بعيدًا عن أرض النفاق.. لقاء عابر مع يوسف السباعى على مقهى الأحلام المكسورة فى المقطم!

- السباعى: لم أكتب يومًا لنفسى كتبت للحب للناس
- لا تكتب لتُرضى أحدًا ولا لتُصفّق الجماهير بل اكتب لأنك تحمل نارًا
أسكن غير بعيدٍ عن بيته القديم فى المقطم.. ذاك البيت الصامت المُطلّ على القاهرة من علٍ، والذى كتب فيه رُد قلبى وأرض النفاق ونائب عزرائيل، وصاغ فيه الحلم المصرى بلمسة إنسانية تليق بفارسٍ لم يخشَ الحب ولا الحرب.
كنت أمر من أمامه كثيرًا.. وأتساءل: هل ما زالت روحه تسكنه؟ هل الحيطان تتذكر؟ هل النوافذ ما زالت تعرف دفء الكلمات؟
كان المساء ثقيلًا، يحمل فى طياته بؤسًا لا يُطاق، وشعورًا غريبًا يخنق الحروف، أراجع أوراقى القديمة، وأتساءل: إلى مَن أكتب؟ وهل بقى مَن يقرأ؟ الكلمة أصبحت كالصراخ فى الفراغ.. لا صدى، لا أثر.. حتى الوجع بات مبتذلًا، حتى النُبل أصبح سخرية... صراع داخلى لا أدرى كيف خرج من رأسى، ليمتدّ فى يدى المرتجفة.. كأننى أكتب ضدّ الكتابة.
وطالما كتبت، حين رأيت الناس ينهارون من الداخل، لا من قسوة الأيام، بل من رخاوة الضمير، كتبت حين رأيت الأخلاق تُستبدل بالمنفعة، والمروءة تُبادل بالمنصب، والحق يُساوَم عليه فوق الموائد، والحياء يُذبح على عتبة المصالح، وكتبت وأنا أرى الصدق يُسخَر منه، والإخلاص يُوصم بالغباء، والفساد يمشى فى الضوء، لا يتخفى، بل يُصفَّق له.

رأيت الدين يُباع، لا فى سوق الفقراء، بل فى صالونات المنافقين، حيث تُجمَّل الخيانة بثياب الوقار، ويُستثمر الإيمان فى مشاريع النفوذ، وصارت العقيدة تُفصّل كما تُفصّل الملابس، حسب المقاس والمقام.. كتبت وكأننى أستخرج كلماتى من نخاع العظم، كل سطر كان نزيفًا، كل جملة كانت وجعًا لا يُقال.
كتبت عن وجع الوطن، وقلق الروح، وخوف الأب على ابنه من هذا الزمن المعطوب، لكن الكلمات كانت تُلقى فى فراغ.. الآذان من صخر، والقلوب تحت جليدٍ لا يلين.. صرختُ كثيرًا، حتى اختنقتُ من صدى صوتى يعود إلىّ وحدى، وتساءلت: هل أكتب لنفسى؟ أم أنفخ فى رمادٍ لا يرجو نارًا؟
ثم غفوت.. أو هكذا خُيّل لى.
وجدتنى على مقهى غريب الاسم، لم أزره من قبل، ولا أظنه موجودًا على خارطة المقطم.. كان اسمه مكتوبًا بخطٍ عربى أنيق «مقهى الأحلام المكسورة» وهناك على الطاولة الوحيدة المطلة على هاوية الروح، كان يجلس يوسف السباعى.
كان كما تخيّلته دومًا: بدلة أنيقة، عيون حالمة، وابتسامة لا تشى بحجم الألم الذى عاشه.. كما لو أن الحياة ما زالت جديرة بالحب.. أشار لى بالجلوس، فجلست كمن يدخل محرابًا أدبيًا لا يُدنسه الضجيج.. سألنى بهدوء: تبدو مثقلًا يا صديقى... أتشكو من الكتابة؟
أجبته كمن يتقيأ صِدقه:
بل أشكو إليها.. أكتب يا أستاذى.. لكننى لا أجد من يقرأ، أصرخ بالكلمة، فلا يُصغى لى، أزرع الحرف، فلا ينبت، صرت كمن يلقى قصائده فى بئر مهجورة، أشعر أحيانًا أننى أكتب فى خواء، أن القلم سكينٌ فى يد ناصح لا يصغى له أحد، أكتب عن الحق، فيتهموننى بالخيال، وأكتب عن الحب، فيضحكون، وحين أكتب بوجع عن الوطن، يعتبروننى معارضًا، ولو كتبت بحب يظنوننى مُطبِّلا، وإذا صَمَت قالوا أين كنت حين احتاجك الوطن؟

أشعل سيجارة- رغم أننى أعلم أنه أقلع عنها يومًا- وضحك، وقال: كأننى أسمع نفسى منذ خمسين عامًا.. كنتُ أكتب الحب فى زمن الحرب، والوطن فى زمن المؤامرة، وأدافع عن الحلم حين صارت الواقعية شعارًا للانهزام.. ألم تشعر يومًا بأننا لا نكتب لأن الناس تطلب؟ بل لأن ضميرنا يأمر، كنا نكتب رغم أنف الجميع.
