الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

السيد الأسود: التفكير الدينى فى مصر يتسيد ويستوعب الأفكار الأخرى

السيد الأسود
السيد الأسود

- «المقدس» أو «القداسة» تظل فى صدارة الأولويات وفقًا لرؤى العالم الدينية لدى المصريين

- الحكايات عند المصريين نوافذ تكشف عن أنماط تفكير لا يفهمها كثيرون.. والصبر عنصر أساسى فى بناء الشخصية المصرية 

- بعض الدراسات الأجنبية حول المجتمعات العربية تتسم بالتحيز وسوء الفهم بسبب اللغة والأجندات الأيديولوجية

- يتمسك الجهاديون الإسلاميون المتشددون برؤية ضيقة ومتطرفة يحاولون فرضها على بقية الدول الإسلامية بما فيها المجتمع المصرى

- الحداثة الشعبية لا تُنكر أو تهمش الدين أو المقدس كما تفعل الحداثة الغربية

- الإنسان المصرى لا يزال يؤمن ويردد المأثور «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا»

-التراث الشعبى بحاجة إلى تحليل دقيق بعيدًا عن الوصف الجامد والاستخدام الاحتفالى

منذ عقود طويلة، انطلقت رحلة الباحث المصرى السيد الأسود فى ميدان علمى ظل طويلًا على هامش الاهتمام الأكاديمى العربى؛ الأنثروبولوجيا، التى تتطلع إلى فهم الإنسان من خلال تفاصيل حياته اليومية، وإيمانه، وحكمته الشعبية، ولغته الرمزية البسيطة. فبينما تركز العديد من الدراسات الأكاديمية على البحث فى الظواهر السياسية أو الاقتصادية، تمنح الأنثروبولوجيا نافذة خاصة على البعد الإنسانى الذى يميز الفرد فى حياته اليومية.

فى هذا السياق، يُعدّ كتابه المرجعى «الدين والتصور الشعبى للكون: سيناريو الظاهر والباطن فى المجتمع القروى المصرى»، الذى نُشر عام 1986 بعد سنوات من البحث الميدانى فى إحدى قرى الريف المصرى، علامة فارقة فى دراسة الرؤية الكونية لدى الإنسان المصرى البسيط. من خلاله، ركز على الواقع المعيش باستخدام منهج الأنثروبولوجيا الرمزية التأويلية، الذى يسعى للكشف عن المعنى كما يراه الناس ويعيشونه فى واقعهم الملموس.

منذ ذلك الحين، توالت أعماله المنشورة باللغة الإنجليزية، مقدمة أفكارًا جديدة حول العلاقة بين الإيمان الشعبى والتصورات الكونية. وأحدث هذه الأعمال هو كتابه الجديد «الدين والعالم غير المرئى»، الذى من المنتظر أن يصدر فى نهاية هذا العام بالإنجليزية، وفيه يواصل استكشاف تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية على فهم الناس للعالم من حولهم.

ينطلق هذا الحوار مع الباحث المصرى المقيم فى الولايات المتحدة من هذا المشروع البحثى الذى استمر لعقود، لمناقشة كيف يمكن تقديم فهم مغاير للعالم لا من خلال سرديات النخبة وأفكارها الجامدة، بل من خلال الإنسان العادى، الذى يصوغ حكمته وتصوراته من تفاصيل الحياة اليومية، ويبنى صورته عن الكون من خلال ممارسات صغيرة لكنها غنية بالمعنى.

من ثم، يتيح لنا الحوار فرصة لمناقشة عدد من الأسئلة الجوهرية: كيف يرى السيد الأسود العلاقة بين «الحداثة الشعبية» كما حللها، وسرديات «الحداثة الغربية» التى تهيمن على الفكر المعاصر؟ كيف أثرت التحولات الاجتماعية العميقة مثل العولمة والهجرة وتراجع البنى القيمية على التصورات الشعبية للأشخاص؟ وكيف يعيد الناس تشكيل معنى حياتهم بناءً على تجاربهم اليومية واستجابتهم للعالم المحيط؟

■ بدايةً، كيف تبلور ثم تطور اهتمامك بمجال الأنثروبولوجيا خاصة فيما يتعلق بالعالم العربى؟ 

- بدأ اهتمامى بمجال الأنثروبولوجيا «علم الإنسان» فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، إذ انخرطت فى الدراسات العليا بقسم الأنثروبولوجيا الذى أُنشئ حديثًا فى ذلك الوقت بجامعة الإسكندرية. ثم بعد ذلك حصولى على الدكتوراه فى تخصص الأنثروبولوجيا من جامعة ميشيجان «آن آربور» بالولايات المتحدة. وكانت أطروحة الدكتوراه هى«أنماط التفكير: دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم فى المجتمع القروى المصرى». 

