الأحد 06 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

زهرة النار.. ننفرد بنشر فصل من رواية محمد سلماوى الجديدة

حرف

- دفن رأسه بين نهديها وهو يتأوه. توسلت: كفى.. كفى.. أرجوك

- يقدم لنا سلماوى قصة حب عاصفة بين عالية سيدة المجتمع الناضجة التى تمتلك محلًا للأنتيكات بوسط البلد وخالد الشاب الطموح

تأتى رواية الأديب الكبير محمد سلماوى الجديدة «زهرة النار» كإضافة مهمة لأعماله الروائية السابقة التى كانت كل منها علامة فارقة فى تاريخ الرواية العربية المعاصرة، من «الخرز الملون» «١٩٩١» التى جسدت لأول مرة تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى من النكبة إلى اتفاقية كامب ديفيد، إلى «أجنحة الفراشة» «٢٠١٠» التى تنبأت بثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.

أما فى «زهرة النار» التى تصدر خلال الأيام القليلة المقبلة عن الدار المصرية اللبنانية، فيقدم لنا سلماوى قصة حب عاصفة بين عالية سيدة المجتمع الناضجة التى تمتلك محلًا للأنتيكات بوسط البلد، وخالد الشاب الطموح الذى ما زال فى مقتبل العمر، وفى الوقت الذى تفرض الأوضاع السياسية قيودها على مدحت صديق خالد الذى يسعى لتأسيس حزب جديد، نجد المجتمع يفرض ضوابطه العتيدة على الحب المشتعل بين العاشقين. إن «زهرة النار» هى قصة صراع متعدد المستويات بين الثورة المتأججة والقيود السياسية والاجتماعية الصارمة.

محمد سلماوى هو أحد أهم رموز الحياة الثقافية فى مصر والوطن العربى، فهو أديب مرموق صدر له أكثر من أربعين كتابًا ما بين الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والترجمات والأعمال النقدية، وترجمت أعماله إلى مختلف اللغات الأجنبية، من الإنجليزية والفرنسية والإيطالية إلى الرومانية واليونانية والهندية. أعيد انتخابه عدة مرات رئيسًا لاتحاد كتاب مصر وأمينًا عامًا للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وحصل على أعلى جائزة تقدمها الدولة، وهى جائزة النيل فى الآداب، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية وعلى أوسمة وجوائز أخرى من كل من فرنسا وإيطاليا وبلجيكا والسنغال وفلسطين.

مع اقتراب موعد خالد فى شركة المقاولات التى تقدم للعمل بها بدأت فرحته تعود إليه بالتدريج، رغم انشغاله بموضوع صديقه مدحت الذى قُبض عليه. وقد ساعد على تخفيف اكتئابه أن المحامين توصلوا أخيرًا لمعرفة مكانه، وتمكنوا من الحصول على تصريح بزيارته فى سجن الاستئناف، وقاموا بعد الزيارة بطمأنة والده على حالته الصحية والمعنوية، مؤكدين أنهم يباشرون الإجراءات القانونية على أكمل وجه.

اتصلت به نجوى وهو فى الطريق للشركة داعية له بالتوفيق. قالت له ضاحكة: على فكرة بختك اليوم فى الجريدة يقول «مفاجأة سارة تغير مجرى حياتك». قال: أمازلت تؤمنين بهذه الخرافات؟ قالت: أؤمن بها فقط حين تكون سارَّة، لكنى أتابعها فى جميع الأحوال للتسلية. أقرأ يوميًا فى «الأهرام» بختى وبختك.

قال: على أى حال لقد رفعتِ من روحى المعنوية بخزعبلاتك هذه. ثم أخبرها بأنه وصل لمقر الشركة فأنهت حديثها قائلة: ربنا معك. حول تليفونه إلى الوضع الصامت وأعاده إلى جيبه ثم دخل مبنى الشركة. بحث موظف الاستقبال عن اسمه فى قائمة أمامه. حين وجده قال: مكتب رئيس مجلس الإدارة فى الدور الأخير. اتجه إلى المصعد وضغط على زر الاستدعاء، بدأ يتوتر وأخذت دقات قلبه تتلاحق، بمجرد أن فتح باب المصعد اندفع داخلًا فاصطدم بسيدة خارجة منه. التصق صدره بصدرها بطريقة غير لائقة. اضطرب فسقطت أوراقه وتبعثرت على الأرض. تصور أنها ستصفعه على وجهه. لكنها تسمرت فى مكانها، مثلما تسمر هو. فوجئا ببعضهما البعض. كانت هى بتاجها الفضى ووجهها المضىء وفستانها الأسود. قال على الفور: أنا آسف جدًا يا عالية هانم.. لم أكن أقصد.. أرجو المعذرة.. كنت مسرعًا ولم أنتبه.. أنا فى غاية الأسف.

