زياد عبدالفتاح: السياسة طغت على الأدب الفلسطينى.. وجيلى دفع الثمن

- «هيكل» أغلق إذاعة حركة «فتح» فى القاهرة بعدما أذعت مقالًا انتقدته فيه
- انفراد عرفات بالحكم أدخله فى نزعة ديكتاتورية.. وكنتُ من القلائل الذين واجهوه
- روايتى الأولى «وداعًا مريم» فُسِّرت بأنها موجهة ضد عرفات.. ونالنى منه عناء بسببها
- عدت إلى الأدب متأخرًا بعد أن ظننت السياسة قتلته داخلى.. وأعمالى ظُلمت نقديًا
- ياسر عرفات كان صديقى.. وشاركتُ محمود درويش فى كتابة خطابه بالأمم المتحدة
- كتبت فى «صاقل الماس» عن محمود درويش الذى لا يعرفه جمهوره ولا حتى بعض أقرب أصدقائه
- محمود عباس تأثر بكتابى عن «درويش» فمنحنى وسام الثقافة
- لا أنسى لمحمود درويش إيمانه بى ودعمه لى فى مواقف مختلفة
ما بين السياسة وكواليسها، والأدب وفضاءاته المفتوحة، مضى زياد عبدالفتاح فى مسيرة طويلة ومتشعبة؛ كاتبًا فلسطينيًا حمل همّ القضية فى أكثر من موقع، من غرفة التحرير إلى ميدان السياسة، ومن الرواية إلى المقال، ومن الثورة إلى الحصار.
أسس الكاتب الفلسطينى أول وكالة أنباء فلسطينية رسمية «وفا»، وكان لسنوات رئيس تحرير لمجلة «لوتس»، التى كانت منبرًا مهمًا لكتّاب آسيا وإفريقيا. إلى جانب ذلك، كتب آلاف المقالات، وأصدر ستة عشر كتابًا، بينها اثنتا عشرة رواية، وثلاث مجموعات قصصية، امتزج فيها الأدب بالتاريخ، والتجربة الشخصية بالقضية الوطنية.
من أحدث أعماله كتاب «غزة تحت الإبادة الجماعية»، الذى شارك فى تأليفه مع الكاتب الفلسطينى عادل الأسطة، والذى يوثّق فيه الجرائم المرتكبة بحق غزة عقب الطوفان الأخير. كما أصدر كتاب «صاقل الماس»، الذى يستعيد فيه صفحات من علاقته بالشاعر محمود درويش، كاشفًا بعضًا من أسرار الصداقة الحميمة.
على الرغم من أن العمل الإعلامى والسياسى قد اختطف عبدالفتاح لسنوات امتدت لما يقرب من ثلاثة عقود، فقد أصدر أعمالًا أدبية تنوّعت ما بين الرواية والقصة، كان من أحدثها روايات؛ «الرنتو» و«ورق حرير»، والمجموعات القصصية؛ «البحر يغضب» و«القرى المهجرة».
لسنوات ظل عبدالفتاح يكتب عن الذاكرة والمنفى، عن تفاصيل الحياة تحت الاحتلال، وعن الفلسطينى الذى يحاول أن يتشبث بحقه وسط الخراب. وهى مسيرة تُوج على أثرها بنوط القدس من الرئيس ياسر عرفات عام ١٩٨٥، كما نال عام 2020 وسام التميز من الرئيس محمود عباس.
فى هذا الحوار، نفتح مع زياد عبدالفتاح صفحات من تجربته، نستعيد خلالها مشاهد من التاريخ الفلسطينى، ونتناول محطات فى مسيرته السياسية والأدبية، لنقترب من علاقاته مع شخصيات ثقافية وأدبية بارزة، ونتوقف عند أطياف تجربة ثرية تشكّلت عبر أزمنة ومواقع متعددة.