كان الاهتمام إذن منصبًا على أنماط التفكير والسلوك الشعبى السائد والمتجذر فى عمق المجتمع القروى المصرى. فيما بعد أُتيحت لى الفرصة أن أقوم بدراسات أنثروبولوجية بالولايات المتحدة «فى مدينة ديربورن بولاية ميشيجان التى تضم عددًا كبيرًا من العرب والمسلمين غير العرب»، والإمارات، والبحرين. وهذه الدراسات منشورة فى كتب ودوريات أكاديمية، لكن ما زلت أرى أن الإنسان المصرى بعامة، والقروى بخاصة يعشق الكلمات والحكايات وما يصاحبها من سلوك والتى هى فى الواقع «نوافذ» تكشف عن أنماط تفكير «متميزة»، تُميزه فى نفس الوقت عن الكثيرين ممن يجدون صعوبة أو مشكلة فى فهمه. 

■ ما التحديات برأيك التى تواجه باحثى الأنثروبولوجيا عندما يتعلق الأمر بدراسة المجتمعات العربية مقارنة بدراسة المجتمعات الأخرى؟

- ثمة تحديات كثيرة، فباعتباره علمًا حديثًا، يجد معظم الناس صعوبة فى فهمه، ويظهر ذلك على المستويين الشعبى والرسمى. وهذا بالطبع يؤثر على خطط البحث ومناهجه، خاصة فى مجال الدراسة الميدانية- الحقلية «الإثنوجرافية» التى هى المرتكز الأساس لهذا العلم. وبالطبع مثل هذه الدراسات الميدانية «الحساسة» لا تجد صدرًا متسعًا لمن يصدرون «تصاريح الأمن» للسماح للباحثين بالدراسة الميدانية إلا بعد مشقة ووقت طويل. 

مشكلة أخرى تتعلق بالباحث «الأصيل» والباحث «الدخيل». على الرغم من أن ليس كل باحث «دخيل» يمكن أن يُوصف بالتحيز، هناك أبحاث حول بعض المجتمعات العربية «ومنها مصر» أنجزها بعض الباحثين الأجانب يمكن وصفها بالتحيز أو سوء الفهم الناجم عن مشاكل فى معرفة اللغة المحلية أو نتيجة أجندة «أيديولوجية» معينة، وخاصة من قِبل «العملاء». 

■ مرّ ما يقرب من عقدين على إصدار كتابك المترجم إلى العربية «الدين والتصور الشعبى للكون»، فيما سيُنشر لك بالإنجليزية بنهاية العام الجارى كتاب بعنوان «الدين والعالم غير المرئى». فما هى أبرز التغيرات التى طرأت على رؤيتك للدين فى المجتمعات العربية بشكل عام، والمجتمع المصرى بشكل خاص، خلال هذه الفترة؟ 

- لقد نالت أفكار وتصورات المصريين، والعرب عمومًا، عن ذواتهم والعالم المحيط بهم اهتمامًا أقل من ذلك الذى حظيت به أنشطتهم الاقتصادية والسياسية والديموغرافية من قِبل الباحثين.

الكتاب المترجم «الدين والتصور الشعبى للكون...» يستند إلى الدراسات الإثنوجرافية والإثنولوجية «الثقافية» المقارنة للتصورات الشعبية ورؤى العالم مع التركيز على «الدين» كما يفهمه الإنسان المصرى القروى أو الشعبى «أصل البلد». كانت النتيجة فيضًا من التصورات «الكونية» و«المكانية» و«الزمانية» والرمزية وغيرها والتى تستلهم معناها من المخزون الدينى العميق وعلاقته بعالم «الغيب» غير المرئى والعالم المرئى. 