واصل تكرار الاعتذارات بينما أخذت تتفحص وجهه فى صمت. تنازعتها مشاعر متناقضة ما بين توترها مما حدث وشعورها بالغضب، وإحساسها بأنها عثرت على شىء كانت قد فقدته. أدركت أنه لم يكن يقصد ما حدث، وإن كان أحرجها أمام الناس. ولإنهاء الموقف بسرعة قالت فى اقتضاب: حصل خير.

دخل الناس المصعد وانغلق بابه صاعدًا إلى أعلى، بينما خرج من المبنى من نزلوا منه. وجدت نفسها وحدها معه فسألته رغمًا عنها: لماذا لم تأت لأخذ الكتب؟ قال بسرعة: أتيت لكنى لم أجدك، وعدت إلى المحل عدة مرات دون جدوى. عُدت بالنهار، وعُدت أيضًا بالليل، لكن المحل كان دائمًا مغلقًا. قالت: انتظرتك يومًا بعد يوم، لكنك لم تأت. قال: أتيت. أتيت كثيرًا وفى كل مرة لم أجدك. قالت: لقد أحضرت لك الكتب من يوم أن قلت لك. انتظرت أن تأتى لتأخذها. قال دون تفكير: سآتى غدًا. قالت: لا داعى. سأعيدها اليوم للبيت. قال: سآتى. أرجوك انتظرينى. لم تعرف ماذا تقول؟ هل تقول له سأكون فى انتظارك، أم تطلب منه عدم المجىء وتعيد الكتب إلى المنزل كما قررت؟ لم تقل شيئًا. كرر: سآتى غدًا. أرجوكِ انتظرينى. بدأ الناس يتجمعون من جديد أمام المصعد فتركته ومضت فى طريقها إلى خارج المبنى.

ظل ينظر إليها إلى أن اختفت خارج المبنى، ثم انحنى على الأرض يلملم الأوراق التى سيقدمها لرئيس الشركة. أعاد ترتيبها فى الملف الذى كان يضمها ثم اتخذ جانبًا. وقف لوهلة بعيدًا عن المصعد محاولًا استعادة هدوئه قبل المقابلة المرتقبة. بعد قليل توجه من جديد إلى المصعد. حين وصل إلى الدور الأخير طالعته لافتة كبيرة «مكتب رئيس مجلس الإدارة». دق الباب بلطف ودخل فاستقبلته السكرتيرة وطلبت منه الانتظار. لم ينتظر طويلًا. كان الرجل مواعيده دقيقة. لكنه تمكن أثناء انتظاره من السيطرة على التوتر الذى سببته له حادثة المصعد، وحين أدخلته السكرتيرة مكتب الرئيس كان قد استعاد هدوءه، على الأقل خارجيًا.

لم يكن خالد يعرف أى صنف من الرجال سيكون رئيس الشركة. ربما يكون فظًا، وبسبب ثرائه سيعامله باستعلاء. لكنه فوجئ برجل لطيف طويل القامة شعره فى لون الملح والفلفل، مصفف إلى الخلف. حياه بابتسامة وديعة ودعاه إلى الجلوس فاتخذ مجلسه أمام مكتبه. كان رئيس الشركة مهيبًا رغم تواضعه. جلس على مكتب فخم وبيده سيجار لا يقل فخامة. بدت وراءه لوحة كبيرة فى إطار لونه بنى داكن، بها قطيع من الخيول يجرى منطلقًا فى حرية وسط سهل أخضر، كما يتوق هو إلى الانطلاق نحو المستقبل الذى ينتظره. لم تستغرق المقابلة أكثر من عشر دقائق اطلع فيها الرجل على أوراقه وسأله بعض الأسئلة، ثم قال: عظيم. اترك رقم تليفونك عند السكرتيرة فى الخارج وسنتصل بك فى الوقت المناسب. ثم ودعه بنفس الابتسامة الوديعة التى استقبله بها.

