السبت 16 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

الكفر بمصر.. رحلة الإسلام السياسى من حسن الساعاتى إلى محمد إلهامى

حرف

- الجماعة تعتبر مصر مثل باقى الدول العربية والمسلمة «أرض كفرٍ وحرب»

- اتهام أحفاد الساعاتى وقطيع سيد قطب بالخيانة الوطنية هو اتهامٌ ساذج جدًا لأنهم فى الأساس كفارٌ بكلمة وطنية وكلمة وطن تمامًا

- الإخوان ولدوا فى مصر ويحملون بطاقات هويتها وسوف يقومون بدور حصان طروادة فى أى لحظة يرون أنها مناسبة

- يعتقدون أن بداية تحقيق الحلم لحظة انهيار الحدود المصرية وتدفق أعضائهم من شتى بقاع الأرض إلى مملكة الله

- الإخوان يرون الأولوية لإسقاط القوات المسلحة المصرية

عفوًا فالإخوان المسلمون ليسوا خونة، وأيقونتهم الجديدة محمد إلهامى ليس معتوهًا!، وذهول بعض المصريين مما سمعوه من أحاديث قطبهم الجديد، إنما يدل على أن هؤلاء المصريين لم يزالوا بعيدين كل البُعد عن إدراك حجم المأساة، أو إدراك كينونة هذه الجماعة ومعها غالبية ما يُعرف بجماعات الإسلام السياسى، سواء من جاهر منها بمبدأ استخدام السلاح كوسيلة للوصول، أم من ادعى غير ذلك!

الخائن صفة تُطلق على من اعتنق معتقدًا فى الظاهر، ثم أتى أفعالًا تعارض معتقده. أما جماعة الإخوان، فهى ومنذ نشأتها، لم تؤمن أصلًا بفكرة الوطن. وما يعتقده بعض المصريين- أفرادًا أو هيئات- من أن بعض أعضاء الإخوان يريدون الخير لمصر لكنهم ضلوا الطريق أو تم خداعهم عن طريق بعض قادتهم، ليس إلا وهمًا وسقوطًا فى الفخ. منذ مؤسسها الأول حسن الساعاتى، ومن خلال عباراته الواضحة القاطعة، اعتنقت الجماعة فكرة لم تتغير إطلاقًا عبر العقود السابقة حتى الآن. هذه الفكرة أن أعضاء الجماعة يجب أن يتحرروا أولًا من كل أفكارهم السابقة لانتمائهم للجماعة حسب مقولة «إن الإسلام يجبُّ ما قبله»، وأنهم قد اعتنقوا الإسلام من جديد، وأن المجتمع هو صورة من مجتمع مكة قبل الإسلام. وأن الطريق الذى يجب أن تسكله الجماعة- بصفتها الجماعة المؤمنة ونواة الدولة الجديدة المنشودة- يجب أن يكون مشابهًا لطرق النبى «صلى الله عليه وسلم» وسيرته- حسبما يرون هم- حتى قيام الدولة الإسلامية. وردت هذه الأفكار فيما يسمى برسائل الإمام للطلاب المنتمين للجماعة. ثم حددت الجماعة مفهوم أرض الإسلام بأنها لا يُشترط أن تكون ذات غالبية مسلمة، وإنما تلك التى يُحكم فيها المسلمون بأحكام الشريعة، حسب مفهوم الجماعة لقوانين وأحكام الشريعة، وأن أرض الكفر هى التى يتم فيها التحاكم بالطاغوت- أى قوانين غير قوانين الشريعة حسب مفهومهم- حتى لو ادعى كل سكانها أنهم مسلمون. وعلى هذا الأساس قد تكون أرض الإسلام- فى بداية الدعوة وقبل أن تتحقق لجماعة المسلمين القوة اللازمة- هى إمارة صغيرة فى مربع سكنى مثل ميدان رابعة، أو مساحة أوسع كسيناء مثلًا، أو قطعة من سوريا- لها قوانين خاصة ذاتية فى دولة أكبر قد يحكمها يهود أو كفار أو أى ذوى ملة أخرى. ثم تبدأ هذه المجموعة فى العمل على تحقيق أسباب القوة على الأرض والتمدد والانتشار حتى تتمكن من فتح باقى الإمارات والدول، كما فعل المسلمون الأوائل. وبناءً عليه، فأى أفكار عن قداسة الوطن والأرض والولاء لها بالمفهوم الذى نفهمه- نحن المصريين- هو بالنسبة للجماعة ومفكريها وتابعيها مجرد بواقى معتقدات جاهلية تجب محاربتها. فكيف نتهمهم بخيانة معتقدٍ هم منذ البداية كافرون به؟! هم ليسوا خونة، هم أعداءٌ صريحون للمصريين أو لأى شعب يؤمن بالوطنية أو الولاء للأرض، فهم للمصريين مثلًا سواءً بسواء مع أى أعداء يعلنون عداءهم لمصر. 