ثم سكتَ لحظة، وتابع: أتدرى أين كنت أهرب من العالم؟ هنا.. فى هذا المقطم، لأنك هنا ترى المدينة كلها، لكنك لا تسمع ضجيجها.. وهنا كتبتُ أجمل ما كتبت، كان واحتى حين ضاقت القاهرة، وكان سماؤه أقرب لى من غبار السياسة وضجيج الشوارع.
تأملت وجهه، وكان كمن خرج لتوه من رواية لا تُصدّق، مزيج من الحالم والمنكسر.. من الرومانسى والجندى، قلت له، ولا أعرف من أين جاءنى السؤال: لكنهم قتلوك؟ كتبت عن السلام فاتهموك بالخيانة، ودفعت حياتك ثمنًا للكلمة!
ابتسم، ونظر لى، وابتسامته لا تزال معلقة بين السخرية والحنين، ثم قال: لأنى حلمت.. لأنى صدّقتُ أن الحبر قد يُزيل دمًا، وأن لقاء الأعداء ربما يلد صلحًا، وأن الحروب لا تخلّف غير الأيتام، وأن القلم أقوى من الرصاصة، لكننى لم أكن أعلم أن الرصاصة تبحث عن القلم لتسكت صوته.
كنت فى نيقوسيا، فى مؤتمر آسيوى إفريقى للسلام.. دخلت قاعة الاجتماعات مبتسمًا، أحمل ملفًا، لا مسدسًا.. فجاءنى من قرآنى من الخلف، لا من الأمام.. كانوا يظنون أننى خنت العروبة لأنى دعوت إلى سلام ينقذ الشعوب من الفقر والرصاص.. لكنهم لم يقرأوا حرفًا مما كتبت، ولو قرأوا، لعلموا أننى لم أكن خائنًا.. بل عاشقًا.. والعشاق دومًا يدفعون ثمن الحلم.
سكت قليلًا، وحدّق فى البعيد كأنه يرى لحظة مقتله تتكرر، ثم تمتم: غدروا بى، لكنهم لم يغدروا بالكلمة، واغتالوا جسدى، لكن روحى ظلّت تُطبع على صفحات الناس.. من يكتب من أجل الحياة، لا يقتله الموت.
تأملت وجهه، وقلت: لكنك كتبت فى زمنٍ كان يقرأ.. أما أنا فأكتب فى زمنٍ يستهلك كل شىء ولا يهضم شيئًا، فالكُتّاب الآن يشبهون العشّاق الذين يكتبون رسائل حبّ، ويضعونها فى زجاجات، ثم يرمونها فى محيط من التفاهة المعلبة!
ابتسم، وهمس: وهل تظن أننى كنت أعرف من سيقرأ ما أكتب؟
حين كتبت أرض النفاق، اتُّهمت أننى أهاجم الشعب، وحين كتبت رُد قلبى، قيل إننى أزيّف التاريخ، وحين كتبت نائب عزرائيل، اتهمت بالكفر.. لكننى لم أكتب لأُرضى أحدًا.. كنت أكتب لأنى لا أطيق الصمت، كنت أكتب لأن الحروف وحدها كانت تسع قلقى وأسئلتى.

ثم نظر إلىّ وقد علت وجهه ملامح مزيجٍ عجيب من الحسرة والفخر، وقال بصوتٍ خافتٍ كأنه ينبش من أعماق قلبه حكايةً لا تموت:
أتذكر «أرض النفاق»؟ تلك التى كتبتها وأنا أضع روحى فى الميزان، أكشف بشجاعة عن قبح اجتماعى تجمّل بالنفاق وابتلع الناس باسم الأخلاق.. حين خَرجت إلى النور، جرحونى بها، لا بهاجس فنى ولا بميزان أدبى، بل بسكين السخرية، قالوا إن الكاتب يحاول أن يكون خفيف الظل.. ولكن دمه ثقيل! نعم، هكذا قالوا.. لم يقرأوا الروح، بل وزنوا الضحكة، لم يلمسوا وجعى، بل قاسوا سطورى بمقاييسهم الباردة.
