شهرة طاغية وثروة هائلة وجهل مركب.. ثلاثى الهلاك الجديد

- غياب فكرة فريق العمل المؤسسى ينهى كيانات اقتصادية كبرى
- مطربة ذات صوت مصرى قوى أصيل سقطت فى فخ «هرتلة التصريحات» عن بلادها
يخطئ من يظن أن الفقر وحده هو الاختبار الإنسانى القاسى. فالثروة الهائلة المفاجئة اختبارٌ قد يكون أقسى، خاصة إذا ما امتزجت بثنائية الشهرة الطاغية والجهل المعرفى المذرى. محنة الفقر تتستر بانحسار دائرة الضوء، أما محنة الثروة مع الشهرة الطاغية فلا ستر لها.
منذ سنواتٍ وصل لاعب كرة قدم مصرى فى وقتٍ قياسى إلى تحقيق لقب هداف الدور الأول من الدورى الإنجليزى مهددًا عروش الكبار، لكن النجم الذى اخترق سماوات الضباب سرعان ما انطفئ بنفس السرعة.. كان يمكن لهذا اللاعب أن يصل لما وصل إليه محمد صلاح بعد ذلك بسنوات وفى نفس البلد.
مطربة ذات صوت مصرى قوى أصيل سقطت فى فخ «هرتلة التصريحات» عن بلادها وهى تقف على مسرح دولة أخرى تتهيأ للغناء لجمهور تلك الدولة. ثم تكرر سقوطها فى نفس الفخ مرات حتى أصبحت أخبار سقوطها فى فترة من الفترات تطغى على أخبار موهبتها.
مشهد السقوط الكبير للفنان الذى منح نفسه هذا اللقب المراهق الساذج «نمبر وان» لم يكن الأول ولن يكون الأخير فى هذه السلسلة من مشاهد السقوط لبعض الذين كان يمكن لهم أن يسطروا لأنفسهم تاريخًا لا يتكرر. سذاجة إصراره على اللقب «نمبر وان» يكشف جزءًا من الأزمة.. لم يدرك أولى بديهيات مجاله الفنى من أنه لا يوجد فنان واحد يمكن أن يكون رقم واحد، لكن هناك قائمة من الفنانين يشكلون قائمة «نمبر وان» مجتمعين.

لقد خسرت مصر بسقوط هؤلاء خسارة لا تقل عن خسارتهم، لكن أزمتهم فى جزئها الأكثر قتامة أنهم لا يدركون أنهم خسروا وأنهم سقطوا، لأنهم اختصروا النجاح فى صورته الأكثر سذاجة والأكثر قابلية للانزواء والنسيان وهى الصورة المادية. يعتقدون أن نجاحهم يقاس بحجم أرصدتهم البنكية وعدد ما يمتلكون من سيارات فارهة أو حتى طائرات خاصة، وما تتزين به رقابهم الذكورية من قلائد ذهبية تنافس ما تتحلى به رقاب النساء! ينسون أن تجار المخدرات وأحيانًا اللصوص بشتى أنواعهم ينافسونهم وربما يتفوقون عليهم فى هذا المضمار، كما ينسون أن مجدهم- كفنانين ومبدعين- لن تخلقه سوى ما يخلفون خلفهم من أعمال إبداعية، وما يمثلونه كشخصيات عامة فى مجتمعهم.
هناك قائمة كبرى من فنانين ورياضيين وساسة كتبوا بأنفسهم شهادات سقوطهم وأجهضوا مسيرتهم- المحلية أو الدولية- قبل اكتمالها وبلوغها ما تستحقه الموهبة التى منحها لهم الله من مكانة.
لاعبو كرة أسقطتهم جلسات المتعة الحرام فسقطوا. فنانات جذبتهن أموال الرجال فخنَّ وأهن أنفسهن وموهبتهن وأصبحن مواد صحفية ملتهبة لعشاق الفضائح.
ساسة شباب أو كبار فتنتهم أضواء الكاميرات والتعجل للحصول على مناصب لم يستحقوها بعد فعقدوا صفقات مع الشيطان متوهمين أن يحقق لهم قفزات حرامٍ عاجلة فسقطوا للأبد.
