آن الصافى: الأدب صار شريكًا فى صياغة الأسئلة حول مستقبل الإنسان

- الثورة التكنولوجية تعيد تشكيل العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا
- الانشغال بأسئلة المستقبل فى الكتابة لا يعنى الانفصال عن الواقع الاجتماعى والثقافى العربى
- الصراعات فى منطقتنا تلقى بظلالها على أى تصور للمستقبل لكنها ليست مبررًا للجمود
تستمد مسيرة الكاتبة السودانية آن الصافى أهميتها من قدرتها على دمج أحدث المستجدات العلمية والتكنولوجية فى عالم الأدب، ففى أعمالها، مثل «فُلك الغواية» و«كما روح» و«المسائل» التى فازت بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابى، تطرح تساؤلات حول مستقبل الإنسان فى ظل التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة، وتستكشف تأثير هذه التحولات على الحياة اليومية. من جهة أخرى، يعد مشروع آن الصافى الذى يحمل عنوان «الكتابة للمستقبل» من أبرز تجسيداتها لهذا التوجه، إذ تسعى لجعل الأدب وسيلة لاستشراف المستقبل، ومناقشة التغيرات التى يمر بها العالم اليوم، من الثورة الصناعية الخامسة إلى التقدم فى مجالات التكنولوجيا والبيئة. علاوة على ذلك، تحمل الصافى فى رصيدها إنجازات ثقافية مختلفة، فهى إعلامية ومُدربة فى مجال الإدارة والتنمية البشرية، كما أنها عملت منسقة فى اتحاد كُتاب وأدباء الإمارات وعضوًا فى مؤسسة بحر الثقافة، حيث قدمت العديد من الندوات والورش الثقافية فى أنحاء العالم.
فى هذا الحوار، نتحدث مع الكاتبة السودانية عن مشروعها حول «الكتابة للمستقبل»، الذى ظهر الجزء الرابع منه فى كتاب صدر أخيرًا عن دار «بيت الحكمة» فى القاهرة، كما نناقش رؤيتها للعلاقة بين الأدب والتكنولوجيا، ومستقبل الكتابة فى ظل التحولات المعاصرة.

■ تعملين منذ سنوات على مشروع «الكتابة للمستقبل» عبر عدد من المقالات والكتابات تبلورت فى كتابك الصادر أخيرًا من القاهرة «فلسفة الكتابة للمستقبل».. فما هى مسوغات هذا المشروع؟
- «فلسفة الكتابة للمستقبل، رؤى نحو الثورة الصناعية الخامسة» يعتبر الجزء الرابع من سلسلة الكتاب الفكرى الثقافى «الكتابة للمستقبل».
منذ انطلاقة مشروع الكتابة للمستقبل، كان هاجسى الأساسى هو استشراف أفق الكتابة كأداة فاعلة فى بناء الوعى، ومواكبة التحولات الفكرية والتكنولوجية التى تعيد تشكيل الإنسان والمجتمعات.
وقد دفعنى لتبنى هذا المشروع التسارع التكنولوجى والمعلوماتى الذى يفرض أنماطًا جديدة من التفكير والتفاعل مع النصوص، والتغيرات العميقة فى مفهوم الهوية والمعرفة، فلم يعد بالإمكان النظر إلى الكتابة بمعزل عن سياقاتها الثقافية، الاجتماعية، والتقنية، وكذلك ضرورة إعداد جيل جديد من الكُتاب والمفكرين قادرين على التعامل مع معطيات المستقبل، بفكر نقدى وإبداعى يواكب التحولات الكبرى.