إن العلاقة بين الأنماط الدينية وغير الدينية من التفكير هى علاقة تقابل واحتواء معًا، بمعنى أن التفكير الدينى يقابل التفكير غير الدينى، سواء أكان تجريبيًا «علميًا» أو علمانيًا أو سحريًا، ويحتوى عليه فى الوقت نفسه طالما قُيّم التفكير الدينى بواسطة المؤمنين «المصريين» على أنه الأفضل لارتباطه بالمقدس والعالم الآخر والحساب والعقاب. لا شك أن للاقتصاد والسياسة أهميتهما، لكن «المقدس» أو «القداسة» تظل فى صدارة الأولويات، وفقًا لرؤى العالم الدينية لدى المصريين.

هناك تغيرات كثيرة فى العالم العربى تقف وراءها عوامل خارجية وداخلية، لكن يظل الدين أو التفكير الدينى هو المهيمن، حيث يحوى فى طياته سمات وقيمًا روحية سامية وحية وفاعلة تعلو على أى نمط فكرى آخر. 

■ فى سياق كتابك المنتظر نشره «الدين والعالم غير المرئى: القداسة والتحول الروحى فى مصر من العصور الفرعونية إلى الحاضر»، كيف ترى تأثير التغيرات السياسية والاجتماعية على هذه المعتقدات الدينية فى مصر؟

- إن أهمية تصور المقدس أو القداسة والعالم غير المنظور اقتضت الاهتمام بالبعدين التاريخى والأنثروبولوجى مع التركيز على الحالة المصرية، بوصفها «مهد التوحيد ومنبع فكرة خلود الروح» كما تؤكد أبحاث علم الآثار المصرية «المصريات». لقد لعبت الممارسات المتعلقة بالمقدس والعالم غير المرئى والتصورات الكونية المرتبطة بها دورًا أساسيًا فى التحولات الروحية فى مصر التى تجسدت فى ديانات متعاقبة مثل الديانة الفرعونية القديمة «بأشكالها ومراحلها المختلفة»، والديانة الهلنيستية بمصر «خليط من المعتقدات المصرية واليونانية والرومانية»، والمسيحية، والإسلام، وكيف أن هذه الممارسات الروحانية والتصورات الكونية تقاطعت مع العديد من الانقسامات العرقية والاجتماعية والسياسية والجغرافية واللغة.

■ فى كتاب «الدين والتصور الشعبى للكون» كنت قد وجهت نقدًا للعلماء والدارسين العرب الذين تغلب على كتاباتهم الطابع الاحتفالى غير النقدى فى تناولهم لعناصر التراث الشعبى.. فهل ترى أن نقدك ما زال قائمًا أم أن ثمة جهودًا حديثة نجحت فى الإفادة من التراث الشعبى فى فهم المجتمعات العربية؟

- هناك مجهود جيد من قِبل العلماء والدارسين العرب فى جمع وتوثيق «التراث الشعبى» الذى هو بالتعريف «مجهول المؤلف». المشكلة ليست فى «التراث الشعبى» أو فى عناصره المتعددة «المعتقدات، الأدب، الأداء، الفنون المادية»، بل فى غياب التحليل الدقيق الذى يكشف عن المعانى المتضمنة فيه بعيدًا عن الوصف الجامد أو توظيفه فى شكل «أرشيف» أو استخدامه فى مناسبات ذات طابع احتفالى. هناك مشكلة أخرى تتمثل فى الاستخدام غير المناسب للمصطلح المُعَرّب «فولكلور» بدلًا من «التراث الشعبى»، مصطلح «فولكلور» الأجنبى يتكون من شقين «فولك» الذى يعنى «شعب» و«لور» الذى يعنى «علم» ورغم ذلك نجد أن بعض الكتب العربية التى تُدرس فى الجامعات تحمل عنوان «علم الفولكلور»، وهو ما يعكس قصورًا فى الترجمة مما يؤدى إلى خلط كبير فى البحث الأكاديمى، كما نجد أن الاستخدام الشائع لمصطلح «فولكلور» يوحى بالجانب الاحتفالى مثل «فولكلور شعبى» على عكس مصطلح «التراث الشعبى» الذى يشير إلى عملية تداول وانتقال المعارف والمعتقدات الشعبية من جيل إلى آخر سواء شفهيًا أو عن طريق المحاكاة، وهو ما يسبب لبسًا فى الأبحاث الأكاديمية ويقلل من دقة المصطلحات المستخدمة فى هذا السياق.