هناك كلمة سر أو عامل مشترك فى كل هذه القصص الحزينة. أن النمو المعرفى والثقافى والتوعوى فى هذه الحالات لا يتناسب مع تضخم الشهرة وتضخم الثروة. يتحول أداء كل منهم لفظيًا حين يتحدثون، وتصبح اختياراتهم المهنية- مقارنة بما هو متوقع منهم مجتمعيًا- أشبه بسلوك وأداء ونمو طفل لديه تأخر عقلى. ينمو جسديًا لكنه يتصرف تصرفات طفل صغير توقف عقليًا عند مرحلة معينة لا يتخطاها. نتعاطف مع هذا الطفل لأنه سقط ضحية مرض لا ذنب له به وهو قدر، لكننا لا نتعاطف مع هؤلاء النجوم لأن الذى سقطوا فيه لم يكن مرضًا قدريًا إنما كان اختيارًا طوعيًا أو استعلاءً عن الجد فى بلوغ النمو المطلوب، أو فى أحسن تقدير هو تكاسل عن أداء متطلبات الشهرة والمجد والمال.
فى أيام خروج المصريين على مبارك، نشرت جريدة أسبوعية حوارًا مطولًا مع مطربٍ شاب شهير وقتها، وفى الحوار سألته الجريدة عن سبب عدم انضمامه إلى المتظاهرين فى ميدان التحرير. جاءت إجابته صاعقة للقراء. لم يعلن عدم قناعته بالخروج، وإنما قال بلهجة جادة تأكيدية أنه لو خرج لخرجت خلفه الملايين! تم استخدام هذا المطرب والدفع به- بعد هذا الحوار- للنزول لميدان التحرير لإقناع المتظاهرين الشباب بالعودة فتم الاعتداء عليه! كان حديثه نموذجًا لمن تضخمت شهرته بينما توقف نموه المعرفى العام وقتها عند مرحلة طفولية ساذجة وتم استغلال ذلك من آخرين.
حين تُفتح أبواب الشهرة على مصراعيها- عن استحقاق وجدارة أو عن طريقة صناعة محترفة- أمام فتاة عادية، أو شاب كان أقصى طموحاته أن يتزوج بنت الجيران فى شقة إسكان متوسط، ثم تأتى الشهرة بتلال الأموال فجأة، تصبح هذه الفتاة أو ذلك الشاب فى محنة حقيقية.
ومثلهما فى ذلك مَن احترف السياسة شابًا فمنحته الشهرة والأضواء مبكرًا يصبح أيضًا فى محنة. ومثله مَن يظل عمره يحلم بتلك الأضواء والمناصب السياسية فينقضى شبابه دون بلوغهما، ثم فجأة تصعقه تلك الشهرة ويجد نفسه ضيفًا على البرامج ونجمًا تلتف حوله أجيال شابة لم تعرف تاريخه يصبح أيضًا فى محنة، لكنها أقسى على النفس.
فى تلك اللحظة التى تدهم هؤلاء جميعًا فيجد كل منهم نفسه وقد أصبح نجمًا تطارده الكاميرات وتلاحقه الأموال، يكون أمام طريقين لا ثالث لهما. الأول ما سلكه أمثال محمد صلاح، والثانى ما سقط فى شركه كل من أشرت إليهم وأمثالهم.

الطريق الثانى هو أقرب للنفس الإنسانية غير المروّضة وغير المستقرة. هو الطريق الذى يدغدغ المشاعر ويشبع نقائص سنوات الحرمان، وأحيانًا يعوض الإحساس بالتهميش وعدم القيمة، وأحيانًا ثالثة يُشبع مشاعرٍ سلبية تراكمت عبر التعرض لمواقف خاصة أدخلها صاحبها فى غرفه الشخصية المغلقة بداخله لكنها تنهش هذا الداخل.
هذا الطريق يتحلل خلاله من يسلكه من كل قيود طلب المعرفة، وكل ما من شأنه أن يروض تلك المشاعر الخفية. يصبح أحدهم عاشقًا لمن ينافقه ويُسمعه ما يحب من كلمات وألقاب حتى لو استخدمه هذا المنافق لمصالحه الخاصة، حيث يصبح هناك اتفاق ضمنى بتبادل مصالح الإشباع. يستكبر هذا الممتَحَن أن يجلس متعلمًا أمام أى أحد، ويرى أنه بشهرته وأمواله أكبر من الجميع ويستطيع شراء الجميع بهذه الشهرة والأموال.