الذين يعلقون الجرس فى رقبة سيد قطب، وأنه هو من جنح بالجماعة إلى هذا الفكر، يخطئون تمامًا ويظلمون الرجل!؛ لأن ما فعله سيد قطب لم يكن سوى إزالة بعض مساحيق التجميل اللغوية عن عبارات حسن البنا. حسن البنا كان مراوغًا براجماتيًا أكثر من سيد قطب، وأراد فى السنوات الأولى لجماعته أن يتسلل بنعومة فى خلايا المجتمع المصرى، فاستخدم عبارات ناعمة، فمثلًا بدلًا من كلمة إجبار الناس على اعتناق معتنقه، استخدم فى إحدى رسائله كلمة «أخذ الناس بشتى الطرق والوسائل الممكنة لذلك». وبدلًا من استخدام كلمة كفار لنعت غير أعضاء الجماعة، استخدم عبارة «مَن لم يؤمن بما نؤمن به فليس له من فكرة الإسلام شيئًا وعليه أن يبحث عن فكرة أخرى!»، أما سيد قطب فقد كان تصادميًا، معقدًا نفسيًا لأسباب كثيرة، وباحثًا عن الاستيلاء على مكانة حسن البنا فى الجماعة بخطابٍ ثورى عنيف. لكن كلًا منهما لم يخرج عن إطار الفكرة الأصلية.

ألقى سيد قطب بها صريحة دون مواربة، فقال: «المسألة فى حقيقتها مسألة كفر وإيمان..جاهلية أو إسلام.. الناس اليوم ليسوا مسلمين كما يدعون، والدعوة اليوم إنما تقوم لرد هؤلاء إلى الإسلام من جديد»، «والمجموعة المؤمنة هى مَن ستتولى إعادتهم للإسلام، ويجب أن تكون للتجمع الجديد قيادة جديدة تمثلت فى شخصية رسول الله، ومن بعده كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله، ويجب أن يخلع كل من يشهد الشهادتين ولاءه من التجمع الجاهلى ومن قيادة ذلك التجمع فى أى صورة، سواء فى صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتى كانت لقريش!». 

وسيد قطب قدم للباحثين خدمة كبرى بقيامه بصياغة الفكرة بصراحة و«غشومية» فى مؤلفه الأشهر معالم فى الطريق. أطلق على دار الإسلام مصطلح «مملكة الله» وأسهب فى وصفها بشكلٍ صريح مبسط ربما يصدم كثيرًا حتى من أتباع الجماعة الآن، ليس فى مضمونه وإنما فى سياسة كشف الغطاء الغشيمة التى اتبعها. مما وصف به مملكة الله أنها تخلص ساكنها «تخلصه من وشائج الأرض والطين، واللحم والدم، فلا وطن للمسلم إلا الذى تقام فيه شريعته، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته.. وما عداها هى دار كفر وحرب.. علاقة المسلم بها إما القتال أو المهادنة». «فالوطن دارٌ تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله، والجنسية عقيدة ومنهاج حياة. وأما شعب الله المختار حقًا فهو الأمة المسلمة التى تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان».

لذلك فكل المشاهد التى رأيناها، مؤخرًا، وأذهلت بعض المصريين مثل مشهد هؤلاء الذين جىء بهم من شتى بقاع الأرض إلى أرض تلك الدولة العربية الآسيوية التى وصل فيها أحد ممثلى تيار الإسلام السياسى للحكم، وأبيحت لهم دماء باقى المواطنين، أو مشاهد القتلى غير المصريين فى المواجهة بين القوات المسلحة المصرية والميليشيات فى سيناء، لم تكن إلا ترجمة حرفية لهذا الفكر وتلك العقيدة التى يؤمن بها تقريبًا كل من يؤمن بأفكار الإسلام السياسى. وعباراتٌ مثل أن الماليزى المسلم مثلًا أقرب للمصرى المسلم من المصرى المسيحى، هى عباراتٌ غير مبالغة وتمثل حرفيًا هذه العقيدة الكامنة فى قلب كل من يعتقد معتقد الإسلام السياسى حتى لو لم يبح بها صراحة!