قد يقول قائل إن عالم الأفكار والتصورات الشعبية لا يمكنها أن تخبرنا بأى شىء عن كيفية التعامل مع الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المادية. لكن هذا الرأى مبنى على سوء تقدير كامل للأبعاد الحقيقية للحياة، وعلى سوء الفهم بشأن النتائج الروحية والنفسية لمثل هذه التصورات الشعبية وتأثيرها ليس فقط على الفرد، بل أيضًا على المجتمع. 

■ فى الكتاب تحدثت عن رؤية كونية شاملة لدى الفلاحين المصريين حافظ عليها كل من رجال الدين والعامة من الشعب فى مواجهتهم للفساد الذى جلبته النزعات العلمانية المادية والعولمة.. فهل ما زلت تعتقد أن ثمة «حداثة شعبية» موازية للحداثة الغربية؟.. ألا ترى أن الرؤية الكونية لدى المصريين المدعومة بفكر رجال الدين قد أسهمت فى إعاقة التخلص من إرث التردى الثقيل على المستويين الفكرى والاجتماعى كما جرى استغلالها على نحو سلبى من قبل التيارات الإسلامية؟

- الحداثة الشعبية لا تُنكر أو تهمش الدين أو المقدس كما تفعل الحداثة الغربية. أعتقد أن الإنسان المصرى لا يزال يؤمن ويردد المأثور «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا». وهنا من المهم التمييز بين مفهوم «رؤى العالم» ومفهوم «الأيديولوجيا». يشير مفهوم «رؤى العالم» أو «التصور الشعبى للكون» إلى نسق المعتقدات المتجذرة تاريخيًا، وكذلك الممارسات الرمزية «الشائعة» المرتبطة بها، بينما يشير مفهوم «الأيديولوجيا» إلى التوجهات السياسية والاقتصادية، خاصة تلك التى تتعلق تحديدًا بالسلطة والهيمنة على الآخر. رؤى العالم الدينية أو الكونية، وهى الموضوع الأساس فى الدراسة، تختلف عن «الأيديولوجيا» التى تستخدم الدين لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية بأى وسيلة ممكنة بما فيها العنف والقتال. فإرث التردى الثقيل يرتبط بالأيديولوجيا وليس برؤى العالم لدى الإنسان المصرى «الشعبى» البسيط. 

الهدف هنا هو إبراز الاختلافات بين المبادئ أو رؤى العالم الدينية الإسلامية «المعتدلة» والأيديولوجيات التى يتبناها المتطرفون. يتمسك الجهاديون الإسلاميون المتشددون برؤية ضيقة ومتطرفة يحاولون فرضها على بقية الدول الإسلامية بما فيها المجتمع المصرى. المشكلة الكبرى أن معظم المتأسلمين «الإرهابيين» هم صناعة غربية تُستخدم لتمزيق النسيج العربى الإسلامى وتغيير النظم السياسية.

■ تشير إلى أن التصورات الكونية للمسلمين ليست مقتصرة على العلماء أو النخبة الفكرية.. بل متجذرة فى التقاليد الإسلامية والخيال الشعبى. كيف يمكن لهذه التصورات أن تؤثر على التفاعلات اليومية للمسلمين فى مجتمعات متنوعة؟ وهل يمكن أن تتحول هذه التصورات إلى أداة مقاومة ثقافية فى وجه التغريب أو الذوبان الثقافى؟ أم أنها قد تتحول إلى عبء يعوق الاندماج فى المجتمعات الحديثة.. ويحد من إمكانيات التطور؟

- الخصوصية الثقافية تحدد التفاعلات اليومية للمسلمين فى مجتمعات متنوعة. الجانب النفسى «السيكولوجى» مهم عند دراسة الشعوب «الجماعات» ولا يقتصر ذلك على التحليل النفسى لفرد بعينه. التصورات الكونية هنا محورية لفهم سيكولوجية الشعب المصرى وعبقريته فى التعامل مع الثقافات الأخرى. 