■ القاهرة هى مقرّك الحالى، لكن علاقتك بها تعود إلى سنوات بعيدة.. حدثنا عن أبرز محطاتك فيها، وما حملته لك من ذكريات وأحداث.. خاصة فى الفترات التى شهدت تحولات سياسية وثقافية ساخنة؟
- كانت زيارتى الأولى إلى القاهرة عام ١٩٦٨، ولم أكن أعرف مصر جيدًا آنذاك. السبب فى مجيئى كان أحد المسئولين فى حركة فتح، إذ طلب منى القدوم فجئت برفقة الشهيد هايل عبدالحميد، المعروف باسم أبوالهول، وكان حينها مفوضًا من حركة فتح فى القاهرة.
عندما وصلت، قال لى صديقى: أعرف أنك موهوب فى الكتابة، ولدينا إذاعة «صوت العاصفة» التى منحها عبدالناصر لحركة فتح. كانت تلك المرة الأولى فى حياتى التى أدخل فيها إذاعة. أرسلنى إلى هناك، وبدأت أكتب إعدادًا لبرامجها لمدة ثلاث سنوات تقريبًا.
أذكر أنه حين أصبح محمد حسنين هيكل وزيرًا للإعلام، أغلق الإذاعة. هناك حادثة مشهورة وراء هذا القرار لم تُكشف من قبل، وهذه هى المرة الأولى التى أرويها. كان هيكل قد كتب مقالًا ينتقد فيه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التى كانت آنذاك معروفة بعمليات خطف الطائرات، وكان عنوان مقاله على ما أذكر؛ «الذين يكتبون بالحبر أفضل ممن يكتبون بالرصاص». استفزنى المقال، فكتبت ردًا أنتقد فيه هيكل وأُذيع فى الإذاعة. حين سمعه غضب وسأل هايل عبدالحفيظ: من كتب هذا المقال؟ فأجابه: لا أعرف. فقرر هيكل أن يتابع ليعرف، لكنه- رحمه الله- لم يعرف حتى وفاته أننى الكاتب، إذ لم يفصح أحد عن اسمى. المهم أنه أغلقها، لكن عبدالناصر طلب منه أن يعيدها، فعادت لفترة، ثم أغلقها السادات لاحقًا بعد أحداث أيلول الأسود.
بعدها، انتقلنا إلى درعا، حيث أسست «فتح» إذاعة بديلة، وطلبوا منى الانضمام إليها مع مجموعة من الشباب. لم أبقَ هناك طويلًا، إذ اتجهت إلى بيروت مع الرئيس ياسر عرفات، الذى طلب منى أن نبدأ فى تأسيس الإعلام الفلسطينى هناك. وصلت أواخر ١٩٧١، وعملت مراسلًا عسكريًا فى الجنوب اللبنانى نحو خمسة أشهر، وكنت أكتب فى مجلة «فلسطين الثورة» التابعة لحركة فتح.
خلال هذه الفترة، حصلت على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس، بالانتساب. لم يكن حلمى دراسة الحقوق، ولم أكن بحاجة فعلية للشهادة، لكننى درستها تلبيةً لرغبة والدتى، رحمها الله، التى كانت تتمنى أن أنال شهادة جامعية، وكان ذلك وفاءً لها أكثر من كونه طموحًا شخصيًا
خلال مسيرتى، زرتُ القاهرة أكثر من مرة، فضلًا عن أن زوجتى مصرية ومقيمة هنا، إلى أن قدمتُ إلى القاهرة قبل أيامٍ من طوفان الأقصى الأخير، فلم تعد العودةُ ممكنة.

■ .. حدثنا عن تجربتك فى تأسيس وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، وما الذى تتذكره من تلك المرحلة المبكرة وما حفلت به من تحديات وانطلاقة؟
- عام ١٩٧٢، عُقد اجتماع للأجهزة الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير فى بيروت برئاسة ياسر عرفات، وتولى أبوعمار حينها مسئولية الإعلام، وفى تلك الجلسة فوجئت بصدور مجموعة من القرارات، التى من بينها تعيينى مسئولًا عن وكالة الأنباء الفلسطينية.