من أين استقى حسن الساعاتى أو سيد قطب هذه الفكرة؟، وما السند الذى ساقه سيد قطب لشرعنة الفكرة فى عقول قطعان أتباعه؟ من المهم أن نعرف ذلك بنص عباراته.. لقد ساق عشرات الآيات القرآنية التى تقص سير مختلف الأنبياء فى هذا الفصل من كتابه الذى يحمل عنوان «جنسية المسلم وعقيدته»، وفى تبرير إنكاره فكرة الانتماء الوطنى ووجوب التبرؤ منها يستند إلى قصة سيدنا إبراهيم مع قومه، فيقول: «وهكذا تتعدد الأمثال فى جميع الوشائج والروابط.. وشيجة الأبوة فى قصة نوح، ووشيجة البنوة والوطن فى قصة إبراهيم، ووشيجة الأهل والوطن فى قصة أصحاب الكهف..، لم يعد وطن المسلم هو الأرض، إنما عاد وطنه هو (دار الإسلام)، فهى الدار التى تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها بشريعة الله، فهى الدار التى يدافع عنها ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها. والأرض التى لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هى دار حرب يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده وفيها قرابته من النسب والمصاهرة وفيها أمواله ومنافعه». 

 إلهامى أعاد بعبارات واضحة أفكار الساعاتى وسيد قطب بمفردات وأسماء اللحظة الراهنة

لقد بنت الجماعة، ومَن يعتقد معتقدها، بناءها على أساسٍ منحرف كاذب. افترضت الجماعة- ممثلة فى صاحب الدعوة كما يلقبونه حسن الساعاتى، ومن بعده خليفته الفكرى سيد قطب- افتراضًا بنت عليه كل بنائها الفكرى واجتهد فقهاؤها وعلماؤها- وكثيرٌ منهم أزهريون- فى تفصيل فتاوى تشرعن للجماعة كل ما اقترفته طوال سيرتها. هذا الافتراض أن مصر قبل نشأة الجماعة حتى الآن كانت- مثل باقى الدول العربية والمسلمة - أرض كفرٍ وحرب، وأن الأعضاء الأوائل للجماعة يوازوون جيل الصحابة الأوائل. فكل تصرفاتهم بهذه الصفة لها ما يشرعنها دينيًا! أليسوا- طبقًا لهذا الجنون - فى مقام الصحابة وصاحب دعوتهم هو خليفة الرسول فى القيادة؟! 

وأن هذا الافتراض- وبعيدًا عن سيرة النبى «صلى الله عليه وسلم» والصحابة- يستند أيضًا لقصص الأنبياء. فالجماعة فى بدء نشأتها مثل الأنبياء فى بدايات دعواتهم! وفى الكفر بالوطن استندوا إلى قصة سيدنا إبراهيم وقومه التى نعرفها والذين كانوا يعبدون الأوثان ورفضوا دعوته ووضعوه فى النار! باختصار فقد ساوى سيد قطب بين المصريين وقوم سيدنا إبراهيم الكفار عبّاد الأوثان الذين وضعوا خليل الله فى النار! هذا ليس افتراء من على الرجل، بل نص عباراته دون تحريفٍ فى اللغة أو المعنى. يقول إنه يجب على مَن يعتنق فكرته أن يتحرر ويتبرأ من روابط الوطن والدم، كما تبرأ خليل الله من روابط الوطن والدم بينه وبين قومه!

لذلك فاتهام أحفاد الساعاتى وقطيع سيد قطب بالخيانة الوطنية، هو اتهامٌ ساذج جدًا لأنهم فى الأساس كفارٌ بكلمة وطنية وكلمة وطن تمامًا، مثل أن نتهم ملحدًا لم يعتنق يومًا ديانة بعينها بأنه مرتد عن هذه الديانة مثلًا! الوطنية عقيدة كفرت بها الجماعة منذ نشأتها حتى الآن.. هذه هى الحقيقة المجردة.

هل جماعة الإخوان فقط هى من تؤمن بذلك؟ لا أعتقد. أى جماعة دينية مسلمة ترى خلطًا بين التاريخ الإسلامى والدين الإسلامى، وترى أن قيام الدول ينبغى أن يكون على أساس دينى تؤمن بما أتت به جماعة الإخوان. 