أود أن أؤكد أنه فى الوقت نفسه الذى يقاوم فيه الإنسان المصرى التأثيرات الأجنبية السلبية، ينجح فى جذب الأجنبى إلى أسلوب حياته وتعبيراته الثقافية، بل ويجعله يتعجب من صموده، وهنا تكمن عبقريته. 

■ إن كانت الثقافة التقليدية قد لعبت دورًا فى تشكيل الهوية المصرية على نحو مغاير.. فكيف يمكن أن نرى حدود هذه الهوية اليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والثقافة الرقمية؟ أيمكننا اليوم القول إن كل العناصر الصلبة سابقًا قد طالتها السيولة على نحو لم يعد معه ممكنًا الحديث عن هويات صلبة ومتماسكة؟ 

- وسائل التواصل الاجتماعى والثقافة الرقمية، كغيرها من الأشياء «كالأدوية مثلًا»، لها جوانب إيجابية وأخرى سلبية. وأعتقد أن الإيجابيات تفوق السلبيات، مثل الانفتاح على معارف متعددة، وسرعة الاطلاع على الأحداث العالمية وغيرها.

وأرى أن «العناصر الصلبة» فى الشخصية تزداد صلابة عندما يُدرك الإنسان العربى المسلم أن «سيولة العولمة» قد تُهدد هويته وعقيدته.

وأذكر هنا المثل الشعبى: «إن تن العود «بقى»، اللحم يعود». ويُقال هذا المثل حين يفقد المرء جزءًا من وزنه، خاصة أثناء المرض، لكنه سيستعيد ما فقده طالما ظل «العود» «أى العمود الفقرى أو الجوهر» سليمًا.

■ فى دراساتك عن سوسيولوجيا الخليج والهوية لامست تحولات جذرية فى البنى الاجتماعية والثقافية.. فإلى أى مدى ترى أن هذه التحولات، من نماذج الرفاه الريعى إلى محاولات إعادة صياغة الهوية عبر الثقافة والفن والدين.. تعيد تشكيل المجتمع الخليجى والعربى ككل؟ هل باتت دول الخليج مختبرًا اجتماعيًا لمستقبل عربى مختلف؟

- التركيب الديموجرافى أو السكانى لدول الخليج يحتاج لإعادة تفكير عند صياغة «الهوية» إذ نجد أن نسبة «غير الخليجى» هناك تتراوح بين ٧٠٪ و٩٠٪ ما يجعل «الخليجى» يشعر بأنه يشكل «أقلية» فى بلده. ومع تدفق النفط والثروة وظهور الرفاه الريعى ظهر ما يمكن وصفه بآلية «التدوير» أو تدوير المال «فى السوق والبنوك» والذى لا يعنى «الإنتاج» بالمعنى الدقيق للكلمة. لكن «التدوير» هنا لا يحمل معنى سلبى على الاطلاق، بل يشير الى ابتكار «وسيط» فاعل بين عنصرين «المحلى» و«العالمى» طالما هناك إمكانية لفعل ذلك بمهارة وذكاء. ومثال على ذلك الفن والعمارة والسياسة.

إن ما يُسمّى بـ«الهوية الخليجية» لم تعد مرتبطة فقط بالعِرق أو التاريخ أو الأرض، بل أصبحت نتاجًا معقّدًا لحركة الرأسمال، ووسائط الثقافة، وتجربة العيش وسط تنوّع هائل. وهذا يطرح تصوّرًا جديدًا للهوية باعتبارها بُنية ديناميكية تتشكّل فى ظل العولمة والاقتصاد الرمزى. فـ«التدوير» هنا يتجاوز الحركة المالية، ليصير حركة رمزية أى تدوير للصور، وللقيم، وللتمثيلات التى تنتج خليجًا معولمًا، هجينيًّا. 

■ تطرقت فى أبحاثك إلى مفهوم الصبر فى التراث الشعبى المصرى.. فكيف برأيك يمكن لهذا المفهوم أن يساعد فى فهم التغيرات الاجتماعية والثقافية فى مصر؟

- لا يمكن إدراك التغيّر من دون أن يكون هناك ثبات ما، و«صبرٌ عليه». بعبارة أخرى، يُوفّر الثبات أو الاستقرار الإطار اللازم لملاحظة التغيّر وفهمه ومراقبته.

