الثلاثاء 01 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

الحريات الخاصة

حرف

لا يبالى معظم الناس فى مجتمعنا بقضية الحريات الخاصة، وهناك من يتحسس جدًا، وتدخله الريبة، إذا أعيدت أمامه هذه القضية فى نقاش ما بالصدفة، أما المثقفون والمعنيون بالشأن السياسى، فهم يفضلون مناقشة موضوع الحريات العامة، ويعتبرون أن النقاش حول الحريات الخاصة، إنما هو نوع من الترف، وثرثرة لا لزوم لها.

يتخوف المحافظون قيميًا دائمًا من إثارة قضية الحريات الخاصة، فمواقفهم المسبقة منها، تسد عليهم الطريق لسماع أى جمل مغايرة لتصورهم عنها، وهؤلاء يعتبرون الحريات الخاصة مسألة تتعلق بالجنس أو الدين، وهذا من المحرمات التى يجب السكوت عنها، واستخدام طريقة حلق حوش عند تناولها، فالجو بديع وقفل على كل المواضيع.

ولا شك أن موضوع الحريات الخاصة، موضوع حساس وشائك، ومعقد جدًا فى مجتمع قديم تاريخه متراكم كالمجتمع المصرى، الذى عاش أبناؤه على مدى العصور، يشتغلون بالعمل الزراعى النهرى المنتج لقيم محافظة تفضل التكرارية والثبات وعدم التغيير، لكن إذا ما نحينا من الحريات الخاصة ملفى الجنس والدين، لأن ذلك يستلزم سجالات ومواجهات وتباين وجهات نظر لا حد لها، وتناولنا الحريات الخاصة من منظور حدود تصرفات الفرد وسلوكه المشروع والممنوع ضمن محيطه المجتمعى فإن ملف الحريات الخاصة سوف يستلزم فى هذه الحالة وقفة وتأملًا ونقاشًا مطولًا، إذ إن الحريات الخاصة فى وقتنا الراهن، بلغت مرحلة كبيرة من التردى والتخبط وصارت بحاجة فعلية إلى نقاش مجتمعى موسع، ففى الشوارع ووسائل المواصلات والأماكن العامة صار العديد من الناس يتصرفون ويسلكون وكأن لا أحد سواهم فى الفضاء العام، فلقد أصبح من العادى أن يتحدث شخص أو عدة أشخاص بأعلى صوت، فى وسيلة مواصلات عامة بها عشرات الناس كالمترو، ودون مراعاة لوجود الآخرين الذين ربما كانوا متعبين أو بحاجة إلى قدر من الراحة والهدوء، ومن المألوف أن يلقى راكب سيارة فارهة بقشرة موز من شباك سيارته، وربما يبصق آخر على الطريق، وفى كل مكان حتى فى البيوت والعمارات الكبيرة هناك أشكال وألوان من اعتداءات صارخة على حرية الآخرين، وقد يرى البعض أنها مجرد قلة ذوق ونقص تربية، وبالطبع الأمر لا يحتاج إلى ضرب أمثلة وإيجاد تمثيلات لهذا الكلام، فالجميع يعانى والمتابع لصفحات التواصل الاجماعى، سيجد مطالبات واستغاثات تتعلق بانتهاكات يومية للحريات الخاصة، فصاحب محل يحتل مدخل عمارة ببضاعته، وآخر يضع مظلة تمنع الساكن فوقه من نشر غسيله.. إلخ ومعظم الجنح والجرائم التى تسجلها أقسام الشرطة، تندرج تحت مسمى انتهاكات الحريات الخاصة، فهذا يركن سيارته أمام مدخل محل فتنشأ معركة قد تستخدم فيها الأسلحة، وهؤلاء يتشاجرون بسبب لعب العيال ساعة القيلولة، أما الميكروفونات وأجهزة الدى جى، فيمكن أن تقتحم أى بيت فى أى وقت تشاء.

سيقول قائل: هذه سلوكيات الناس، والأمر لا يتعلق بالحريات الخاصة، ولكن أليس سلوك الناس أمرًا قائمًا على أساس من قيم ومفاهيم تتعلق بحدود حرية الفرد ضمن حرية الآخرين، ومساحة هذا الفرد من الحرية ضمن مساحة الآخرين؟

تبدو الحريات الخاصة فى مصر وكأن لا ضابط ولا رابط لها، فأى شخص يمكنه بث أغان وموسيقى من سيارته فى عز الليل بأعلى صوت، ويجوب بها الشوارع والطرقات دون مراعاة للنائمين أو المرضى، والغريب أن لدينا قوانين تمنع كل ذلك التعدى على الحريات الخاصة وتجرمه، والشكاوى والبلاغات عن ذلك فى أقسام الشرطة لا تنقطع، ولكن ماذا تفعل الشرطة مع استمرار وتكرارية هذه الأمور، هل ستضع شرطيًا فى كل شارع ليراقب تصرفات الناس؟ فى بعض المناطق والشوارع وضعت كاميرات مراقبة لكن تمت سرقتها.

ليت هناك دراسة علمية تناقش الخسارة الناتجة عن غياب الانضباط فى الشارع المصرى وعلاقتها بمفهوم الحريات الخاصة، وهى خسارة لها جوانبها الاقتصادية أيضًا، فهناك شوارع تم رصفها بملايين الجنيهات سرعان ما عادت إليها الحفر بسبب سوء الاستخدام والغسل اليومى للسيارات بخراطيم المياه، وغير ذلك.

والغريب ورغم كل هذه القنوات الإعلامية، وكل هذا التنوع فى وسائل التواصل فلا أحد يناقش مفهوم الحريات الخاصة، ومستواها المتردى فعليًا، والذين يصدعوننا بالحداثة هل تساءلوا ما هى تجليات هذه الحداثة فى مفاهيم الناس وقيمهم الدافعة لسلوكهم داخل المجتمع؟ أليست الحداثة هى بناء بشر، يسلكون سلوكًا يستبين من خلاله حدود حريتهم، وحدود حرية الآخرين؟ ماذا يفعل التعليم؟ ماذا تفعل المؤسسات الدينية؟ هل نحتاج إلى تغيير القوانين أو تغليظ الموجود بالفعل منها؟ أين مجلس الشعب ونوابه؟ أسئلة كثيرة لا إجابات عنها إلا بحوار مجتمعى موسع.