هذا النموذج يحتقر قيمة التعلم والعلم، ويجد متعة شخصية فى إهانة هذه القيم وأصحابها. وحين يتجرأ أحدهم ويصدق النصح له بأن يقوم بتلقى دروس مثلًا فى السياسة والتاريخ، أو حتى فى مجال فنه، يسخر بشدة وربما ينقلب بقوة ضد هذا المتجرئ. فهو يرى أنه النجم الذى لا يخطئ، وأنه الذى يمنح ويمنع، ويرى أنه قد حقق كل شىء، وبهذا يصبح ذا سقف طموحٍ مهنى- بالتقييم الفعلى للقيم الحقيقية لفنه أو مهنته- محدود. ويجد متعة أخرى فى الانتقام النفسى ممن يشبهونه فى حياته الأولى وينتمى فعليًا إليهم.
تتضخم الذات ذات العقل الفارغ، وتتضخم الشهرة، وتتكدس الأموال بينما يظل نموه المعرفى مراهقًا لا يتناسب بعد فترة مع ما بلغته هذه الشهرة وتلك الثروة.
أما الطريق الأول- الأصعب والذى لا يطرقه فى مصر سوى العدد الأقل- فهو طريق الذين كان لهم حظٌ فى حياتهم الأولى بالتمتع بقسطٍ قيمى غالبًا أسرى يؤهلهم للتحلى بتلك العزيمة التى ستكون لها الكلمة الفصل فى اللحظة الحاسمة.
هم تمتعوا- رغم ضيق ذات اليد ماليًا سابقًا- بدفء أسرى وعلاقات أسرية سابقة صحية معتدلة صالحت أرواحهم مع الآخرين ونزعت عنهم أو تلاشت بسببها آثار أى خبرات سلبية سابقة. هم بشرٌ عاديون تمتعوا بطموحٍ كبير وقرروا خوض الطريق الصعب.
حين يصل هؤلاء إلى مشارف نفس الباب الذى بلغه سالكو الطريق الآخر، يفرحون فرحة معتدلة متزنة يدركون معها أن ما بلغوه ليس نهاية المطاف، إنما فقط طرقٌ لبابٍ طالما حلموا بطرقه، ويدركون أن خلف الباب طريقًا طويلًا صعبًا. يفكرون فى نقطة واحدةٍ تكون شغلهم الشاغل. هذه النقطة هى ما الذى عليهم فعله لتجهيز أنفسهم للسير فى هذا الطريق. هذه نقطة الخلاف بين سالكى الطريقين، وهذا هو مفترق الطرق أو مفرق الطريقين. سالكو طريق محمد صلاح يقودهم طريقهم لما وصل إليه الملك المصرى عالميًا، وسالكو طريق نمبر وان يقودهم إلى هذا المشهد الذى شاهده المصريون وأشفقتُ عليه منه. وأشفقت عليه أكثر حين حاول الخروج من المأزق فأثبت أن كل ما كتبته الآن صحيح، وأن المشهد لم يكن عارضًا إنما تجسيدٌ لمأساة الاختيار فى بدء المحنة! حاول الخروج من مأزق مشهده الأخير بعبارةٍ تمثل سقف ثقافته المراهقة، وعدم اقترابه من مرحلة نضج عقلى تقارب ما بلغته شهرته وما وجده بين يديه من ثروة!
«التيم ورك» أو فريق العمل.. مصطلح يلخص المأساة لحظة الاختيار الأولى. تلك اللحظة التى يقف خلالها أحدهم للمرة الأولى- وقبل أن تتضخم الذات والثروة ويحترق بأضواء الشهرة- على عتبات الباب ويهم بفتحه.

غياب هذا المصطلح هو مأساة كثير من أفراد النخبة فى مصر. حين يصل أحدهم- كممثل أو مغنٍ- إلى تلك المرحلة الأولى عليه أن يدرك أنه إن أراد فتح الباب ينبغى أن يكون مؤسسة أو منظومة متكاملة.
موهبته هى ملكية خاصة له، أما سيرته، واختياراته، وعقله، وحديثه حين يتكلم، ومواقفه المجتمعية، وسيرته خارج بلاده، كل ذلك سيصبح منذ تلك اللحظة أقرب لحق أو ضريبة المجد والشهرة والمال. كل ذلك سيصبح- لمن يريد بلوغ ذروة درجات المجد- ملكية عامة. فعليه إن أراد ذلك وقبل أن يقتنى السيارات الفارهة أن يختار فريق العمل المؤسسى الذى سيقوم أفراده بتحويل الشخص إلى مؤسسة تتناسب قيمتها مع قيمة الموهبة وتضاعفها بأكثر أدوات العلم والعصر تقدمًا. عليه أن يضم فى فريقه أساتذة لغة وتاريخ وفنون وثقافة عامة وأساتذة سياسة وصحافة وإعلام وأساتذة إتيكيت. عليه أن يجلس أمامهم متعلمًا متهذبًا بأدب المتعلم. عليه أن يقرأ ويسأل ويفهم ما يجرى حوله من معارك فنية ومواقف الدول المحيطة بمصر. عليه أن يتعلم كيف يتحدث، وكيف يختار الأعمال التى سيشارك بها، وكيف يرتدى ملابسه، وكيف يتعامل مع محنة الشهرة ويجتاز الاختبار، وأن يتعلم جشعًا وشرهًا واحدًا محمودًا وهو جشع الطموح الفنى والمهنى، وأن يرتفع بسقف هذا الطموح إلى ما لا نهاية.