كلمة الصبر فى مصر القديمة هى «واح إيب»، وقد عُرفت هذه القيمة أول مرة فى ما يُعرف بـ«الحوار بين رجل وروحه»، الذى سبق قصة «أيوب» فى العهد القديم. واليوم، فى التراث الشعبى المصرى، نجد القصة الشهيرة «أيوب المصرى» و«ناعسة»، بكل ما تحمله من دلالات اجتماعية وثقافية عميقة.

الصبر عنصرٌ أساسى فى بناء الشخصية المصرية القومية، إذ يعنى ضبط النفس، وضبط الجسد، وضبط الوقت والزمن. وتتجلّى دلالاته فى ثلاثة وجوه رئيسية: أولها، الصبر عن تناول الطعام أو المحرّمات، أو كل ما تعافه النفس، وهو ما يرتبط بفكرة الصيام والزهد؛ وثانيها، الصبر على البلاء أو المرض، بما يعنى التحمّل دون تبرّم؛ أما ثالثها، فهو الصبر فى معارك الشرف والعمل الشاق، حيث يتجسّد فى صورة التحمّل والشجاعة.

الصبر يشير إلى الحالة النفسية المتمثلة فى الاستقرار العاطفى والتحرر من القلق الذى قد يعانى منه الإنسان فى التعامل مع الظروف والأحداث العصيبة. 

إن العلاقات الطيبة والسلمية بين الناس تتحقق كثيرًا بمراعاة فضيلة الصبر؛ فعندما يغضب أحدهم لأى سبب، غالبًا ما يُذكّره المحيطون به بضرورة التحلّى بالصبر، وعدم الانجرار إلى ردود أفعال غير عادلة أو غير عقلانية.

واليوم، نسمع فى السياسة عن مصطلح «الصبر الاستراتيجى» بوصفه أداة من أدوات التفاوض والتحكّم فى إيقاع الاستجابة والتفاعل.

■ قلة من كتبك وأبحاثك تُنشر وتترجم إلى العربية.. فما السبب وراء عدم إعطائك اهتمامًا أكبر لترجمة أعمالك المنشورة بالإنجليزية إلى العربية؟ 

- كنت قد بدأت بمبادرة ترجمة كتاب «الدين والتصور الشعبى للكون» من خلال المجلس الأعلى للثقافة، وقد نُشر لأول مرة عام ٢٠٠٥، ثم صدرت له طبعة ثانية تلتها طبعة ضمن سلسلة «مكتبة الأسرة». وسأكون سعيدًا إذا رغب المجلس الأعلى للترجمة فى مصر فى ترجمة كتبى الأخرى.

■ ما الموضوعات أو المجالات البحثية التى تهدف إلى تغطيتها من خلال أبحاثك المقبلة؟

- الموضوع البحثى الحالى الذى أعمل عليه هو «دور الرموز الثقافية فى التحولات التاريخية ودلالتها النفسية- الروحية». جزء من هذا العمل سأقدمه فى مؤتمر الرابطة الأنثروبولوجية الذى سيعقد فى مايو بمدينة لاس فيجاس. 

يهدف البحث إلى استكشاف العلاقة بين الرموز الثقافية والتحولات التاريخية، وكيف يمكن لهذه الرموز أن تحمل دلالات نفسية وروحية عميقة تؤثر فى تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية.

■ فى كتابك «مكافحة الإسلاموفوبيا فى أمريكا الشمالية».. تناولت تأثير الإسلاموفوبيا على حياة المسلمين فى أمريكا وكندا.. فهل تعتقد أن المقاربات القانونية والمؤسساتية كافية أم أن هناك حاجة لتحولات أعمق على مستوى الثقافة؟

- على الرغم من الهجوم الشديد على كتابى «مكافحة الإسلاموفوبيا فى أمريكا الشمالية» من قِبل اليمين المتطرف هنا «فى أمريكا»، فإنه نجح مع كتابات أخرى بطبيعة الحال، فى فضح مزاعم «المساواة والديمقراطية وحرية التعبير واحترام الآخر»، وذلك من خلال تناول أكاديمى وعلمى، وبالإضافة إلى المقاربات القانونية والمؤسساتية، هناك اليوم حراك مجتمعى وثقافى قوى ضد الإسلاموفوبيا، يزداد زخمًا كلما تصاعد تعصّب اليمين المتطرف.