خرج خالد من المقابلة وهو لا يدرى إن كان قد قُبِل أم رفض؟ فالرجل لم يخبره بشىء. كلمة «عظيم» التى نطق بها توحى بأنه نجح فى الامتحان، لكن ما جاء بعدها يوحى بأنه ربما رسب. فالرجل لم يقل له صراحة إنه قُبِل، ولا أخبره بطبيعة عمله، ولا تحدث فى مرتبه، ولا حدد له موعدًا لبداية العمل. كل هذه الأشياء كان يتوقع سماعها، وكان يتصور أنه سيخرج من المقابلة وقد عرفها. لكنه خرج كما دخل. ليس أمامه إلا أن ينتظر ليرى. وجد حماسه قد فتر قليلًا، وداخله هاجس بأن ذهابه للشركة ربما كان بلا جدوى مثل مقابلات العمل السابقة. ربما كانت الجدوى الوحيدة من الزيارة هى عثوره على عالية بعد أن ظن أن طريقهما قد افترق، وأنه قد لا يقابلها ثانية.

أخذ يستعيد الموقف المحرج الذى حدث وكأن القدر قد قذف بها عمدًا فى أحضانه. استرجع الموقف عدة مرات، لحظة بلحظة. تذكر كيف شعر برجولته تتفجر فجأة رغمًا عنه وهو يرتطم بها ويلتصق بنهديها النافرين. كادت شفتيه تلامسان شفتيها. لقد اقتحم خصوصيتها للمرة الثانية كما فعل فى لقائهما الأول، لكنه شعر هذه المرة بأنها لم تلفظه كما لفظته فى المرة الأولى. شعر بسعادة دفينة من أنها لم تعنفه رغم ما سببه لها من حرج أمام الناس.

حاولت نجوى الاتصال به عدة مرات لمعرفة ما حدث لكنه لم يرد. كان تليفونه لا يزال فى الوضع الصامت.

لم تكن عالية قد مكثت غير دقائق معدودة بالمحل بعد العودة من موعدها مع يحيى حين وجدت چينا تتصل بها لتسألها عن رأيها فى لوحة يحيى. كانت عالية ما زالت مضطربة مما حدث. قالت إنها لوحة مميزة، وكررت عليها بسرعة ما قالته ليحيى متمنية أن تكون تلك هى نهاية المكالمة. لكن المكالمة لم تنته. قالت چينا: هناك أمر آخر. لم ترد. واصلت چينا: الحقيقة أنى أتصل بك لأخبرك بأن يوسف بك أبلغنى أنه يريد أن يدعونا على العشاء فى فيلته بمصر الجديدة فى اليوم الذى نختاره، ودعينى أقول لكِ بصراحة يا عالية أن يوسف مهتم بكِ. ردت: وأنا لا أشعر بأن بيننا توافقًا. إنها مسألة كيميائية بحتة. اعذرينى. قالت چينا: ألا تريدين أن تعطى نفسك فرصة لتعرفيه أكثر؟ ربما غيرتِ رأيك. أرادت عالية أن تقول لها: اتركينى فى حالى أرجوكِ، وليذهب يوسف بك هذا إلى الجحيم. لكنها اكتفت بالقول: أنا متأكدة من مشاعرى، وأنهت المكالمة.

جلست وحدها فى المحل. لم يدخل عليها أحد سوى محصل الكهرباء الذى سددت له الفاتورة على باب المحل وعادت وحيدة إلى مقعدها المعتاد. كانت ما زالت مضطربة بسبب ما حدث. فكرت أن تصنع لنفسها فنجان قهوة ثانيًا، رغم أنها لم تكن تتناول إلا فنجانًا واحدًا فى اليوم. تبينت رعشة خفيفة فى يدها فخشيت أن يقع منها الفنجان. أعادته بسرعة إلى مكانه.

