السياسية العالمية خاصة فى مفهوم ما يسمى بـ«الدولة أو الخلافة الإسلامية» والإرهاب والمقاومة وكثير من المصطلحات التى سادت وما زالت تسود فى ثقافتنا الحالية.
أما فيما يخصنى فأرى بأننى قدمت ما به الكفاية لمعالجة هذه الأزمة، لذلك انتقلت فى روايتىّ الأخيرتين «نيران وادى عيزر»، و«كعبة الشمال والزمن الخائب» إلى موضوعين مختلفين تمامًا سواء من حيث الفترة الزمنية أو الثيمة المعالجة وحتى المكان.

■ تُسلط فى «جسدى المستباح» الضوء على معاناة المرأة الجزائرية فى مرحلة من العنف الأيديولوجى.. فكيف ترى دور الأدب فى تناول قضايا الجنس والسلطة؟ وهل يُمكن اعتبار الرواية أداة مقاومة لا فقط لتوثيق المأساة؟
- تندرج رواية «جسدى المستباح» ضمن مشروع تلك العشرية المأساوية، من زاوية تناول وضع المرأة والعنف الممارس ضدها. ومن المعروف أن العنف ضد المرأة ظاهرة متجذرة فى المجتمعات العربية، مشرقًا ومغربًا، ولا يرتبط بالضرورة بالأزمة التى نحن بصدد الحديث عنها. غير أن عناصر هذا العنف الاجتماعى والعائلى الممارس ضد المرأة، بشكل عام، اندمجت وتفاعلت مع هذه الأزمة، حيث استغلّت الجماعات الإرهابية، أو ما يُعرف بالجماعات الإسلامية المسلحة، السياق المتأزم، لاختطاف النساء، معتبرة إياهنّ سبايا حرب، وتحت مسمى «نكاح الجهاد» مارست أشكالًا همجية من العنف الجنسى ضد نساء مسلمات، اختُطفن من بيوتهن، أو من أماكن عملهن، أو من وسائل النقل العمومى فى الطرقات.
فى هذا السياق، تتداخل الثقافة الموروثة من عصور بائدة مع الموقف التحقيرى من المرأة، التى لا تصلح، فى أفقهم الضيّق ووعيهم المشوش والفاسد، سوى لإشباع الغرائز الجنسية. فأوجدت هذه الجماعات، التى تشكّلت غالبًا من شبان محدودى الثقافة، فجوة دينية شرعنوا عبرها هذا الفعل وأفتوا بجواز «نكاح الجهاد».
هذا هو الموضوع الذى تناولته الرواية، من خلال مشاهد مأساوية ووحشية، استُقيت من شهادات نساء اختُطفن وعشن فى مغارات وسط الجبال والأحراش، عرضةً لعنف الاغتصاب الجماعى اليومى، وعاد كثير منهن حوامل، لا يعرفن من هو الأب الحقيقى للجنين. ومع ذلك، بقيت هذه الظاهرة من التابوهات التى لا يرغب المجتمع فى الكشف عنها، رافضًا مواجهة هذا الوجه البشع للجماعات المسلحة التى تُسمى نفسها «إسلامية»، والتى مارست أفعالًا وحشية باسم الدين، ففقد أفرادها إنسانيتهم، وحرّفوا جوهر الإسلام الجزائرى، الذى عاش أبناؤه فى كنفه لقرون بوئام اجتماعى وفكرى وروحى منسجم، محافظين على هويتهم، ليُقابَل هذا الإرث بالقتل الوحشى واغتصاب المختطفات/السبايا، وكأننا أمام مشاهد من عصور التوحّش الغابرة.
وعمومًا، تظل مثل هذه الموضوعات من المسكوت عنه، كما حدث فى قضية اغتصاب العساكر الفرنسيين للجزائريات أثناء حرب التحرير. فكثير من النساء اللواتى تعرضن للاغتصاب كتمْن السرّ درءًا للفضيحة، رغم أنهنّ كنّ ضحايا للاستعمار الهمجى. ولم تخرج هذه الظواهر إلى العلن إلا بعد أكثر من عشرين عامًا على الاستقلال، بفضل شجاعة المجاهدة البطلة لويزة إغيل أحريز، التى ندّدت بتعرضها للاغتصاب على يد جنود فرنسيين، ووصلت قضيتها إلى المحاكم الفرنسية التى أقرّت رسميًا بظاهرة اغتصاب العساكر الفرنسيين لنساء جزائريات، وأعادت الاعتبار الرمزى للمرأة الشجاعة وللكثير من مثيلاتها.