«إذا كانت الوطنية هى عبادة الطين أو الأرض، وإذا كانت القومية هى عبادة اللغة التى ننتمى إليها، فإن الإسلام هو عبادة الله مباشرة وتطويع الأرض لله وتطويع القومية لله. إن الحدود المفروضة بين دول الإسلام الآن هى أقفاص حديدية تُحبس فيها الأمة الإسلامية وتُسجن فيها هذه الأمة العزيزة. هذه الأسوار لا بد أن تزول يومًا ما. تزيلها الشعوب على طرفى الحدود، وربما إزالة الحدود بين أذربيجان السوفيتية وإيران المسلمة هى إرهاصة بما سوف يحدث يومًا ما وعلى نطاق العالم الإسلامى!». أتذكر مع هذه الكلمات كل مشاهد الجماعة واتفاقها على التنازل لقطع من أرض مصر شرقًا أو جنوبًا، ومشهد التحريض على اقتحام الحدود من إخوان غزة صباح السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م.

هذه الفقرات من مقال بعنوان «القومية الإسلامية»، كتبه د. فهمى الشناوى- الذى قيل عنه إنه متشيع وإنه طبيب- ومنشورٌ فى كتيب «المختار الإسلامى» إحدى مطبوعات جماعة الإخوان الشهيرة، عدد شهر يوليو ١٩٩٩م. لا أدرى إن كان الرجل لا يزال على قيد الحياة الآن ورأى ما فُعل بإيران وأذرعها أم لا. لكن ما كتبه فى مقال طويل مهم لكى نفهم أن فكرة الكفر بالأرض أو الوطن ليست فكرة حصرية على جماعات الإسلام السياسى السنى، لكنها فكرةٌ عامة، والفارق ربما يكون بين الجناحين السنى والشيعى هو فى تفصيلة جانبية خاصة بتعريف الإسلام الصحيح الخاص بكلٍ منهما، وبالتبعية فإن الاحتكام إلى شريعة هذا الإسلام الصحيح لدى كل جانب هو الفيصل فى تحديد أرض الإسلام!

فى لقاء بالتليفزيون المصرى من سنوات قليلة فى شهر رمضان المبارك مع قيادة دينية رفيعة جدًا جدًا، تم توجيه سؤالٍ محدد لتلك القيادة الدينية عن حديث عودة الخلافة. أتت إجابته صادمة لى تمامًا، لأننى وفى عام ٢٠١٥م كنت قد بحثت هذا الحديث فى كتب أكاديمية متخصصة، وخلصتُ إلى ما قدمته فى كتابى الصادر نفس العام «الجلمود». خلاصة ما استقر إليه يقينى- بناءً على ما قرأت- أن الحديث قد رُوى بصيغتين، الأولى مختصرة نُسب فيها للنبى «صلى الله عليه وسلم» عبارت تفصل ما سيحدث بعده من أن الحكم سيكون خلافة راشدة ثم يتبعها مُلك. هذه الصيغة تحظى بنسبة مصداقية كبيرة بين علماء الحديث طبقًا لعلم الإسناد. بينما أتت الصيغة الثانية أطول لفظًا وهى الأكثر شهرة الآن، وقد أضيفت إليها عبارات تنتهى بعبارة «ثم تعود خلافة راشدة تعم الأرض». هذه الرواية الأطول التى يتمسك بها منظرو وفقهاء ما يسمى بجماعات الإسلام السياسى، طعن فى صحتها علماء الحديث واستندوا إلى وجود ضعف فى أحد الرواة، مما يضرب مصداقية نسبتها للنبى «صلى الله عليه وسلم». وبعضهم أضاف أنها حتى لو صحت فقد ورد فى نفس الرواية أن خلافة عمر بن عبدالعزيز هى المقصودة بتلك العودة.

أجابت تلك القيادة الدينية المصرية إجابة مراوغة ملخصها عدم إنكار رواية عودة الخلافة، لكنها رأت أنها ربما تعود فى ثوبٍ عصرى مثل اتحاد الدول الإسلامية أو مؤتمر الدول الإسلامية أو غيرها من الصور العصرية.. إجابة هذه القيادة الدينية المصرية الرسمية الرفيعة تمثل جزءًا من أزمة المصريين فى العقود السابقة لوصول الجماعة للحكم. لأن كثيرًا من رجال الدين والأئمة والوعاظ الرسميين وفى تلك العقود المذكورة أسهموا بقوة فى مساندة فكرة الجماعة عن مفهوم الوطن، وذلك بطريقٍ غير مباشر لكن كان له تأثيرٌ كبير فى خلق ظهير شعبى يؤمن بفكرة عامة هى أن شباب الصحوة الإسلامية- كما كان يطلق العلماء على أعضاء الجماعات الإسلامية رغم حملها للسلاح واقترافها جرائم إرهاب مسلح- على حقٍ فى أفكارهم بالعمل على عودة الخلافة، لكنهم أساءوا استخدام الطريق! 