فوجئت باختيارى، فلم تكن لدى أى خبرة سابقة فى هذا المجال، إذ كانت تجربتى محدودة بالإذاعة فقط. بعد الاجتماع، ذهبت مباشرة إلى أبى عمار «ياسر عرفات» وأخبرته: «أنا لا أملك أى خبرة فى مجال وكالات الأنباء». فأجابنى: «أعرف ذلك، ولكنك قادر على المهمة». قلت له: «أنا مستعد، إن كنت ترى أننى قادر عليها». فرد قائلًا: «أنا واثق من أنك ستؤسس لنا وكالة مهمة».
وهكذا، صدر القرار وبدأت المهمة التى لم تكن سهلة. توليت مهامى فى وكالة الأنباء الفلسطينية من عام ١٩٧٢ حتى عام ٢٠٠٦، وقد واجهت تحديات كثيرة فى البداية. حين بدأت، كان السؤال الذى يتردد فى ذهنى: من أين أبدأ؟ لم تكن لدينا مقومات مثل وكالات الأنباء العالمية التى تمتلك أقسامًا للترجمة وتغطية الأخبار باللغتين العربية والإنجليزية. وكنا نفتقر لهذه الإمكانات، لذلك كان علينا التفكير فى طرق للتغلب على هذا النقص.
ما أغرانى بالمضى قدمًا كان حادثًا جللًا وقع بعد ثلاثة أشهر من انطلاق الوكالة. فى ٥ يونيو ١٩٧٢، كنا قد بدأنا العمل فى الإذاعة، وبعدها بثلاثة أشهر، فى ٥ سبتمبر من نفس العام، وقعت عملية ميونخ الشهيرة فى دورة الألعاب الأوليمبية فى مدينة ميونخ الألمانية، حيث اختطفت مجموعة فدائية فلسطينية الرياضيين الإسرائيليين.
ورغم التفاوضات والمساومات التى جرت، انتهت العملية بمجزرة مأساوية، قُتل خلالها جميع الرياضيين الإسرائيليين، وفقد الفدائيون ستة من أفرادهم. وبالرغم من عدم رغبتنا الخوض فى التفاصيل، كان المؤكد أن هناك تنسيقًا خفيًا بين الألمان والإسرائيليين لتصفية الفدائيين.
لكن ما فعلته الإذاعة الفلسطينية فى تلك اللحظة كان محوريًا. فقد غطت الحادثة بشكل مكثف، وتحولت إلى مركز رئيسى للمعلومة، بينما كانت وكالات الأنباء الأخرى تتسابق لنقل الخبر. العملية قلبت الطاولة، وأصبحت حديث العالم العربى، وتوالت ردود الأفعال.
هذه اللحظة كانت فاصلة فى مسيرتى ومسيرة وكالة الأنباء الفلسطينية. فبفضل تلك المعلومات الحصرية والمحتوى القوى الذى نشرناه، بدأت وكالات الأنباء الأخرى تنقل أخبارنا وتتابع مقالاتنا، ما منحنا وزنًا كبيرًا فى عالم الإعلام وأعطانا شحنة كبيرة فى بداية الطريق.
■ كيف كانت علاقتك الشخصية مع ياسر عرفات؟ متى بدأت وكيف تطورت؟
- كان أبو عمار صديقى، هو الخبير فىَّ، وأنا الخبير فيه. كنتُ أحد الذين يكتبون له خطاباته، ومن أبرز تلك الخطابات، خطابه الذى ألقاه فى الأمم المتحدة، والذى شاركتُ فى صياغة أفكاره إلى جانب محمود درويش.
محمود، لا يُعلى على لغته. شاعرٌ عظيم يعرف كيف يلتقط المعنى من الهواء. اتفقنا على الأفكار، ثم تولّى محمود صياغته فى شكله الأخير.