ومضت الأعوام.. ثم دارت الأيام دورتها، فإذا بالبعض منهم- الذين صمتوا أو سخروا- يكتبون باعتزاز أنها من أهم الأعمال التى مهدت لثورة يوليو ١٩٥٢، وأنها لامست وجدان الشارع المصرى وأيقظت غضب الضمير، آه يا عزيزى.. كم من الأعمال تُظلَم فى مهدها، ثم يُقام لها التماثيل بعد رحيل صاحبها!
ثم التفت إلىّ بعين فيها لمعة ساخرة ممزوجة برجفة صدق، وسألنى كمن يُلقى حِمل عمره على كتفى: ألم تعيدوا تمثيلها من جديد فى القرن الحادى والعشرين؟ ألم تضحك الجماهير مجددًا على «مسحوق النفاق»؟ ألم تبكِ القلوب من مرارة الصورة؟ إذن.. قل لهم أنت! رد عليهم يا باسم.. أخبرهم أن يوسف السباعى لم يكن خفيف الدم ولا ثقيله.. بل كان مرآة ثقيلة الظل على وجوههم، فهربوا من صورتهم حين ظهرت صافية فى صفحاتى.. فاكمِل أنت ما بدأته أنا.
قلت له، وأنا أغالب انكسارى:
نعم يا أستاذى.. ولكننى أكتب وكأننى أُسقى الصخر.. لا الماء يرويه، ولا الصدى يعود.. أخشى أنى أصرخ فى وادٍ عميق لا يرد الصوت، ولا يسكنه حى.. هل كان قلمك وحيدًا يومًا كما قلمى؟ هل شعرت أن الكلمة لا تجد من يحتضنها؟
هزّ رأسه، ثم رفع عينيه إلى البعيد مرة أخرى وقال، بصوتٍ مفعمٍ بالحسرة:
أتحسب أننى لم أذق طعم هذا الصمت؟ لقد كانت الكتابة عندى صلاة، وكانت حروفى عطرى فى زمن التعفن.. لكننى ما إن مددتُ يدى نحو من ظننتهم أهل الكلمة أو النقد البناء حتى سحبوها، أو أشاحوا وجوههم كأننى لم أكن، وكنتُ أهدى كتبى بشغف العاشق، أرجو منهم بصيصَ اعتراف، أو همسة ثناء، أو حتى صمتًا نبيلًا.. لكنهم كانوا يردّون بالصمت البارد، أو الجحود المجلجل.. كانوا يكتبون عن كل شىء، إلا عنى.

وحين كتبوا.. كتبوا لا لينصفوا، بل ليهدموا.. كأنهم خافوا أن يكون فى صدقى ما يفضح زيفهم، أو فى ابتسامتى ما يُعرّى عبوسهم. لم تكن الحرب على كتبى، بل على اختيارى أن أكون إنسانًا قبل أن أكون كاتبًا، أرادونى صنمًا على مقاسهم، أو صدى لأصواتهم.. ولكنى رفضت.. كتبت للحياة، لا للمذهب.. كتبت للناس، لا للحزب.. كتبت عن النفاق لا لأجامل المنافقين، عن الحب لا لأُرضى القساة، عن الوطن لا لأسترضى حراس الخراب.
ثم التفت إلىّ وقال بنبرة حاسمة، خالية من التردد:
يا صديقى، لم يكن اغتيالى حين سقطتُ برصاصة.. بل حين سُحقت كلمتى سنين طويلة فى صمت القاعات، وموائد المزايدة. لقد كتبت بدمعى، فردّوا علىّ بالحجارة. ولكننى مضيت.. لأن الكاتب لا يُكتب له الخلود من فم ناقد، بل من قلب قارئٍ صادق.. واحدٍ يكفى.
ومع الزمن.. تعبت.. صدَّقت أن الكتابة مستحيلة فى وطن يحاكمك على لهجتك، لا على حقيقتك. حتى طه حسين، وهو قمة لا يُجادَل فيها، كتب عنى بتقدير رقيق.. ولكنهم كانوا يريدون أن أكون مثلهم، لا أن أكون نفسى.
ثم نظر إلىّ طويلًا وقال: وهكذا فهمت أن الحرب لم تكن ضد يوسف السباعى الكاتب، بل ضد يوسف السباعى الإنسان الذى كتب ما يؤمن به، لا ما طُلب منه أن يؤمن به.
ثم ارتسم على وجهه شىءٌ يشبه الابتسامة، لكنها لم تكن سعادة خالصة، بل ذلك النوع من الابتسام الذى يأتى بعد خيبة طويلة.. وواصل حديثه بصوت خفيض، فيه من الحكمة بقدر ما فيه من الجراح:
- نعم.. تعبت. أعترف بذلك. لحظةً ما، ظننت أننى أكتب فى الهواء- كما تشعر أنت الآن- أن الحروف تنهار قبل أن تبلغ الورق.. أننى أدور فى دوّامة من السخرية والتقليل والخذلان.. لكنى لم أستسلم، لم أُلقِ القلم، لم أَبِع قناعاتى فى مزاد النقد ولا أبدلت روحى بثمن الرضا الزائف، كتبت كما أردت أنا، لا كما أرادوا هم.