على فريقه أن يستفز موهبته دائمًا بأن هناك من فاقوه ولم يبلغ مبلغ ما بلغوه بعد. فريق العمل عليه أن تكون له الكلمة العليا، ليس فى السمسرة من الموهبة، لكن فى فرض رؤيتهم على صاحبها حتى لا يهين تلك الموهبة. وترويض نزعات نفسه وتهذيبها ليؤدى حق شكر الموهبة بصيانتها والارتقاء بها. هذا ما فعله صلاح، وهذا ما لم يفعله الآخرون. وهذا ما يفتقده المصريون بصفة عامة.
هذه المعضلة المصرية المعاصرة لم يكتوِ بنارها الموهبون فى مجالات الفن والرياضة فقط، إنما أصحاب المواهب والصناعات المختلفة.
بعض الأثرياء- خاصة المحدثين منهم- يسقطون فى هذا الاختبار سقوطًا كبيرًا فى طرق إدارة أموالهم. النظرة الفردية الذاتية تجعل كثيرًا منهم ينظرون إلى محنة الثروة وكأنها ملكية مطلقة خاصة، وهذه النظرة حولت المجتمع إلى مجتمع استهلاكى يصل فى بعض طبقاته إلى مستوى السفه الاستهلاكى. تمامًا كمن ينظر لموهبته نفس النظرة. المال الشخصى هو فى مجموع ما يملكه الأفراد يمثل جزءًا من اقتصاد أى دولة. وكيفية إدارة الأموال يمنح كل دولة شخصية معينة، فيثقلها بالاستهلاك السفيه أو يعمل على تقوية هذا الاقتصاد بتحويل المال إلى مصادر إنتاج وتوظيف.
وغياب فكرة فريق العمل المؤسسى ينهى كيانات اقتصادية كبرى قامت على عاتق شخصٍ واحد اعتقد فى نفسه العبقرية المطلقة، فحين يغيبه الموت يسقط ما شيده.
مواهبٌ كثيرة لا نعلم عنها شيئًا سقطت فى بدء الطريق لغياب ثقافة فريق العمل، فخسرت مصر من مجموع سقوط هؤلاء جزءًا من قوتها الناعمة.
عدم تأهيل المواهب بالثقافة والوعى قاد أصحابها لأن يصبحوا أشبه بخناجر فى قلب الدولة المصرية بدلًا من أن تصب مواهبهم فى صالح هذه الدولة وقوتها الناعمة.
مجموعة واعدة من الصحفيين ظهرت فى فترة واحدة فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات. كان لهم حظٌ فى التلمذة على أيدى بعض صنايعية الصحافة الكبار، وكان الباب أمامهم ينتظر من يطرقه ويقوم بأداء حق طرقه. لكن بعضهم سقط فى نفس الفخ، وأعتقد أنه قد بلغ مراده وغاية طموحه ووضع لنفسه هدفًا للاستفادة المالية المجردة مما أعتقد أنه قد بلغه فى بلاط صاحبة الجلالة. مرت العقود وأصبح كل منهم مغموسًا فيما سعى إليه. فمنهم من أسس لمدارس صحفية جديدة، ومنهم من انشغل برصيده البنكى، ومنهم أيضًا من سقط فى فخ تضخم الذات. كان يمكن لمصر الآن أن تكون متربعة على عرش الصحافة العربية كما كانت فى عهودها السابقة لو تحول كل واحدٍ من هؤلاء إلى كيانٍ مهنى مستقلٍ بذاته متفردٍ بمدرسته الصحفية!
جمعنى نقاشٌ مع صديقة صحفية ففصلت لها أسماء هؤلاء، ومَن منهم كان موهبة شرهة، ومَن منهم كان مرتزقًا، ومن منهم ضبط بوصلة قلمه على ما يهوى أهل السطوة والنفوذ دون أن تكون له شخصية فكرية واضحة!