أتذكّر أننى قمتُ بتشكيل الخطاب حتى يتمكّن ياسر عرفات من قراءته؛ لأنه لم يكن على درايةٍ بقواعد اللغة. ورغم ذلك، لَحَن فى الإلقاء. قال لى محمود ساخرًا: «أبوعمار خرب بيتنا!»، فأجبته: «ليس صحيحًا، الخطاب يُترجم إلى لغاتٍ أخرى، وقليلون من الحضور يفهمون العربية». فقال لى: «عندك حق».
منذ تعيينى فى وكالة الأنباء الفلسطينية عام ١٩٧٢، بدأتُ العمل مع أبى عمار، وكان لا بد أن ألتقيه يوميًّا تقريبًا، واستمرّت علاقتنا القريبة حتى قبل استشهاده بسنة ونصف، حين أصبح فى رام الله، وبقيتُ أنا فى غزة.
دعينى أقول لكِ أمرًا يصعب على كثيرين البوح به؛ لقد انفرد أبوعمار بحكم منظمة التحرير وحركة فتح معًا. وكان لهذا الانفراد أثر بالغ؛ إذ منحه شعورًا بالسيطرة والنشوة، وأدخله فى نزعةٍ ديكتاتورية جعلته يتّخذ قرارات غير منطقية، بل وغريبة أحيانًا. ومع ذلك، كانت تُنفَّذ دون اعتراض، وكأنها أوامر منزلة من السماء. كنتُ من القلائل الذين يواجهونه، فأقول له: «هذا خطأ». لكنه لم يكن يقبل النقد، ولم يكن يستمع.

■ هل هناك مواقف خاصة لا تُنسى بينكما تعكس طبيعة تلك العلاقة؟
- أتذكّر حين كان محمود درويش يرأس تحرير مجلة «الكرمل»، وكتب سليم بركات بالمجلة مقالًا أثار غضب عرفات، لأنه مسّ أحد الزعماء العرب لا أذكر من كان على وجه التحديد. فاستدعى عرفات سليم من قبرص، حيث كان يقيم، وسجنه فى حمّام الشط بتونس.
غضب محمود درويش بشدة، وطلب منى التدخل. تحدثت مع عرفات، وسألته: «هل سجنت سليم؟» أجاب بالإيجاب. قلت له: «ليس هكذا تُدار الأمور» طلبت منه الإذن بزيارة سليم، وتحدثنا طويلًا. بدا مترددًا، لكنه وافق فى النهاية.
قلت له إن ما حدث لا يليق بقائد ثورة يمثل شعبًا يناضل من أجل الحرية. بعدها بأيام، أبلغنى أنه أفرج عن سليم. أبلغت محمود بانتهاء الأمر، وكان مذهولًا.
تلك الحادثة تركت أثرًا عميقًا فى داخلى، وعلّمتنى درسًا بالغ الأهمية فى الحياة؛ ألا يخضع الإنسان للديكتاتور، مهما بدا قويًا، ومهما بدا كل من حوله خانعًا. وكانت أحد الأسباب التى دفعتنى لكتابة روايتى الأولى «وداعًا مريم»، التى فُسّرت بأنها موجهة ضد عرفات.
■ وهل كتبتها فعلًا بقصد انتقاد ياسر عرفات؟
- هى ضد الديكتاتور أيًا ما كان، وقد نالنى منه عناء بسبب هذه الرواية، إذ قاطعنى فترة؛ لأنه لا يقرأ وسمع من خلال المحيطين به أننى كتبت رواية ضده، ولكن بعد ذلك رجعنا لعلاقتنا فقد كان يحتاجنى.

■ تلقيت وسامين من القيادة الفلسطينية أحدهما من ياسر عرفات والآخر من محمود عباس.. ما ملابساتهما وكيف كانت مشاعرك تجاه كل منهما؟
- منحنى ياسر عرفات وسام القدس للثقافة والآداب والفنون بحضور محمود درويش، وكان عبدالله الحورانى وزيرًا للثقافة فى ذلك الوقت. أما وسام الثقافة والعلوم والفنون «مستوى التألق»، فقد منحه لى الرئيس محمود عباس بعد أن أهديته كتابى «صاقل الماس» عن طريق أحد الأصدقاء. أرسلت الكتاب مع صديقى الذى كان فى طريقه إلى رام الله، وعندما وصل، كان أبومازن، محمود عباس، على وشك المغادرة. فأهداه صديقى له، وقرأه أبومازن فى الليلة ذاتها.