الإيمان بأن المسلم عليه وجوب الاعتقاد بعودة الخلافة الإسلامية هو الشق الثانى من تلك الفكرة عن «دار الإسلام ودار الكفر»، وهو الشق الناعم غير المستهجَن من المصريين الذى تؤيده عماماتٌ كبرى خارج وداخل مصر. جماعة الإخوان تجهر بها وتحاول تنفيذها على الأرض بالقوة وبالتحالف مع الشيطان ذاته، بينما تتسلل الفكرة بشكلٍ متدرج إلى خلايا المصريين العقلية والروحية عبر الاعتقاد بأن ما نعيشه منذ سقوط إمبراطورية العثمانيين حتى الآن إنما هو مرحلة سياسية عارضة، وستعود مصر جزءًا من خلافة إسلامية راشدة شاملة

نصل لما شاهده المصريون، مؤخرًا، لهذه الشخصية النموذجية لسوفت وير الإسلام السياسى وعلى رأسه جماعة الإخوان.. محمد إلهامى. ملخص ما شاهده المصريون هو أن إلهامى يرى أن محاربة ما أسماه بنظام السيسى أو محاربة مصر أولى من محاربة إسرائيل، ولو أن الأمر بيده لطلب من حماس أن تفعل ذلك، وهو بالفعل قد طلب من أحد قياداتها ذلك وزين له الأمر بأن ما جعلهم قادرين على مواجهة الجيش الصهيونى- وهو الأقوى من وجهة نظره- يجعلهم يواجهون الجيش المصرى. وفى مقطع آخر تحدث عن قناة السويس بصفتها مشروعًا استعماريًا. 

فلما ووجه حديثُه هذا باستنكارٍ مصرى كبير قام بمساندته يحيى موسى بقوة ووصفه بأنه «أحد أبرز المفكرين وأكثرهم ارتباطًا بالمنهج الفكرى للحركة، ومن يهاجمون الرجل يصعب عليهم فهم معانى كلماته وإدراك مغزاها ومقاصدها».

أتفق تمامًا مع ما قاله يحيى موسى بأن حديث إلهامى هو الأكثر ارتباطًا بالمنهج الفكرى للحركة وليس فقط جماعة الإخوان. وأزيد عليه أن أى مصرى يدعى الثقافة أو حتى التعلم لو صُدم من حديث إلهامى وتأييد يحيى موسى فهو- أى هذا المصرى المثقف- عليه أن يعيد تثقيف نفسه، وإن كان من النخبة التى توجه الرأى العام أو تصوغ الوعى الجمعى، فعليه أن يتنحى جانبًا أو على الأقل يتوقف حتى يكمل إعادة تأهيل نفسه للقيام بهذا الدور. فلا إلهامى مجنونًا ولا يحيى موسى مجاملًا له. إلهامى فقط أعاد بعبارات واضحة أفكار الساعاتى وسيد قطب بمفردات وأسماء اللحظة الراهنة. وأنا أشكره جدًا على ذلك لأنه أيقظ من كانوا على وشك السقوط فى فخٍ متكرر عشرات المرات فيما يقرب من قرنٍ كامل هو عمر الجماعة. 

فطبقًا للفكرة الأم، هم يرون أن السيسى كرئيس يمثل الطاغوت وأن القوات المسلحة المصرية هى جيش الطاغوت وهى جيش السيسى- ولفظ جيش السيسى مختارٌ بدقة لتفكيك فكرة احترام المصريين لقواتهم المسلحة بنزع صفة المصرية عنها- وأن أرض مصر حاليًا بشعبها وحكامها وقوانينها هى أرض كفر ودار حرب. كما أنها أى مصر تقف كحجر عثرة- بحكم قوتها المسلحة وتماسك جبهتها الداخلية وموقف الشعب من الجماعة- دون تمكين الجماعات المؤمنة أو جماعة الإسلام من مقدرات مصر، وهى المقدرات التى يمكنها أن تقودهم فيما بعد لفتح البلاد الأخرى وإقامة دولة كبرى تواجه اليهود تلك المواجهة المرتقبة حين ينضم الشجر والحجر إلى جيش المؤمنين وينطق كل منهما قائلًا: يا مسلم هذا يهودى ورائى فاقتله إلا شجر الغرقد! 