■ ما أبرز مرتكزات هذا المشروع؟
- يرتكز هذا المشروع على أن الكتابة كأداة استشرافية لا تقتصر على تحليل الواقع، بل تذهب نحو احتمالات المستقبل، سواء فى الفكر، الأدب، أو العلوم الإنسانية، مع تتبع تأثير أدوات العصر على طريقة تفكير الإنسان لمواكبة مسار المجتمعات. وكذلك تجاوز الحدود التقليدية بين الفلسفة، الأدب، والتكنولوجيا، لتقديم رؤية أكثر شمولًا وانسجامًا مع تطورات العصر، فضلًا عن التحرر من القوالب السردية الجامدة، وذلك بتبنى أشكال جديدة من التعبير، تتناسب مع الذكاء الاصطناعى، والميتافيرس، والثورة الصناعية الخامسة، بالإضافة إلى إعادة تعريف الكاتب ودوره، فالكاتب أصبح صانع رؤى، مشاركًا فى صياغة المفاهيم وتشكيل الوعى الجمعى.
■ تولين اهتمامًا كبيرًا للعلاقة بين الأدب والعلم، وهو ما يظهر فى أعمالك الأدبية والنظرية. فإلى أى مدى يمكن القول إن الثورة التكنولوجية المتنامية يمكن أن توجه العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا؟
- التكنولوجيا أصبحت جزءًا من بنية وأدوات الأدب، سواء فى طريقة إنتاج النصوص أو فى طرق تلقيها. اليوم، نجد امتداد تأثير الذكاء الاصطناعى، البيانات الضخمة، والميتافيرس، إلى بنية الفكر الإنسانى، وبالتالى إلى الأدب بوصفه انعكاسًا لهذا التحول.
من هنا، يمكن القول إن الثورة التكنولوجية تعيد تشكيل العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا من حيث إعادة تعريف الكاتب والقارئ، فلم يعد الكاتب وحده منتج النص، بل هناك تفاعل متزايد بين الإنسان والآلة فى صياغة المحتوى الأدبى والفكرى.
وكذلك ظهور أنماط سردية جديدة، فلم تعد الرواية أو القصة مقتصرة على الشكل التقليدى، بل نشهد اليوم تداخل الأدب مع العوالم الافتراضية، والأعمال التفاعلية التى تعتمد على التقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضى.
هذا بخلاف تأثير البيانات الضخمة على السرد، فقد أصبح من الممكن تحليل أنماط الكتابة، والتنبؤ باتجاهات القرّاء، ما يفتح المجال أمام أدب موجه بناءً على معطيات علمية دقيقة، وأيضًا دور الأدب فى استشراف المستقبل، فالأدب صار شريكًا فى صياغة الأسئلة الكبرى حول مستقبل الإنسان، الأخلاق، والهوية فى ظل التحولات الرقمية.
■ كيف يمكن للكتابة المنشغلة بأسئلة المستقبل أن تتعاطى مع الواقع الاجتماعى والثقافى العربى على نحو مغاير؟ وما الخصوصية التى قد تحتفظ بها الكتابات العربية بهذا الصدد؟
- المستقبل واقع يتشكل يوميًا من خلال قراراتنا وأفعالنا. فكل يوم يحمل معه جزءًا من المستقبل الذى كنا نتخيله بالأمس. لذلك، فإن الكتابة للمستقبل لا تعنى استشراف ما هو مجهول تمامًا، بل التعامل مع ما هو آتٍ بالفعل، وتحليله، وإعادة صياغته وفق رؤى جديدة.
إن الانشغال بأسئلة المستقبل فى الكتابة لا يعنى الانفصال عن الواقع الاجتماعى والثقافى العربى، بل على العكس، يمثل وسيلة لإعادة قراءته بوعى استشرافى. فى مشروعى «الكتابة للمستقبل»، أركز على استثمار الأدوات المعرفية والفكرية المتاحة اليوم لفهم التحولات القادمة، مع الحفاظ على الجذور الثقافية التى تمنح الأدب العربى خصوصيته.
الكتابات العربية التى تتبنى هذا المنظور قادرة على الجمع بين الأبعاد التراثية والابتكارات الحديثة، وهو ما يتيح لها تقديم رؤية متفردة عن العلاقة بين الماضى والمستقبل. فاللغة والسرد فى هذا السياق يمكن أن يشكلا فضاءً للحوار بين القيم الأصيلة والتطورات التقنية والفكرية المتسارعة.
■ يبدو سؤال التكنولوجيا وتحدياتها حاضرًا فى كتاباتك الإبداعية، فثمة حديث عن «الترند»، و«الميتافيرس» وغير ذلك فى «حب»، و«مسائل»، فهل يمكن القول إنك توجهين دعوة للتفكير النقدى بهذه الإشكاليات من خلال الأدب؟ وما حدود تأثير الأدب فى تحفيز التفكير النقدى برأيك؟
- بالتأكيد، فالأدب من أعمق الوسائل التى يمكن أن تحفز التفكير النقدى وتفتح الأفق أمام التساؤلات الكبرى حول المستقبل والتكنولوجيا والتغيرات المتسارعة التى يشهدها عالمنا اليوم. فى أعمالى حاولت طرح أسئلة جوهرية حول علاقتنا بهذه المستجدات، وكيف يمكننا التعامل معها بوعى نقدى.
لكن السؤال الأهم: لماذا يخشى البعض من الجديد؟ هل هو الخوف من المجهول، أم أنه القلق من فقدان السيطرة على الواقع الذى اعتدنا عليه؟ فى كثير من الأحيان، نجد أن هذا الخوف ينبع من هشاشة مكنون الذات، وعدم الاستعداد الكافى لمواجهة التغيير والتكيف معه. الانسلاخ عن الواقع بدلًا من تحليله والتفاعل معه يندرج تحت مسمى الهروب، والهروب فى حد ذاته ليس سوى انعكاس لافتقاد أدوات التعامل النقدى مع المستجدات.
لذلك، بدلًا من القلق من التكنولوجيا أو رفضها، أرى أن الأجدى هو التسلح بالمعرفة والمشاركة فى إنتاجها، طالما أنها تحمل فوائد للفرد والمجتمع. حتى لو بدت بعض الجوانب غامضة وغير واضحة المعالم، فإن الحل ليس التوجس السلبى، بل تطوير القدرة على التفكير الحر المتجرد، الذى يقود إلى فهم أعمق وتحليل أدق.
■ تتطلب الكتابة للمستقبل التى تتحدثين عنها القدرة على استشراف آفاق جديدة. لكن، فى ظل الصراعات المستمرة لا سيما على المستوى الإقليمى، كيف يمكن لمفهوم «المستقبل» أن يبدو فى ظل هذا التوتر؟
- الصراعات فى منطقتنا تلقى بظلالها على أى تصور للمستقبل، لكنها لا يجب أن تكون مبررًا للجمود، فالمستقبل ليس مجرد نتيجة تلقائية لما يحدث اليوم، بل هو صناعة مستمرة، تبدأ من الوعى، من قدرتنا على فهم التحولات، ومن امتلاك أدوات تحليل دقيقة ومرنة تمكننا من رؤية ما وراء التوترات الراهنة.
إذا ظللنا نعيد إنتاج ذات الأسئلة بذات الطرق، فلن نصل إلى إجابات جديدة. التحدى الحقيقى هو الخروج من دوائر التكرار، وإدراك أن المستقبل لا ينتظر أن نصنعه لاحقًا، بل هو يتشكل الآن، فى كل لحظة، بقراراتنا، برؤيتنا، وبقدرتنا على ابتكار حلول تتجاوز الحاضر ولا تستنسخه.