■ يأتى السرد فى رواية «جسدى المستباح» على لسان فتاة مراهقة.. فكيف تعاملت مع التحدى النفسى واللغوى لتجسيد صوت أنثى فى مقتبل العمر؟.. وهل أردت أن تكون الشخصية رمزًا لحالة الجزائر خلال العشرية السوداء؟
- كان التحدى الفنى فى البداية بالغ الصعوبة: كيف لرجل أن يتحدث عن العنف الواقع على المرأة، وأن يرويه من منظورها، وبصوتها؟ كانت الخطوات الأولى مرتبكة ومشحونة بالقلق، لكن مع التوغل فى الكتابة والدخول تدريجيًا فى أعماق نفسية البطلة، بدأت تتشكل لدىّ مجموعة من الآليات لفهم تجربتها. قرأت كثيرًا عن نفسية الفتاة المراهقة، عن هشاشتها فى مواجهة العالم، وكيف تتلقى تهديدات الخارج بعقلية بريئة، ثم تكتشف تدريجيًا تغير الأوضاع ووحشية الآخر؛ بدءًا من زوج أمها، ثم فى خذلان وجبن ذلك الذى أحبّته، وأخيرًا فى همجية أولئك الذين تداولوا اغتصابها.
كان هدفى أن تُروى هذه التجربة القاسية على لسان الفتاة نفسها، الضحية، وأن تُكشف مواقفها ونفسيتها إزاء التحولات المؤلمة التى عايشتها. ولم أكتفِ ببناء شخصية رئيسية واحدة، بل حرصت على إدخال شخصيات نسائية أخرى، تختلف فى خلفياتها الاجتماعية والثقافية، لتجسد وجوهًا متعدّدة للعنف: من العنف العائلى إلى عنف الاغتصاب الجهادى. ذلك لأننى، كما هو دأبى فى أعمالى السابقة، مثل «الورم»، و«الغيث»، و«حرب القبور»، أؤمن بأن نموذجًا واحدًا لا يكفى أبدًا لمقاربة أو تفسير ظاهرة اجتماعية أو نفسية معقدة.
فكل ظاهرة تنطوى على تشابك وتجاذب، ولا يمكن الإحاطة بها دون استحضار تعددية المواقف واختلاف ردود الأفعال تجاه الحدث الواحد. وقد ساعدتنى دراستى للظواهر الاجتماعية، إلى جانب قراءاتى المتنوعة فى الرواية العالمية، على تبنى هذا التنوع فى الرؤى، والابتعاد عن التفسير التبسيطى للظواهر النفسية والاجتماعية.

■ كيف تؤثر ثنائية الروائى والناقد على مشروعك الأدبى.. هل تجد أن النقد يعزز من قدرتك على السرد أم أنه يُحد من التدفق الإبداعى؟
- على امتداد سنوات طويلة، اشتغلت أستاذًا لنظرية الأدب، ونظرية الرواية، والمناهج النقدية الحديثة، من البنيوية التكوينية والشكلية، إلى السيميائية وتحليل الخطاب، وغيرها من المناهج المعتمدة فى الجامعة الجزائرية. وخلال هذه المسيرة، كتبت كثيرًا فى مجال النقد الأدبى، وأصدرت سبعة كتب فى هذا الحقل، ما أتاح لى فرصة نادرة لرسم الحدود الدقيقة بين الإبداع والنقد.
لقد بدا لى، من خلال هذه التجربة، أن النقد بطبيعته مقيّد، فهو مشدود إلى نظريات سابقة، تبدأ منذ أرسطو فى «فن الشعر»، وتمرّ بالخليل بن أحمد فى «نظرية الأوزان»، لتمنح المبدع ظاهريًا مفاتيح التقنية وأدوات السيطرة على النص. لكن هذا الوهم سرعان ما يتهاوى حين نعى أن أغلب هذه النظريات هى، فى جوهرها، استقراء لاحق لنصوص كتبت دون أن تستند إلى مرجع نقدى أو تنظيرى مسبق، بل ولدت من فطرة الخيال والتجربة الحرة.
وقد وجدت صدى لهذا الفهم فى ما كتبته مارت روبير فى «رواية الأصول وأصول الرواية»، حين تؤكد أن أولى ميزات الرواية وربما سر قوتها أنها تستثمر كل الخطابات، الأدبية وغير الأدبية، بلا قيد أو شرط، وتنفتح على الواقع الإنسانى بانفلات كامل من التحديد. هناك، فى هذه الحرية المزدوجة، يكمن جوهر الإبداع. ومن هنا، أدركتُ أن الكتابة الروائية، وإن استأنست بالمكتسبات النقدية، إلا أنها لا تخضع لها، بل تتجاوزها، تنحرف عنها، وتعيد تشكيلها.
حين نقرأ كبار الروائيين الذين أحدثوا ثورات فى شكل الرواية ومعناها؛ من دستويفسكى، وجيمس جويس، وبروست، وفولكنر، إلى ماركيز، لا نجد فى سيرهم ما يشير إلى خضوعهم للمؤسسات الأكاديمية أو امتثالهم لأى مدرسة نقدية. كذلك هو حال نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف، ومن الجزائر: كاتب ياسين والطاهر وطار وبن هدوقة. لم يكن أحدهم أستاذًا للنظرية، بل تأملوا الواقع وقرأوا الروايات العالمية واستوحوا منها الأساليب وطرق السرد والوصف.
