الإثنين 18 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

سامح بدران يكتب: نقطة الالتقاء

حرف

فى انحناء إلى الأمام قليلًا، وقف على أعتاب باب قصر يطل على ميدان فسيح، وكأنه يقف بين يدى ملك، رفع رأسه ببطء وأمسك بالمقبض النحاسى الضخم، وطرق الباب طرقة واحدة، على إثرها ارتجت الأرض من تحته ارتجاجات موحية، فارتفع وانخفض فى مكانه مرات متلاحقة سريعة أشعرته بأنه سابح فى الفضاء، فظن أن السماء أهدته معجزة.

هدأت الهزات، وتلاشت التموجات، وثبت فى مكانه فانفتح باب القصر، شاهد أشجارًا ضخمة، ذات أفرع كثيفة ملتفة متشابكة متعانقة، تكاد تلامس الأرض فى إجلال وخشوع، تستقر عليها طيور متعددة الأشكال، سار فى الممر الضيق، استغرب تمامًا أن يكون الممر ضيقًا بالرغم من اتساع المساحة المعروضة أمامه، التى لم يستطع أن يتبين لها أبعادًا بالمقاييس الأرضية المعروفة، ممر خانق غير واضح المعالم، مجهد، أشعره بثقل قدميه، وصعوبة بالغة فى المشى- رغم عنفوانه- مستقيم لا توجد به منحنيات، فبدا له على هيئة مثلث هو قاعدته ونقطة التقاء الضلعين الآخرين غير مرئية، أخرج سيجارة، وأشعل عود كبريت، ومشى.

ثلاثون عامًا السيجارة فى فمه، والممر الخانق المستقيم لا ينتهى، والأشجار المتشابكة الملتفة لا تثمر، والشمس تطلع وتغيب، مرات حارقة ملتهبة، ومرات هادئة ناعمة، وأحيانًا محجوبة بسحب وغيوم، والقمر يتحول تحولاته الشهرية، والممر يتشقق ثم يلتئم مرة بعد مرة، يسمع همهمات، صرخات، نداءات استغاثة، صدى صرير أبواب تفتح وتغلق، طنين ذباب، هواء بارد يصل إلى حد العاصفة ثم يهدأ ويتماوج ويسخن ويلفح الوجه واليدين والبدن والممر لا يلتقى ضلعاه. ثلاثون عامًا مرت مثل فرقعة تلاقى إصبعى الإبهام والوسطى، قرّب إصبعيه من أذنه مع مراعاته تقوس السبابة ليسمع جيدًا صوت الفرقعة الناتج عن خلخلة الهواء من شدة احتكاك الإبهام بالوسطى فى اتجاهين متعاكسين.

كان متعبًا مرهقًا أثقلته الرحلة وصعوبة الفهم ووطأة الملل، وعجزت قدماه عن حمله بكفاءة البداية، وفى اللحظة التى اعتقد فيها اعتقادًا كاملًا أنه وصل إلى نهاية الممر، وبدأت تلوح أمام عينيه نقطة الالتقاء، هبت ريح عاصفة محملة بالأتربة وذرات الرمال اللاسعة، تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة، أظلمت وارتعدت وارتجت بشكل لم يسبق لها أن فعلته من قبل، فاقتلعت الأشجار وتناثرت الأفرع وتداخلت الأصوات الزاعقة المقبلة من أقصى الأمكنة، أصابته حالة هلع، بدأ يشعر بالاختناق، أخذ يجرى والعرق يتساقط بغزارة وقلبة يدق دقات سريعة، وأنفاسه تتلاحق وصدره يرتفع وينخفض، وثيابه تتمزق، والأرض تميد من تحته، لم يعد يقوى على الصمود حتى أبرقت السماء عدة ومضات، فأنارت الأفق والأرض والأشجار والممر، وانشق صدره فجأة عن طفل يرتدى ثيابًا زرقاء تلقاه فوق ذراعيه، خرج مبتسمًا ضاحكًا ثبتت على وجهه الومضة الأخيرة فأشرق بنور فياض هادئ مريح للعين، مد الطفل أصابعه ورتق الجرح الذى خرج منه ثم انزلق من بين يديه مهرولًا أمامه على الممر.

شيئًا فشئيًا بدأ نور الومضة الأخيرة ينسحب، والغيوم تنقشع، وصوت الرعد يخفت، وضوء النهار الطبيعى يطغى، والأصوات المتعانقة تتضح معالمها، والأشجار عادت لأماكنها، والأفرع لإجلالها، وخطوة خطوة بدأ الممر الضيق المستقيم ينحنى ويتسع أمامهما حتى صار دربًا عريضًا ناعمًا مريحًا نبتت على جانبيه الأزهار وأثمرت الأشجار، وحلقت الطيور.

هدأت العاصفة وتحولت إلى ريح ناعمة رقيقة حانية، هبت معها رائحة أعواد خشب أشجار الصندل عندما تحترق.