الجماعة تعمل للتشكيك فى كل ما يمثل نقاط قوة مصرية من قوات مسلحة

لذلك يرى إلهامى- مثل يحيى موسى وكل مخلص لأفكار الإسلام السياسى- بأن مواجهة جيش السيسى «القوات المسلحة المصرية»، والسيطرة عليها أو تفكيكها والسيطرة على معداتها وذخائرها وقوتها أولى من أى مواجهاتٍ أخرى. هم يرون أن ما يحدث على الأرض فى فلسطين يتفق تمامًا مع معتقدهم الدينى بأن يتجمع اليهود هناك وربما يهدمون المسجد حتى تتحقق النبوءة، وعليهم فى هذه الفترة أن يعملوا بكل قوة على الاستعداد لتلك اللحظة بهدم الدولة المصرية أو ما يسمونه «نظام السيسى». 

هم يعتقدون أنهم فى فترة إقامة تحالفات مع صور الشيطان المختلفة «صهيونية، أمريكية، إنجليزية» حتى يحققوا هدفهم الأهم، وحينها تصبح قوة الإسلام- ممثلة فيهم قطعًا- مكافئة للقوى التى سيواجهونها. هذا البناء الفكرى راسخٌ تماما فى عقولٍ تمت السيطرة عليها منذ زمنٍ وتناقلته الأجيال الجديدة وتم غرسه فيها منذ الصغر. هذا البناء الفكرى هو المستتر خلف تلك الابتسامات الصفراء الباهتة حين تتحدث مع عضو فى الجماعة عن مصر الوطن وعن الشعب وعن التاريخ والحضارة.. وهو الرابط الذى يربط بين جميع تيارات الإسلام السياسى عبر العالم مع اختلاف اللغة والجنس والأرض التى لا تُعد لهم سوى مخلفات الجاهلية، وهم يريدون دولة «أبوبكر العربى وصهيب الرومى وبلال الحبشى وسلمان الفارسى وإخوانهم الكرام»، حسب التعبير الحرفى لسيد قطب. لقد تلبست هذه الفكرة- بأنهم خلفاء الصحابة وممثلوهم الحقيقيون وممثلو الإسلام الحقيقيون- الرعيل الأول من القادة وتوارثتها الأجيال.

تم وضع حسن الساعاتى وجماعته حتى اليوم تحت السيطرة الكاملة لمخابرات أجنبية

حين تلقفت أجهزة المخابرات الإنجليزية وما تلاها هذا الساعاتى، لم تكن هذه الأجهزة بالسذاجة التى يتصورها بهاليل الجماعة والموالون لها. كانت تعلم تمامًا فكرة الساعاتى وطموحاته وأصل فكرته، وما الذى ألهمه إياها سواء من التاريخ القديم- الجماعات الباطنية- أو التاريخ المعاصر للمملكة العربية الكبرى التى قامت على تحالف السيف القبلى مع إمامٍ دينى أراد أيضًا إرجاع القبائل للإسلام وهى الفكرة التى اقتبسها حسن الساعاتى ورأى فيها مقاربة مع بدء الإسلام. لقد احتوت أجهزة المخابرات فكرة حسن الساعاتى وبدأت العلاقة بينها وبينه، ثم بين خلفائه بالخارج وبينها أشبه بمشهد إسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسى فى أحد الأفلام الكوميدية.. من منهما سوف يستطيع تنويم الثانى مغناطيسيًا! بالقطع حُسمت حلبة المناطحة مبكرًا جدًا وتم وضع حسن الساعاتى وجماعته حتى اليوم تحت السيطرة الكاملة. يتم مد الحبل للجماعة من حماية وإقامة ولجوء وأموال ومنابر إعلامية، وعلى طريقة النخاس اليهودى يأتى بعد أن تحصل الجماعة على ما أرادت ثم يطلب المقابل وهذا المقابل ليس للجماعة الحق فى معرفة أسبابه عليها فقط أن تنفذ.. وحين يرى جهاز المخابرات أن الجماعة أو غيرها من الجماعات قد قامت بتنفيذ الغرض يتم التخلص منها بسهولة مضحكة ثم تبدأ حلقة جديدة من تنطيط القرد الإخوانى على السلك السياسى للقيام بعرضٍ محدد تمامًا مسبقًا. الساذجون من المدافعين عن الجماعة أو حتى بعض أجيالها الجديدة يعتقدون أن المرحلة الحالية هى فترة انتقالية فقط لإعداد القوة وهناك فترة تمكين قادمة ولا شك ويستندون فى ذلك إلى روايات وتفسيرات بشرية لأفكار دينية وإلى تصور وصل إليه حسن الساعاتى وهو يفكر بمفرده فى غرفة نومه أو صاغها سيد قطب فى زنزانته! يقومون بهدم دول بكاملها استنادًا إلى هذه الرؤى وهم على يقين بها كأنها وعودٌ قرآنية صريحة! 