من هنا، وعيت مبكرًا أن الرواية وإن كانت تستفيد من المعلومات النقدية إلا أنها لا تخضع لها، وعلى المبدع أثناء الكتابة أن يطلق العنان لخياله ولموهبته ولتداعيات الكتابة الحرة ولا يتقيد بالضرورة بطريقة نقدية مهما كانت صارمة، مثل تقنية الرواية البوليسية التى تكرر شكلًا مكتملًا وتكرره فى جميع النصوص إلى حدّ التشابه الكلى بينها، كأنها كلها مستمدة من روايات أجاثا كريستى. بالتأكيد يحتاج كاتب الرواية إلى الإحاطة بالتقنيات الأساسية لكن مع الوعى بأن هذه التقنيات ليست أسرًا ليدور فى فلكها، فعليه أن يترك دائمًا هامشًا وإن كان ضئيلًا ليُبحر فى عالم مجهول، ليست له قواعد ولم يسبقه إليه أحد من الروائيين.

■ كيف تؤثر الثنائية اللغوية على نبرة السرد أو اختياراتك الأسلوبية فى أعمالك الروائية؟
- إنّ تنوّع اللغات ثراء لا يُقدّر بثمن، إذ يمنح الكاتب رؤى متعددة ويفتح أمامه آفاقًا واسعة من الأساليب والتقنيات السردية. ومن خلال قراءتى بالفرنسية، اطلعت على كنوز الرواية العالمية المترجمة من لغات مختلفة: الإنجليزية، الروسية، الألمانية، اليابانية، الإسبانية، وغيرها من اللغات التى أنجبت أدباء تركوا بصماتهم العميقة فى الأدب الإنسانى. لقد نهلت كثيرًا من نصوص هؤلاء، واستعنت بتجاربهم لإغناء مشروعى الروائى.
من الروايات الواقعية للقرن التاسع عشر، إلى أعمال وليام فولكنر فى الرواية الأمريكية، وجدت دروسًا مضيئة فى فن الوصف، وتأثيث الأماكن، وبناء الشخصيات من الداخل والخارج. أما الرواية الأمريكية اللاتينية، فقد ألهمتنى بكيفية إدماج البعد السحرى والفانتازى داخل السياق الواقعى، وأثّرت فىَّ خصوصًا فى طريقة معالجتها لثيمات الاستبداد السياسى. كما أن روايات بروست وفولكنر قدّمت لى دروسًا فى التحكم بالجملة السردية والوصفية، وفى التكنيك الأسلوبى الدقيق، كالمراوغة والتلميح، والانتقال السلس بين الفصول، وتعدد وجهات النظر، ورواية «حرب نهاية العالم» لماريو فارغاس يوسا مثال ساطع على هذا التناوب السردى المعقد، وعلى الغنى الذى يمكن أن تمنحه الرواية حين تتعدّد الأصوات وتتناحر.
أعترف بأننى استفدت كثيرًا من هذه القراءات فى تنويع أسلوبى الروائى، سواء عبر الانفتاح على هذه الآداب أو من خلال تجربتى الطويلة فى الترجمة، إذ أنجزت أكثر من ثلاثين ترجمة لروايات كتبها كبار الأدباء الجزائريين بالفرنسية، مثل محمد ديب «ثمانى روايات»، ومالك حداد، وياسمينة خضرا «أربع روايات»، وآسيا جبار، إلى جانب بعض الكتّاب الفرنسيين أمثال كلود سيمون، وسانت إكزوبيرى، ولوكليزيو. كانت الترجمة، بالنسبة لى، مدرسة ثانية لفهم البنية العميقة للنص، والوقوف على أسراره الدقيقة من الداخل، وهو ما أسهم فى إثراء تجربتى الكتابية.
■ هل هناك أعمال جديدة تجهز لها حاليًا أو مشاريع روائية تود أن تطلقها فى المستقبل القريب؟
- أشتغل فى موضوعين متباينين. الأول موضوع تاريخى يُعيدنى إلى فترة المملكة الموريتانية التى ظهرت مع يوبا الأول والثانى فى بداية التاريخ الميلادى، وعاصمتها القيصرية، وهى مدينة شرشال مسقط رأسى. وقد تتبعتُ خاصةً مصير يوبا الثانى وكليوباترا سلينى، وهما طفلان أُسِرَا فى روما، وكيف التقيا وتحابّا وتزوجا ثم استقرّا فى مدينة القيصرية، وكيف بنى يوبا الثانى ضريحًا على شكل هرم لا يزال قائمًا شامخًا إلى يومنا هذا، تيمّنًا بحبه لابنة ملكة مصر الفرعونية كليوباترا المشهورة فى التاريخ. إنّ مأساة موت كليوباترا ويوبا الأول تحمل رمزية كبيرة لرفض الأسر والإهانة، وكذلك حياة يوبا الثانى وزوجته كليوباترا سلينى موضوع استهوانى، وأردت أن أكتب قصة حبهما.
أما الموضوع الثانى فيتعلق برواية لا زمان لها ولا جغرافيا معلومة، معقدة الموضوع ومتشعبة الشخصيات، ولم تتحدد معالمها الكلية برغم تسويد أكثر من مائة صفحة. إنها مغامرة سردية جديدة بالنسبة لى، وأتتبعها ببطء السلحفاة، لعلها تنتج شيئًا مختلفًا عن كتاباتى السابقة.