■ قدمت شكلًا جديدًا من الكتابة من خلال رواية «فى حضرتهم» التفاعلية بالتعاون مع عبدالواحد استيتو. فما الهدف الذى سعيتما لتحقيقه من خلال هذه التجربة الأدبية؟ وكيف ترين تأثير التجربة التفاعلية فى إعادة تشكيل العلاقة بين الكاتب والقارئ؟
- تجربة «فى حضرتهم» أعتبرها خطوة واعية نحو استثمار التقنيات الحديثة فى الكتابة، ليس فقط من حيث الشكل، ولكن أيضًا من حيث المضمون والتفاعل مع القارئ. سعينا من خلال هذه الرواية إلى الوصول إلى شرائح مختلفة من القراء بأيسر الطرق، مع توسيع نطاق التلقى عبر الفضاء الرقمى، ليصبح القارئ شريكًا فى العملية الإبداعية، وليس مجرد متلقٍ سلبى.
أردت فى هذه التجربة أن أكسر الجدار التقليدى بين الكاتب والقارئ، فجعلت الأخير جزءًا من الرواية عبر فضاء «الفيسبوك»، فقد تعمدت أن تكون الرواية مكتملة الأركان من حيث البناء، لكنها فى ذات الوقت تستجيب بشكل مباشر لآراء وتوقعات الجمهور. لم يكن الهدف أن نأخذ حقوق القارئ ككاتب مشارك، ولكن أن نجعله عنصرًا محفزًا للكاتب ليقدم ما هو مشوق ويخالف التوقعات. هذا التفاعل أتاح لنا فرصة فريدة لاختبار الأفكار، وجعل من السرد مساحة ديناميكية تتطور مع كل مشاركة وتعليق.

من جهة أخرى، حرصت على طرح قضايا كان البعض يعتقد أنها تنتمى إلى عالم الخيال العلمى، لكنها فى الواقع مطبقة فعليًا فى المختبرات العلمية وعلى أرض الواقع. فالمستقبل ليس بعيدًا، بل هو يحدث الآن، وما نكتبه اليوم قد يكون جزءًا من المشهد الواقعى غدًا.
كذلك، فإن استدامة الثقافة كانت هاجسًا رئيسيًا فى هذا العمل. فالتقنيات الحديثة يمكن أن تكون وسائل فاعلة لحفظ الإرث الإنسانى ونقله عبر الأجيال، ما يعزز استمرارية الهوية الثقافية فى ظل تسارع التطورات التقنية.
بالتالى، فإن تجربة الرواية التفاعلية كانت اختبارًا عمليًا لإمكانات الأدب فى عصر الرقمنة، وفرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الكاتب والقارئ، بما يجعل الكتابة عملية حية، قادرة على استيعاب التغيرات المستمرة، دون أن تفقد جوهرها الإبداعى.