حديث إلهامى عن قناة السويس يمكن اعتباره نموذجًا مثاليًا لكيفية تعاطى كبار مفكرى الجماعة مع فكرة وأحداث التاريخ. ففى التاريخ الإسلامى تجد أن كل أفكار سيد قطب- التى بناءً عليها تم تجنيد ملايين المصريين وغير المصريين حتى الآن، واقتراف آلاف الجرائم الإرهابية وإرهاق أرواح عشرات الآلاف من المسلمين وغير المسلمين، وتدمير أوطانٍ كاملة، وإضعاف الدول العربية لصالح القوى الاستعمارية- قد بنيت على قراءته الشخصية لفترة النبوة وبعض سنوات الخلافة الراشدة. اعتبر أنه وجماعته قادرون على إعادة استنساخ هذه الفترة- كما قولبها فى عقله وهو جالس فى حديقة السجن- وأن عدم استنساخها هو استمرارٌ فى الكُفر. تجاهل هو وكل مفكرى الجماعة ثلاثة عشر قرنًا، ما يسمونه هم أنفسهم عصر الخلافة الإسلامية. يتجاهلون وقائع التاريخ الذى يطالبون الناس الآن بإعادة استنساخه. صراعاتٌ دموية نتج عنها عشرات الآلاف من الضحايا المسلمين، مظالمٌ تفوق فى بشاعتها ما تقترفه الآن العصابة الصهيونية ضد مسلمين وأهل ذمة كانوا يعيشون فى أوطانهم التى غزاها العرب أو المسلمون. حتى سنوات النبوة قرروا أن ينحوا جانبًا حقيقة أنه نبى مرسل لا يحق لغيره ما يحق له بصفة الوحى الإلهى، وتجاهلوا سيرة النبى «صلى الله عليه وسلم» الداعية للتعايش والتسامح، وتجاهلوا حقيقة أن فترة بناء الدولة الأولى قد انتهت، وأن جميع فترات الدولة الإسلامية التالية إنما كانت- وبنص الحديث المنسوب للنبى ويتمسكون به- ممالك ودويلات يحكمها ملوك بالوراثة، كما كانت بها خلافات فقهية حول أحكامٍ وسياسات، وأن الدول المعاصرة أو مصر تحديدًا لم تخرج فى نظامها العام عن كونها دولة مسلمة. هذه طريقة الإخوان فى تناول التاريخ. 

حين تحدث نابغتهم الجديد وكاشف سترهم الفكرى محمد إلهامى عن قناة السويس اتبع نفس النهج. لقطة أو فقرة من صفحات التاريخ عن كيفية الموافقة على المشروع. لكنه أثبت جهلًا يليق بجماعته بتاريخ منطقة خليج السويس منذ العصور القديمة حتى سنوات ما قبل حفر القناة. كانت مصر دائمًا ممرًا تجاريًا عالميًا منذ العصور القديمة. وصنع المصريون السفن قبل كل جيرانهم فى إفريقيا وآسيا. وغزوا البحرين الأحمر والأبيض تجاريًا منذ قرونٍ طويلة قبل الميلاد. وكانوا يقومون أحيانًا برحلة تشبه رحلة السفن عبر قناة السويس الآن بحمل البضائع بحرًا ثم حملها برًا على ظهور الحيوانات ثم استكمال الرحلة بحرًا مرة أخرى. وكانت هذه أحد أهم موارد الدولة المصرية حتى عصر محمد على باشا. والثابت أن التجارة البحرية البرية المشتركة كانت أهم مورد لدولة المماليك، وكانت لصوصية المماليك وسطوهم على بضائع التجار الفرنسيين إحدى أهم ذرائع نابليون لغزو مصر كما ورد فى أول خطاباته للمصريين.