وبلاط صاحبة الجلالة الآن يضج بجيل جديدٍ أزعم أن كثيرًا منهم سقط فى الاختبار حين لم يقم بتطوير نفسه بطريقة أن يكون له «تيم ورك» يتولى تأهيله. وفى مهنة الفكر والمعلومة ما أيسر أن يكون فريق العمل هذا مجموعة منتقاة من مصادر ومراجع العلوم الإنسانية من تاريخ وسياسة واستراتيجية وأدب وديانة.
إن سقوط بعض صحفيى مصر فى مشاهد سياسية مراهقة وغير منضبطة ولا تواكب حقيقة اشتغالهم بمهنة البحث عن المعلومة والحقيقة ونقلها للعوام، إن مشاهد هذا السقوط لا تختلف عن مشاهد سقوط هذا الفنان أو تلك المغنية. فمفردات السقوط وطرقه تختلف حسب طبيعة كل موهبة ومهنة وصنعة. سقوط الفنان يأتى فى مشهد مثل مشهد نمبر وان، وسقوط مغنية يتخذ شكل تصريحات عبثية، أما سقوط مشتغلين بالكلمة والمعلومة والبحث عنها فيأتى فى شكل مشاهد أو فعاليات سياسية كما رأينا ونرى!
وعالم العلوم الإنسانية كعالم الدين لديه نفس الفرصة ويمر بنفس الاختبار، وفى لحظة فارقة إما أن يتحول إلى عالم حقيقى مجتهد مجدد يفيد مجتمعه، أو أن يبقى مجرد ناقلٍ لاجتهادات من سبقوه يدافع عنها بتصلب لأنه فى الحقيقة يدافع عن شرعية لقب عالم الذى يمنحه نفوذه الروحى. وكم خسرت مصر بانزلاق كثير ممن نطلق عليهم لقب علماء فى هذا الفخ. فهناك فارقٌ بين حاصل على درجة أكاديمية وبين عالم. أعتقد وبشكل شخصى أن العلماء صناع العلم وليسوا ناقليه أو حافظيه لغويًا، لأن النقل والحفظ يحتاج ذاكرة قوية، أما صناعة العلم فيحتاج إلى مواهب أخرى وتطوير للذات.
والحسن يظهر حسنه الضد، فماذا لو تخيلنا أن علماء مصر فى غالبيتهم قد انضموا إلى فئة العلماء الحقيقيين فأصبحت مصر كسابق عهدها وتحولت إلى قبلة للباحثين عن تجديد روح هذا الدين، بدلًا من أن يصبح المشهد كما نرى الآن.. يسبقنا الآخرون ويركضون ببلادهم ركضًا بينما تتم محاولة سجن عقل وروح مصر فى أقفاص حديدية من أفكار عتيقة قديمة برعاية ناقلى بعض العلم وحراس الجمود!
إن سقوط علماء العلوم الإنسانية المفترض تمتعها بحيوية دائمة لا يقل عن سقوط أهل الفن والثقافة والفكر، ويتخذ سقوطهم أيضا صورًا تتناسب مع هيئتهم وتخصصهم، فيأتى فى صورة دفاعٍ مستميت عن أفكار خارج التاريخ وخارج حركة التطور الإنسانى!
والسياسى أو البرلمانى الذى يتوقف نضجه ونموه المعرفى السياسى عن لحظة البدء، ولا يكون له فريق عمل يكمل تأهيله، لا يفرق كثيرًا عن باقى مشاهد الذين سقطوا من أهل الفن!
والذى يتولى موقعًا إداريًا مهمًا ويتم تخويله اتخاذ قرارات كبرى يمكنه أن يسقط بمؤسسته أو أن يخرج بها إلى نقطة انطلاق كبرى.
وهكذا يمكننا أن نفرد حبات المسبحة، ونستعرض كل علم وكل فن وكل صنعة، ونستعرض كيف سقط من سقط ونجا من نجا رغم قلتهم. فمن مجموع حبات هذه المسبحة تتكون شخصية كل أمة حضاريًا. ومن نتاج إنجاز أهل كل فن وحرفة وصناعة يكون إنتاج الأمة وموقعها بين الأمم التى تعاصرها.
وهكذا أيضًا يمكننا أن ندرك سر أزمة مصر التى يروق للبعض أن يعلقها فى رقبة قيادتها، وكأن مصر قد خلت من سكانها وعقولها ومواهب وسواعد أبنائها!