أم المشاكل

خلال فترة وباء كورونا، التى نتمنى ألا يعيدها الله علينا وعلى البشرية جمعاء، زاد عدد سكان مصر قرابة نصف مليون نسمة خلال عدة شهور قليلة، وذلك وفقًا لخبر نشرته جريدة الأهرام بصفحتها الرئيسية الأولى آنذاك.
لم يكن ذلك غريبًا على المصريين الذين يزداد عددهم بشكل لافت ومخيف، فأرقام المواليد فى حالة تصاعد صاروخى سنة بعد أخرى، وتصريحات وزير الصحة المطمئنة والتى تفيد أن المواليد فى حالة تناقص لا تطمئن فهى تصريحات لا تضع فى اعتبارها عزوف قطاع كبير من الشباب عن الزواج، بسبب عوامل اقتصادية واجتماعية متباينة، فالنقص فى المواليد خلال السنة الأخيرة لم يكن نتيجة رؤية وتفهم للمشكلة السكانية فى مصر ومحاولة لحلها حلًا استراتيجيًا بعيد المدى، وعمومًا، فوزير الصحة لم يفصح عن الجهود التى قامت بها وزارته لخفض عدد المواليد فى وقتنا الراهن.
المتوقع أن يصل عدد سكان مصر فى عام ٢٠٥٠ إلى مائة وخمسين مليون نسمة، وهو رقم مخيف، ولكن يبدو أن الجميع قد كلوا وملوا من الحديث عن مشكلة الزيادة السكانية فى مصر، وهو حديث قديم يعود إلى ستينيات القرن الماضى، فخلال الستينيات تلك، كان الكلام يجرى عن ضرورة تنظيم النسل داخل كل أسرة وليس عن تحديده، وخلال التسعينيات من ذات القرن كان هناك ما يسمى بالمجلس الأعلى للسكان، والذى كان يرأسه وقتها الدكتور ماهر مهران، وقد تلقى هذا المجلس أموالًا طائلة من هيئات دولية مختلفة، وكان يصدر مجلة الصحة والسكان، ولكن لم تُلمس أية جهود فعلية له على أرض الواقع، ومعظم الأموال صرفت على هيئة رواتب ومكافآت للهيئة الإدارية لهذا المجلس، والتى كان العاملون فيها من المحاسيب والمناسيب.
الزيادة السكانية المتزايدة، تكون ترجمتها الفعلية على أرض الواقع هى الزيادة ثم الزيادة فى ارتفاع منسوب الفقر، وتراجع حجم الخدمات ومستواها من قبل الدولة بالنسبة للمواطنين، وهو الأمر الذى يتجاهله الجميع، ويضعون رءوسهم فى الرمال حتى لا يرونه، فأهل اليسار والمتشدقون بالحداثة برأيهم أن الزيادة السكانية خير كبير لأن الثروة البشرية هى أغلى ثروة تمتلكها بلد من البلدان، ويشيرون إلى الصين المعجزة العملاقة، ورأيهم أن الدولة هى العاجزة والفاشلة فى إدارة الموارد الطبيعية والبشرية، أما المحافظون والمرتكزون إلى مرجعيات دينية فيواجهون أية محاولة للنقاش فى المشكلة السكانية بآيات قرآنية مثل «وما دابة فى الأرض إلا على رزقها» أو بحديث نبوى شريف « تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإنى مباهـ بكم الأمم يوم القيامة».
الزيادة السكانية تظل لذلك مشكلة لا تراوح مكانها، وتخرج لسانها للجميع طوال الوقت، وهى مشكلة ثقافية بالأساس تتعلق بقيم ومفاهيم الناس، التى يعود كثير منها إلى عهود قديمة، وإلى ظروف اقتصادية لم تعد موجودة الآن، فعندما كانت مصر بلدًا زراعيًا بالأساس، فإن زيادة النسل كانت ضرورة لحاجة ذلك العمل إلى أيدٍ عاملة كثيرة، ولم تكن الميكنة فى ذلك الوقت موجودة، وهذا الأمر اختلف الآن ولكن الإصرار عليه والإصرار على أن كثرة الإنجاب دليل دامغ على فحولة الرجل وأنوثة المرأة، إنما هو نوع من الحماقة، يدفع ثمنها الجميع، وهناك من يظن أن زيادة عدد الأبناء يعنى المزيد من الارتباط الأسرى، وسيمنع الرجل من الزواج بواحدة أخرى، غباوة تثبتها الوقائع طوال الوقت، لكن لا أحد يسعى جادًا لمواجهة أفكار من هذا النوع وغيرها من الأفكار المؤدية لزيادة النسل وحالة الانفجار السكانى المزمنة، والقطاعات الخدمية مهما فعلت فلن تستطيع مواكبة هذا التضخم الدائم فى عدد السكان، فرغم أن الدولة نجحت فى القضاء على فيروس C، وكانت هذه معجزة حقيقية، ومع أن التأمين الصحى تتسع مظلته وتمتد لتشمل قطاعات أوسع وأكبر من قطاعات الشعب، إلا أن الزيادة السكانية ستظل تتحدى أية جهود حقيقية فاعلة فى القطاع الخدمى الصحى، وكذلك فى القطاع التعليمى، فجودة التعليم المطلوبة تظل بعيدة المنال وخصوصًا التعليم الحكومى الرسمى، والموافقة على تمدد التعليم عبر الأزهر ومدارسه أو كتاتيب الأوقاف سوف يعمق المشكلة ويجذرها بسبب المرجعيات الدينية المعروفة.
وعلينا أن نتساءل: هل ستستطيع الدولة مواكبة هذه الزيادة على المستوى الاقتصادى أيضًا؟. هل يمكنها الاستمرار فى دعم رغيف الخبز والسلع الأساسية طوال الوقت؟
يقفز البعض بحلول للمشكلة السكانية من نوع: يجب أن ننتج، يجب أن نصنع، وهذا حقيقى ومطلوب ولكن تنفيذه ليس من الأمور السهلة الممكنة، وإن كانت الدولة بدأت تسعى إلى ذلك خلال السنوات الأخيرة، ولكن هل هذا وحده سيحل المشكلة؟
من البديهات الأولية أن الارتقاء بمستوى المعيشة وجودة الخدمات من المؤشرات الأساسية على السعادة فى مجتمع من المجتمعات، والسؤال هنا: كيف نرتقى بمستوى المعيشة والزيادة السكانية فى حالة التهام دائم للموارد الطبيعية بكل أنواعها؟
الإعلام يسكت عن هذه المشكلة الخطيرة، التعليم لا يطرحها كمشكلة اجتماعية ثقافية تهدد الأجيال المقبلة، الجماعة الثقافية والاتجاهات المستنيرة لا تضعها على برامجها، ومع كل زيادة سكانية فنحن نتقدم للخلف، ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى لا تتقدم بآليات عمل حقيقية لمواجهة الأمر. أين المجلس القومى للمرأة؟ أين مجلس الطفولة والأمومة؟ أين وزارة الصحة ووزيرها الذى يعنيه شكر الحكومة أولًا عندما التقى بمرضى الفشل الكلوى، فيبدو أنه والجميع من أصحاب قناعة: ليس بالإمكان أبدع مما كان.