السبت 07 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المواطن شعبان يوسف

شعبان يوسف
شعبان يوسف

للمجتمع الثقافى المعاصر فى مصر تاريخ طويل معقد، تعقيد سلالة بشرية جاءت من عمق التاريخ، تراكمت بداخلها طبقات حضارية وثقافية متباينة، لذلك فهو متعدد الأوجه، ويتداخل فيه ما هو سياسى مع ما هو اجتماعى، وله تجلياته الإيجابية المبهرة، لكن له سلبياته المرضية القاتلة فعلًا وليس مجازًا، ففيه من انتحر ومات وفيه من انسحب وخاف وتقوقع على ذاته، وهناك من كف عن الإبداع والفعل الثقافى، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ومعروفة للجميع ومن سلبيات هذا المجتمع المزمنة، أنه كثيرًا ما يثمن أفراده تثمينًا غير موضوعى صحيح يليق، فهو يرى ما هو مدهش وجميل، وكأنه عادى ومألوف ولا يستحق التوقف والتقدير، وفى هذا المجتمع ثمة صراعات دائمة ومحاولات دءوبة للإزاحة وسعى لخلط الأوراق ليصبح غير المتميز وكأنه متميز، وهذا المجتمع تفعل فيه عوامل كثيرة فعلها، وتحكمه سلطات عديدة بعضها مرئى وبعضها غير مرئى، ومنذ العقود الأخيرة من القرن الماضى دخل النفط وأمواله على الخط فى المجتمع الثقافى بمصر، فصال وجال ومازال يصول ويجول ويعيث فسادًا بتنا نجنى ثماره المرة بتراجع دور مصر الثقافى واضمحلال قوتها الناعمة.

قلائل هم الذين تماسكوا داخل المجتمع الثقافى، وحافظوا على أقدامهم ثابتة راسخة على أرضيته فلم يتغيروا أو يتلونوا أو يميلوا مع من مال هنا وهناك، ومن هؤلاء شعبان يوسف الذى عرفته منذ ما يزيد على أربعة عقود مضت، فقد التقيته منذ أن كان طالبًا بالمعهد العالى للتجارة الخارجية بالزمالك، وكان وقتها منخرطًا فى الحركة الطلابية الجامعية بقوة، وهى حركة الغضب والرفض لاحتلال سيناء من قبل العدو الصهيونى، والمطالبة بضرورة استرجاعها، فكانت الإضرابات والمظاهرات طوال حرب الاستنزاف مع العدو، وهى الحرب التى توجت بنصر أكتوبر العظيم سنة ١٩٧٣.

منذ أن عرفته فى ذاك الزمن القديم، وشعبان يوسف من القلائل جدًا الذين عرفتهم بالمجتمع الثقافى وظلوا محافظين على جوهرهم دون تغيير أو تبديل طوال الوقت، ومنهم بالمناسبة الفنان التشكيلى الراحل محمود بقشيش، فلقد ظل شعبان كما هو كأى إنسان مصرى عادى يمكن أن تلتقيه أو تصادفه فى الطريق ولا تجد تعريفًا له، غير أنه مواطن مصرى كتب الشعر، لكنه لم يتغير مثلما تغير العديد من الشعراء أبناء جيله أو أجيال أخرى، والذين سرعان ما خلعوا جلابيبهم الفلاحية، وأطلقوا شعورهم، وصالوا وجالوا بقمصانهم الملونة داخل المقاهى وبارات المدينة وهم يتحدثون عن شعر الحداثة وما بعد الحداثة، فشعبان لم «يتحفظ ولم يتزفلط» مثلما يقول أحمد فؤاد نجم عن هؤلاء الشعراء وأمثالهم من الجالسين على مقهى ريش، وهو لم يطارد فتيات المجتمع الثقافى، ويطرح نفسه كشاعر دونجوان كما فعل بعضهم، فلم يكتب الحائية والبائى، ولم يهد ديوانًا لسيدة ورود حمراء، ولكن المواطن شعبان يوسف تزوج من فتاة سليلة أسرة كادحة، وكانت هى أيضًا عاملة بمصنع تجميل لكنها لا تصنع مساحيق تجميل وأنجب أربعة أبناء، ويعمل موظفًا بالحكومة حتى سن المعاش، دون أن يسعى للعمل بمجلة أو جريدة لأنه شاعر ومثقف ويأنف من العمل الحكومى البيروقراطى، وقد فعلها غيره كثيرًا، إذ بمجرد أن تنشر لأحدهم قصة أو قصيدة بجريدة حتى يسارع معلنًا معاناته فى العمل الحكومى وضرورة انتقاله إلى عمل ثقافى ملائم، ومعظم الذين يتبوأون مناصب ثقافية اليوم إنما جاءوا من حيث ظل ثابتًا فى مكانه موظفًا بالحكومة شعبان يوسف.