فى صباح اليوم التالى، قرر عباس تكريمى بالوسام. وقال لى صديقى، الذى كان حاضرًا حينها: «لقد تأثر أبومازن بالكتاب» كما أخبرنى أبومازن أنه يود معرفة من أحب أن يحضر مراسم التكريم، وكان هذا أمرًا نادرًا. كان الاحتفال بسيطًا، ليس فخمًا، لكنه كان مهمًا جدًا بالنسبة لى.
■ ما الذى حال دون بدء رحلتك الأدبية فى وقت مبكر؟ وكيف أثر هذا التأخير على مسيرتك؟
- بدأت مسيرتى الأدبية متأخرًا، فقد كان للسياسة دور كبير فى تأخرى عن الأدب. كتبت أولى رواياتى عام ١٩٩١، أى بعد نحو ثلاثين سنة من بداياتى فى الكتابة عام ١٩٦٥. أول مجموعة قصصية لى كانت عام ١٩٧٥، لكنها كانت عادية، ولم أكن مهتمًا كثيرًا وقتها بما أكتبه.
بعد تلك الفترة، أصدرَت عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ مجموعتين قصصيتين؛ «المعبر»، و«ما علينا»، وقد نُشرا فى دار الهلال. كانت دار الهلال تمنح عقودًا قصيرة، لكنها أعطتنى عقدًا لمدة سنتين بسبب شعورهم بأننى أكتب شيئًا مهمًا.
ثم انقطعت فترة، وفى عام ٢٠١٢، بعد العدوان الإسرائيلى على غزة، كنت فى رام الله. شاهدت الدمار، وكتبت مجموعة قصصية بعنوان «البحر يغضب»، وفى نفس العام كتبت رواية «ورق حرير»، التى تعد من أهم أعمالى. تتناول الرواية جوانب من سيرتى الذاتية، بالإضافة إلى العديد من الأحداث الفلسطينية وتأسيس وكالة الأنباء الفلسطينية.
■ أحدث أعمالك هو كتاب «غزة تحت الإبادة» الذى كتبته بالاشتراك مع الناقد الفلسطينى عادل الأسطة.. فماذا كان دافعك للمشاركة فى هذا العمل؟
- الكتاب عن طوفان الأقصى الأخير، وفيه وللمرة الأولى لم أهاجم حماس، لأننا ببساطة كنا نموت، نُذلّ بشكل لا يمكن تصوره. القضية الفلسطينية أصبحت تتآكل فى ظل المنظار الإسرائيلى العنصرى القاتل.
والآن أكتب رواية عن طوفان الأقصى، هى رواية واقعية تقريبًا، فيها تسجيل وشىء من الخيال، لكنها تنبع من الألم ذاته. أتناول فيها دوافع الفلسطينيين إلى تلك المغامرة التى فُقد فيها آلاف الشهداء، وأتأمل الإذلال والقهر، وغياب الأفق السياسى، الذى جعل من الانفجار أمرًا لا مفرّ منه.

■ لك رواية بعنوان «الرتنو» تجمع بين الماضى والحاضر.. فما الذى دفعك للعودة أدبيًا إلى التاريخ؟
- بدأت رحلتى مع هذه الرواية من كلمة غامضة: «الرتنو»، كنت أقيم فى فندق صغير فى رام الله يحمل هذا الاسم، وعندما كنت أطلب من سائقى التاكسى أن يقلّونى إليه، كانوا يضحكون أو يستغربون، لأننى أنطق الكلمة بطريقة خاطئة. شرح لى صاحب الفندق أن الرتنو تحمل تاريخًا كبيرًا، كانت تلك الشرارة الأولى. بدأت أبحث وأفتش فى الخرائط القديمة والأساطير، حتى قادتنى الخيوط إلى الطبيب المصرى سنوحى.