ظل الحادث الذى وقع عند باب المصعد مسيطرًا عليها. أخذت تراجع تفاصيله بكل عناية. كيف اندفع خالد نحوها بتلك القوة وكأنه يريد أن يحتضنها؟ تعجبت لرد فعلها. كيف قبلت أن يلتصق جسداهما بهذا الشكل الحميمى فى مدخل العمارة؟ لم يقترب رجل منها إلى هذا الحد منذ رحيل زوجها، ولم تتصور أن يفعل أحد ذلك، وبتلك الجرأة. أثار هذا فى نفسها قدرًا من الغضب. كيف قبلت ما حدث بهذه البساطة؟

لو أن مثل هذا الموقف حدث مع شخص آخر لكانت بالتأكيد أكثر غضبًا. أحست أنها تساهلت معه أكثر مما يجب. لكن ماذا كان بمقدورها أن تفعل؟ هل كان عليها أن تصرخ فيه أمام الناس وتجلب لنفسها فضيحة فى مكتب صديقها؟

تساءلت بينها وبين نفسها عما أتى به إلى شركة يحيى؟ هل كان ذاهبًا لجهة أخرى فى نفس العمارة؟ تذكرت أن المبنى كله مخصص لشركة النيل للمقاولات. لا بد أنه ذهب مثلها قاصدًا الشركة. ثم أخذت تفكر، لو أن لقاءها بيحيى امتد لدقائق أخرى لما وقع ما وقع. ولو أنها لم تنزل فى ذلك المصعد ونزلت فى المصعد الآخر لما تقابلا. هل رتب القدر أن يوجدا فى نفس المكان فى نفس اللحظة؟ لقد كان القدر هو الذى قذف بها فى أحضانه. أو قذف به فى أحضانها. لكن أليست لها إرادة؟ ألم يكن عليها أن ترفض ما حدث؟ لماذا قبلت اعتذاره بهذه السهولة؟ تذكرت مقولة الفيلسوف اليونانى القديم بلوتارخوس «القدر يقود من يتبعونه، ويسحب بالقوة من يقاومونه». عادت تتساءل: لكن هل كان ذلك بالفعل من تدبير القدر؟ أم هى محض صدفة عابرة من صدف الحياة التى لا معنى لها؟ لاحظت تراكم التراب على كتب خالد من طول انتظارها على الأرض. لم تكن قد ريًشتها حين أزالت التراب عن معروضات المحل. أحضرت الريشة وكما نظفت تحفها، منذ قليل، بدأت تنظف الكتب. أخذت تزيل التراب من عليها بعناية كتابًا كتابًا.

فجأة انفتح باب المحل ووجدت خالد أمامها. يا إلهى! أخذت تتأمله وهو واقف عند الباب بلا حراك. لاحظت لأول مرة قوامه الرياضى الممشوق وعضلاته المفتولة. كان يرتدى بنطلون جينز وجاكت جلد أسود وقد برز شعر صدره الأسود من فتحة قميصه الأبيض. بدا أمامها كالعملاق المخيف، لكن على وجهه ارتسمت تعبيرات اللهفة والشوق. شعرت بضعف نحو ذلك الشاب الفتى الذى ظل طيفه يشاغلها منذ دخل عليها المحل أول مرة. وقفا ينظران لبعضهما البعض دون أن يتبادلا الكلمات. ثم فجأة وجد نفسه يندفع إليها كما فعل عند باب المصعد، وأخذ يقبلها بحرارة فى وجنتيها، وفى رقبتها، وفى عينيها. شعرت بقواها تخور بسرعة. أخذت تتوسل إليه: أرجوك.. أرجوك.. لكنه أطبق بشفتيه على فمها المفتوح فأسكتها وأخذ يلتهم شفتيها الممتلئتين. وجدت نفسها تطوقه لا إراديًا بذراعيها، تريد أن تحتويه بداخلها كطفل صغير عاد إليها بعدما ظنت أنه فُقِد إلى الأبد. دفن رأسه بين نهديها وهو يتأوه. توسلت: كفى.. كفى.. أرجوك. قال بصوت خافت: لا أستطيع.. لا أستطيع.. كان كمن حرم دهرًا مما ظل يشتهيه ثم وجده فجأة أمامه، بين يديه، فى أحضانه. قال: لم أتوقف عن التفكير فيكِ من أول لحظة رأيتك فيها، أفكر فيكِ فى الصباح وفى المساء، فى الليل وفى النهار. ظل يعب منها عبًا، ثم أخذ يهبط بقبلاته من فمها إلى صدرها، ومن صدرها إلى بطنها. وقعا معًا على الأرض فانفرط تاجها الفضى وتهدل شعرها على كتفيها، فاشتعلت ألسنة النار من حولهما وكأنهما فى غابة اكتسحها حريق هائل.