جهل محمد إلهامى بتاريخ مصر الحقيقى جعله يردد بجرأة الجاهل أن حكام مصر منذ العصور القديمة رفضوا المشروع! والثابت تاريخيًا أن فكرة ربط البحرين بقناة مائية هى فكرة مصرية قديمة خالصة وقد نفذها المصريون بالفعل حتى وإن لم تكن فى نفس مسار القناة الحديثة. والأهم أن نهر النيل كانت له أفرعٌ أخرى قديمة، على الأقل واحدٍ منها كان يمتد للبحر الأحمر. وآخر يُعتقد أنها مسار فرعون فى مطاردة موسى «عليه السلام».

الحقيقة الثانية أن القناة تم حفرها بأيدٍ مصرية فأصبحت حقيقة واقعة وإنجازًا مصريًا وموردًا مصريًا استرده المصريون فى أول فرصة تاريخية. ومنذ استرداد القناة فلقد أصبحت السيادة عليها من تمام السيادة على مصر ورمزًا لاستقلالها، خاصة أن القناة تمر داخل أراضٍ مصرية. كانت قناة السويس يوم الموافقة على حفرها فكرة استعمارية من منظورٍ واحد فقط وهو الربط بين أوروبا وبين باقى العالم والوصول إلى مستعمرات الدول الغربية بحرًا فى رحلة متصلة. لكنها فى نفس لحظة اتخاذ قرار حفرها كانت مشروعًا تجاريًا عالميًا أو حلمًا تجاريًا عالميًا. ولو لم يتم حفرها فهل كانت طول المسافة بين أوروبا وبين مستعمراتها ستمنع الاحتلال أو تقضى على فكرة الاستعمار؟! قطعًا لا، لكنه التشكيك فى كل ما يمثل نقاط قوة مصرية من قوات مسلحة وموارد اقتصادية للوصول لغاية محددة وهى زعزعة يقين المصريين بكل هذه النقاط حتى يسهل مهاجمتها أو حسب أوهامهم تفكيكها.

لا يمكن الحديث عن هذه الأفكار دون الإشارة إلى ارتباطها بما يجرى حاليًا على الحدود الشرقية المصرية. من نهج الإخوان ومعتقدهم أن الطريق للوصول لغايتهم لا بد أن يكون محفوفًا بالدماء. إما دماء أهل الطاغوت أو دماء شهدائهم. إنهم يرون اللحظة الراهنة وكأنها فرصة ذهبية لهزيمة فكرة الأرض والحدود والحصول على قطعة أرض تصلح لأن تكون نواة لمملكة الله فى سيناء، ومن أجل ذلك فهم مستعدون لأى شىء مهما بدا مستغربًا مستهجنًا بين غير المنتمين روحيًا وعقائديًا لأفكارهم. لأنهم يكتفون بمن يؤمنون مثلهم ويعتقدون أنهم لا يحتاجون لشرح أو تفسير مواقفهم، فهناك شفرة تربط بينهم. يعتقدون أن بداية تحقيق الحلم هو لحظة انهيار الحدود المصرية وتدفق أعضائهم من شتى بقاع الأرض إلى مملكة الله. وأنه لو حدث ذلك فستكون أول صلاة يصلونها هى صلاة النصر العسكرى وسوف يصلونها بالأزياء العسكرية. كل ما يثار عن قصة إدخال المساعدات- لدرجة القيام بمشاهد يراها البعض كوميدية أمام سفارات مصر وسفارة مصر فى تل أبيب- هو من قبيل الشىء لزوم الشىء! بل على العكس تمامًا مما يبدو لنا، فليس من صالحهم أن يتم إدخال المساعدات وتخفيف الضغط على السكان ولا من صالحهم أن ينسحب الاحتلال من غزة أو يتم الوصول لاتفاق. لأن تحقيق أى من هذا معناه إجهاض الحلم المنتظر تحقيقه على أرض سيناء!

أزمة النخبة فى مصر- فى الإعلام وفى خطاب بعض صحفيى الشأن السياسى- هى أنهم لا يزالون بعيدين عن توجيه الخطاب الموجع بشكلٍ حقيقى للجماعة، الخطاب الذى كشفه فى بضع دقائق محمد إلهامى! ليسوا مصريين- حتى لو ولدوا فى مصر ويحملون بطاقات هويتها- وسوف يقومون بدور حصان طروادة فى أى لحظة يرون أنها مناسبة. والمؤسف أننا قبلنا- حتى الآن- أن نضيف إليهم أعدادًا من غير المصريين!