لم يسافر شعبان يوسف للعمل ببلد من بلدان النفط - وقد أتيحت له الفرص كثيرًا - ليعود بعد سنوات ويصبح من أصحاب البيوت الفاخرة والسيارات الفارهة، لكنه ظل يسكن بمنزل أبيه بعين شمس، ويعيش حياة بسيطة متواضعة مع زوجته وأولاده، يقرأ ويكتب ويصبح ظاهرة داخل المجتمع الثقافى، لأنه إلى جانب الشعر الذى أصدر من خلاله عدة دواوين، دأب على وضع عدد لا يستهان به من الكتب، استحق بسببها لقب المؤرخ الثقافى والمؤرخ الأدبى، إضافة إلى الناقد الأدبى، وبات لديه إنتاج مدهش وهو الذى سعى طوال الوقت إلى تكوين مكتبة ضخمة ابتاع معظم كتبها من قوت عياله ودخله المحدود، ولكن يظل الدور الثقافى الأكثر إدهاشًا لشعبان يوسف هو دأبه المذهل على إدارة ورشة أدبية ثقافية لأكثر من أربعين سنة، أسبوعًا بعد أسبوع وهو دور يحتاج إلى جهد كبير وإمكانات غير عادية ووقت ليس بقليل وورشة الزيتون التى احتضنها شعبان هى بالحقيقة عمل مؤسسى الطابع وتحتاج إلى تضافر جهود وتوزيع أدوار ليس بالسهل، لكن شعبان نجح فى إدارتها ومواجهة كل الصعوبات التى واجهتها على مدار السنين، حتى باتت هذه الورشة معلمًا من معالم المجتمع الثقافى المصرى الراهن.

من ورشة الزيتون خرج عشرات المبدعين، الذين بات بعضهم مؤثرًا فى الثقافة المصرية الآن، وقد دفع شعبان عديدًا من الناس الذين لم يكن لهم علاقة بالثقافة أو الإبداع، ليقتربوا من هذا العالم الجميل المدهش وليتفاعلوا معه بطريقة أو بأخرى، لقد وضعهم شعبان على طريق الخلاص.. الخلاص من همومهم ومشاكلهم ومآسيهم أحيانًا.

ظل شعبان يوسف كما هو ومنذ عرفته فى ذاك الزمن البعيد، كما هو، مواطنًا مصريًا لم يتغير جوهره، يمد يده للجميع دون حسابات، وهو يسارى الثقافة بالأصل، لكنه لم يعش أبدًا بعقلية طائفية يسارية ضيقة الأفق، كما فعل البعض، بل ظل منفتحًا على الجميع يحكمه البعد الإنسانى فى المقام الأول، وظل حبه للناس وعطاؤه الغيرى للجميع هو أساس فلسفته فى الحياة، لذلك صادق الجميع، ومد يده للجميع دون أن تكون له جماعة أو ثلة معينة، لذلك فهو حالة فريدة ومدهشة تستحق التقدير والاحترام، وبالمناسبة فشعبان يوسف لم يحصل على أى جائزة فى يوم من الأيام، وأظن أن جائزته الكبرى كانت، وستظل دائمًا، هى حب الناس وتقديرهم له.