أتدرى؟ كنت أعود من ساحة النشر كالجندى العائد من معركة لم يُصفّق له أحد، لكننى كنت أعلم، فى قرارتى، أن التاريخ ليس حفلة تصفيق لحظى، بل ذاكرة طويلة المدى لا تُبقى سوى لمن صدق.. وها أنا ذا، اليوم، أراك أنت تستحضرنى.. وتكتب اسمى.. وتستمع إلى صوتى الذى أرادوا دفنه. أما أولئك الذين رفعوا السوط على نصوصى، أو رسموا المقاصل لأحلامى، فأين هم؟ هل تسمع لهم صوتًا؟ هل رأيت لهم مقامًا فى ذاكرة الوطن؟
أنا لم أكتب لأرضى ذائقتهم، بل لأحرك ماءً راكدًا فى ضمير أمّة.. كتبت أرض النفاق، فقرأها طفل وشاب وشيخ، وضحك الجميع.. ثم فكروا.. ثم خجلوا من مراياهم، كتبت السقا مات، فبكوا ولم يعرفوا لماذا، كتبت رد قلبى، فنبضت بها قلوب لا تعرفنى.. واليوم، تُعرض أعمالى، وتُقرأ كلماتى، وتُقتبس عباراتى.. بينما الذين أرادوا دفنى أحياء، غرقوا فى ظلام النسيان.
ثم رفع نظره إلىّ، وقال كمن يزرع بذرة فى قلب تلميذه:
يا باسم.. نحن لا نُحاكم بالتصفيق، بل بالبقاء. وأنا.. بقيت. لأننى كنت نفسى، فكن أنت.. ولا تلتفت لمن يريدك ظلًا لما يهوى.
قلت له: وهل ترى ما نراه نحن؟ انهيار المعنى؟ امتهان الكلمة؟ طغيان اللا شىء؟
رد علىّ، وصوته هذه المرة بدا كأنه يخرج من دفاتر عمره:
- هذا جزء من الدورة يا ولدى.. الكلمة تمرض كما تمرض الأمم، لكنها لا تموت، يُطفأ بريقها حينًا، لكنها تعود.. أكثر نقاءً، وأكثر خطرًا.
سكتَ قليلًا، ثم قال: لكن أخبرنى، هل تعرف لماذا لم أندم يومها؟ أجبته: لأنك آمنت بما كتبت؟
قال: بل لأننى لم أكتب يومًا لنفسى. كتبت للحب، للناس، لمن آمنوا أن الحياة يمكن أن تكون أجمل، حتى وإن خذلتهم، ثم حدق فى عينىّ وقال: كل ما نكتبه قد لا يقرأه أحد اليوم، لكن سيأتى يوم يبحث فيه جيل لم يولد بعد عن كلمات تُنير له الطريق.. تمامًا كما قرأتُ أنا للرافعى، وكما قرأتَ أنت لى، سيقرأك آخرون يومًا ما.. حين يعجزون عن تحمّل القبح وحدهم.
قلت: لكن يا أستاذى، لم يعد الناس يريدون الحلم، بل يريدون المال، والسلطة، والسخرية، والفُرجة، يبحثون عن متعة لحظية، لا عن قيمة.. أليس كذلك؟
أجابنى، وهو ينهض ببطء كمن يستعد للرحيل: ولأجل ذلك نكتب، ليس لأنهم يطلبون، بل لأنهم ينسون.. ونحن نُذكّر.. نحن غرباء فى أوطان مزدحمة، لكننا نحمل قبسًا صغيرًا من نور لا يُطفأ، أكتب، حتى لو أحرقوا دفاترك، أكتب، حتى لو ضحكوا، أكتب، لأن الكتابة مقاومة، ولأن الذاكرة لا تموت ما دامت الكلمة حيّة.
ثم وقف، وربت على كتفى، وقال: لا تتوقف عن الكتابة.. ولا تكتب لتُرضى أحدًا، ولا لتُصفّق الجماهير، بل اكتب لأنك تحمل نارًا.. اكتب لأنك لا تعرف كيف تعيش بدونها، وإن وجدت نفسك على مقهى الأحلام المكسورة، فاعلم أنك لست وحدك.
ثم رحل.. كما جاء.. بلا استئذان.
استيقظت.. وجدت الورقة لا تزال بيضاء.. لكن قلبى لم يعد كذلك.
وجلست أكتب..