قضيت شهرين فى البحث عن سنوحى. أخبرونى بأنه ظهر فى المسرح المصرى للأطفال، وذُكر فى رواية مصرية قديمة. جمعت عنه ملفات، وقادتنى الصدفة إلى رواية فنلندية نادرة تناولت حكايته. هذه الرواية تُرجمت إلى الإنجليزية، ثم قام المهندس والمترجم محمد القصبى بترجمتها إلى العربية. وكان القصبى يعيش فى أمريكا، على علاقة فكرية مع طه حسين. وعندما قرأ طه حسين النسخة العربية، أُعجب بها، لدرجة أنه طلب كتابة مقدمتها بنفسه، وهو ما حدث فعلًا.
ومن هنا، تدور أحداث الرواية داخل أحد فنادق مدينة رام الله، ثمة خط معاصر يروى حكايات نزلاء الفندق بتوجهاتهم المختلفة، والثانى تاريخى، يحكى سيرة «سنوحى» الطبيب الفرعونى الذى فر من وجه الفرعون المصرى إلى فلسطين، وعاش فى منطقة «الرتنو»، وأسس فيها مستشفى، وأقام علاقات مع أصحاب الأرض. فى هذه الرواية، حاولت أن أقول إن التاريخ لا يُطوى، بل يعبر الأزمنة فى هيئة رموز وبشر وأساطير.
■ كتابك «صاقل الماس» من أكثر الكتب التى أثارت جدلًا بالآونة الأخيرة.. فما الذى دفعك لكتابته بعد كل هذه السنوات من وفاة محمود درويش؟
- لم أكن أنو الكتابة عن علاقتى بمحمود درويش إلى أن زارنى فى الحلم وطلب منى ذلك، وما كان علىّ سوى تلبية الطلب.
كثيرون كتبوا عن محمود درويش؛ باعتباره شاعرًا ورمزًا واسمًا فى ذاكرة الأدب العربى. أما أنا، فكتبته بصفته وجهًا أعرفه، إنسانًا نزل فى بيتى وارتاح فيه. لم أكتب ما هو معروف عنه، بل ما لم يُكتب. كتبت عنه كما عرفته، لا كما قُدِّم للناس، كتبت عن محمود الذى لا يعرفه لا جمهوره ولا حتى بعض أقرب أصدقائه.
بداية علاقتنا كانت فى سبعينيات القرن الماضى، فى القاهرة. لكنها توثقت أكثر فى بيروت، حيث قضينا سنوات طويلة معًا، نعيش تفاصيل الحياة اليومية، لا الشعر فقط. وهناك، فى بيروت، بدأت أرى درويش الإنسان، لا الشاعر المتألق فى المنابر. ثم ازدادت العلاقة عمقًا فى تونس. كنت أقيم هناك، وكان هو فى باريس، وكلما جاء إلى تونس، نزل فى بيتى. لم يكن ضيفًا، بل كان يعود إلى بيته الآخر.
كانت بيننا كيمياء خالصة، صنعتها الثقة والصدق والمشاركة. لم أكن شاعرًا، ولم أدّعِ ذلك. حاولت كتابة الشعر ذات يوم، لكنى لم أواصل، ومن ثم فإننى لم أقترب من محمود من باب الشعر، بل من باب الإنسان. علاقتنا لم تقم على الإعجاب الأدبى وحده، بل على الصداقة العميقة.
■ هل من موقف دار بينك وبين محمود درويش لا يفارق ذاكرتك؟
- فى عام 1984، كنت أرافق ياسر عرفات فى جولة إفريقية شملت السنغال، حيث التقينا الرئيس عبدو ضيوف. كان اللقاء وديًا ومليئًا بالأحضان والتقبيل، كعادة «ضيوف».