■ يواجه الكاتب تحديًا مزدوجًا يتمثل فى الإمساك بناصية الفكرة المبتكرة وما تتطرق إليه من إشكالات، والقدرة فى الآن ذاته على التجديد على مستوى الشكل والتقنية. فكيف تتعاطين مع هذا الهاجس؟
- بالنسبة لى، الكتابة هى عملية مستمرة من البحث والتقصى، تتطلب توسعًا فى القراءات والمشاهدات فى مختلف الحقول، قدر الإمكان. ففى عصرنا هذا، حيث نحمل فى كف أيدينا شاشة تتيح لنا استقبال كمٍّ هائل من المعلومات، أصبح من الضرورى أن نكون أكثر وعيًا بكيفية الانتقاء والتحليل، وألا نكتفى بمجرد الاستهلاك، بل أن نحول هذا التدفق المعرفى إلى مادة خام تثرى تجربتنا الإبداعية.
لطالما وجدت أن التنقل بين الثقافات، سواء عبر السفر الفعلى أو من خلال استكشاف المدن التى تحتضن تنوعًا ثقافيًا غنيًا، يفتح آفاقًا جديدة للفهم والتأمل، ويجعلنا نطوف فى ثقافات العالم، نلمس تميزها عن قرب، ونكتشف نقاط التلاقى والاختلاف. البحث المستمر، المقترن بشغف الاكتشاف، هو مفتاح التمكن من الإمساك بناصية الفكرة المبتكرة، لأنه يتيح للكاتب إمكانية تقديم رؤى فلسفية أعمق، تسبر دقائق الأمور من زوايا متعددة، وتعيد صياغة التساؤلات الجوهرية حول الإنسان والمجتمع والتطور.
أما فيما يتعلق بالتحدى المزدوج بين التجديد فى المضمون والشكل، فهو هاجس دائم لى. لا يكفى أن تكون الفكرة جديدة، بل يجب أن تجد القالب الفنى الذى يعكسها بأفضل صورة، وهو ما يحفزنى على التجريب المستمر، فلا أكتفى باتباع القوالب السردية التقليدية، بل أسعى إلى توظيف أساليب وتقنيات حديثة، مستفيدة مما توفره التكنولوجيا من أدوات قادرة على إضفاء أبعاد جديدة على النصوص.
الكتابة بالنسبة لى فضاء مفتوح للابتكار، حيث يمكن للكلمة أن تكون وسيلة لإعادة تشكيل الوعى، ولإضاءة مناطق معتمة فى الفكر الإنسانى. وكلما تمكن الكاتب من الجمع بين عمق الفكرة ومرونة الشكل، استطاع أن يقدم أعمالًا تبقى حاضرة فى أذهان القراء، وتتفاعل مع الزمن ومتغيراته. وطالما أن أبواب الممكن مشرعة، فلمَ لا نحاول؟.

■ ما الذى تسعين لتحقيقه مستقبلًا فى الكتابة؟
- أسعى من خلال «الكتابة للمستقبل» ما أمكن، إلى تقديم رؤية تواكب التحولات المتسارعة التى يشهدها العالم، بحيث لا تكون الكتابة مجرد أداة توثيق أو تعبير، بل وسيلة لإعادة تشكيل الوعى، وإيجاد سبل جديدة للتحليل وقراءة الموروثات الثقافية، والتفاعل مع معطيات الحاضر والمستقبل. إن الاستفادة من العلم والتكنولوجيا ليست خيارًا، بل ضرورة للنهوض بالدول النامية على سبيل المثال، حيث يمكن توظيف المعرفة فى تطوير مجالات مثل التعليم، الاقتصاد، والإبداع، بما يضمن تفاعلًا ديناميكيًا بين التراث والحداثة. أما على صعيد مشاريعى الحالية، فأواصل العمل على توسيع مفهوم «الكتابة للمستقبل» عبر دراسات ومقالات تتناول الأثر العميق للتحولات التقنية والفكرية على المجتمعات، بالإضافة إلى ذلك، هناك أعمال سردية وسينمائية ومسرحية قيد الإعداد، تستلهم من التراث العريق، وتعيد تقديمه من منظور جديد يراعى الأسئلة المعاصرة. فالإبداع بالنسبة لى لا ينفصل عن الواقع، بل هو امتداد له، يضىء الزوايا المعتمة، ويسهم فى تشكيل وعى أكثر اتساعًا واستعدادًا للمستقبل.