الأربعاء 30 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

زمن سميحة أيوب

سميحة أيوب
سميحة أيوب

خلال عامى ١٩٧٥، ١٩٧٦ كنت طالبة بمعهد الفنون المسرحية، بعد تخرجى فى كلية التجارة بجامعة عين شمس، وكنا وقتها ونحن طلاب نتلمس طريقنا إلى عالم المسرح وفنونه، نلهث هنا وهناك لمتابعة مسارح القاهرة، وما أكثرها آنذاك!. فثمة أوبرا «الثلاث بنات» للمسرحى الألمانى برتولدبريخت على خشبة المسرح القومى، بعد أن أعدها الشاعر نجيب سرور تحت مسمى «ملك الشحاذين»، وثمة مسرحية «نرجس على مسرح الطليعة» والتى أخرجها عبدالرحيم الزرقانى عن اقتباس من مسرحية «المتوحشة لچا آنوى» على مسرح الطليعة، وهناك «حبيبتى شامينا» من تأليف رشاد رشدى، والتى كانت تقوم ببطولتها العملاقة سميحة أيوب.

كنا شبابًا فى سن التمرد والرفض، وشديدى التحمس للفن الجميل، فكنا نسخر من نص رشاد رشدى المسرحى الضعيف على مستوى البناء ورسم الشخصيات، وكنا نسخر من قبول سميحة أيوب لتمثيلها هذا النص، ونعتبر أن أداءها فى هذا العمل ضعيف محدود ولا يتناسب مع قدراتها التمثيلية الكبيرة والتى برزت وتأكدت فى العديد من الأعمال قبل ذلك.

وما أن دلفنا- وبعد مرور السنين- إلى ثمانينيات القرن الماضى، حتى بدأنا نشعر بذبول واحتضار المسرح المصرى، ونترحم على أيام سميحة أيوب وأمثالها من عمالقة المسرح المصرى نساءً ورجالًا، فقد تراجعت الأعمال المقدمة على المسارح المصرية كمًا وكيفًا، أحيانًا كانت تعرض مسرحية ما ذات قيمة مثل «الأشجار تموت واقفة» لكاسونا الإسبانى، أو بعض الأعمال للمصرى رأفت الدويرى بمسرح الطليعة، ولكن أين المسرح الجاد.. أين التراجيديا اليونانية العظيمة التى كانت تقدم على مسرح الجيب بالزمالك، وأين محسنة توفيق وهى تصول وتجول أداءً فى رائعة يوربيدس أنتيجون، وأين كل ذلك المسرح المصرى الجميل الذى ظل ينمو ويزدهر منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر على يد يعقوب صنوع، وأين مسارح روض الفرج ومسارح الأزبكية؟، أين دولت وچورچ أبيض، كيف انتهى كل ذلك الجمال والفن الرفيع الذى بُنى بالجهد والعرق ودفع الضرائب الباهظة لمواجهة كل القيم البالية المتخلفة؟

تراجع كل ما هو مسرحى جميل وجاد، ليحل محله ويزدهر أمامه بالمقابل المسرح التجارى أو بالأحرى مسرح الحقبة النفطية، ليوائم سينما المقاولات المنتعشة وأفلام عناوينها من نوع «خذنى بعارى».

كانت وظيفة ذلك المسرح التجارى الجديد هو هضم الطعام، فبدلًا من تناول حبيبات الفوار بعد وجبة عشاء دسمة فى مطعم فاخر أو بأحد فنادق القاهرة الفخمة، كان الأفضل لهضم الطعام وقبل الذهاب للنوم، الذهاب إلى مسرح يعتمد على الطبل والزمر، ووصلات رقص، وانتزاع الضحكات بالإفيهات الجنسية اللامزة الرامزة، والحركات الجسدية المبتذلة، وأصبح مشاهد تلك الأعمال المسرحية محصورًا فى سياح بلدان النفط الذين ملوا من ملاهى وراقصات شارع الهرم، وتلك الفئة الجديدة التى ظهرت فى المجتمع المصرى وحققت ثروات هائلة من المضاربات فى الأراضى والعقارات وقطاعات المقاولات، إضافة إلى العديد من الأنشطة الأخرى غير المشروعة التى تمددت فى المجتمع كتجارة المخدرات وتجارة الآثار وتجارة السلاح.

خلال ذلك لم يعد طلاب الفنون المسرحية أو غيرهم قادرين على ارتياد المسارح، مثلما كنا نفعل ونحن طلاب خلال سبعينيات القرن الماضى، حيث كانت تذكرة دخول أى مسرح تابع للدولة سعرها عشرة قروش، ولم يعُد الفقراء ومحدودو الدخل قادرين على مشاهدة أى عمل مسرحى، وأنا أجزم أن هناك أجيالًا كاملة، لم تشهد طوال حياتها أى عمل مسرحى منذ ثمانينيات القرن الماضى، فلم تعد هناك مسارح ولم تعد هناك أعمال جادة تستحق المشاهدة، ولم يعد هناك مسرح الجيب والمسرح العالمى، وأعمال صمويل بيكيت وكراسيه الطليعية، ولا بيترفايس وماراصاد وسناء يونس وهى تتألق صاعدة إلى النجومية وهى تؤدى دور أنا الخادمة، ولم يعد هناك عبدالعزيز مخيون فى العسكرى فويسك.

لقد واكب كل ذلك الذبول والانهيار المسرحى تصاعد أصوات قبيحة شريرة تطالب بتجريم وتحريم الفن، وشن الحرب على كل ما هو إبداعى جميل، باسم الدين مرة وباسم الأخلاق مرة أخرى، وباسم وجوب تحجيم دور المرأة داخل المجتمع وحصره فى حدود المتعة الجسدية للرجل، وكل الوظائف المتعلقة بالحمل والإنجاب والحفاظ على النوع البشرى.

وكم تمنينا ونحن نشهد كل هذا الانهيار، وكل هذا الانحطاط أن يعود ذلك الزمان القريب البعيد، وكم تمنينا أن تعود سميحة أيوب ويعود زمنها حتى لو مثلت حبيبتى شامينا لرشاد رشدى.