أثناء اللقاء، لاحظت أحدهم يهمس فى أذن ياسر عرفات فامتقع وجهه، وعرفت أنه كان يخبره بنبأ وفاة الشاعر معين بسيسو، الذى كان يشغل منصب نائب رئيس تحرير مجلة «اللوتس»، التابعة لاتحاد كتّاب آسيا وإفريقيا، والتى كان يرأس تحريرها الشاعر الباكستانى فايز أحمد فايز.
بدأ الجدل حينها حول من يخلف بسيسو فى منصبه، وكان كل فصيل يرشّح من يعبر عنه، ما عدا أبوعمار، الذى لم يكن الأدب من أولوياته.
فى ذلك الوقت، لم يكن اسمى مطروحًا، ولم أكن قد نشرت رواياتى بعد. لكن محمود درويش، وكان عضوًا فى اللجنة التنفيذية للمنظمة، زار تونس. بعد اجتماع مع عرفات، استبقاه الأخير على انفراد وسأله: «من يخلف معين بسيسو؟» فأجاب محمود: «زياد عبدالفتاح» استغرب أبوعمار، وقال له إنه ليس شاعرًا، فرد محمود: «ليس شاعرًا، لكنه أديب ومثقف يعرف ماذا يفعل».
أخبرنى محمود لاحقًا أنه ردد اسمى مرارًا حتى اقتنع أبوعمار، وفى اليوم التالى سلّم علىّ وقال: «مبروك يا زياد، صرت نائب رئيس تحرير مجلة اللوتس».
تلك اللحظة كانت تعبيرًا عن إيمان محمود درويش بى، وشهادة منه بأنه رأى فىّ ما لم يره الآخرون.

■ كيف ترى الأدب الفلسطينى من موقع المتابع والفاعل فيه؟ هل ترى أنه أهمل مناطق أدبية بعينها لصالح مساحات محدودة؟
- نعم، أظن أن هناك مناطق فى الأدب الفلسطينى لم يُسلّط عليها الضوء كما تستحق. الأدب السياسى طغى على غيره من الأشكال، كالأدب الرومانسى أو السردى، أعنى أدب الرواية والحكى، ذلك الأدب الذى ينشأ من التفاصيل اليومية والعلاقات الإنسانية، من الحكاية أكثر من الشعارات.
أنا فى الأصل «قصّاص»، ولدت من رحم الحكاية. أمى كانت قصّاصة بالفطرة، رغم أميّتها. كانت تفتح صالونًا لاستقبال النساء، تجلس وسطهن وتحكى، ويستمعن إليها بشغف. كنّ يأتين إليها كما لو أنها تملك أسرار الحكايا والقلوب. من هناك بدأ كل شىء. بالاستماع إليها، وملاحظة طريقتها فى أسر الانتباه، فقد بدأت منصتًا للحكاية.
لكن السياسة ابتلعتنا. وأنا من الذين التهمتهم السياسة وأبعدتهم عن الأدب لفترة. قتلت الأدب داخلى، إلى حين. ثم عدت. لم يُفرض نمط الأدب السياسى علىّ فقط، بل على جيل كامل. هناك أدباء فلسطينيون لم ينالوا نصيبهم من الضوء لأن «القطفة الأولى»- إن صح التعبير- أخذها آخرون. من كان فى الواجهة وقتها نال كل شىء، بينما البقية ظلوا على الهامش، رغم ما قدّموا وما كتبوا.

■ هل ترى أن أعمالك الأدبية قد أهملت نقديًا أو ظلمت؟
- نعم، أعتقد أننى ظلمت نقديًا، وحتى هذه اللحظة لا يزال ذلك قائمًا. أتذكر حين زارتنى أستاذة هندية تدرّس الأدب فى جامعة تورنتو بكندا، كانت قد قرأت عددًا من نصوصى الأدبية. جلست أمامى وقالت: «أنت مظلوم. لم أجد من يتذوّق أدبك حق التذوق، حتى من بين الفلسطينيين». كلماتها تلك كانت صدى لما أشعر به منذ سنوات.

