الأربعاء 11 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عائشة البصرى: الكتاب فى مصر يحقق أكبر عدد من الطبعات

عائشة البصرى
عائشة البصرى

- إذا لم نكتب نحن الكاتبات عن واقع المرأة للكشف والإدانة.. فمن سيكتب؟

- أسعى دائمًا للتجريب والتجديد فى تقنيات الكتابة لتفكيك الواقع وإعادة صياغته

- الكتابة قد تكون نوعًا من التحليل النفسى لكنها حتمًا جلسات علاج للكاتب

ما بين الشعر والرواية، تنقّلت الكاتبة المغربية عائشة البصرى فى مسيرة إبداعية اتسمت بالغنى والتنوّع؛ إذ صدرت لها عدة أعمال روائية، من بينها «ليالى الحرير»، و«كجثة فى رواية بوليسية»، و«رجل اسمه الرغبة- اعترافات دون جوان»، وهى من أحدث أعمالها الروائية، إلى جانب دواوين شعرية مثل «أرق الملائكة»، و«خلوة الطير»، و«المياه الكبرى» التى صدرت حديثًا. 

شاركت البصرى فى لجان تحكيم ومهرجانات دولية مرموقة، ونالت أعمالها عدة جوائز، من بينها جائزة «كاتب ياسين» فى الجزائر عن رواية «حفيدات جريتا جاربو»، وجائزة «أفضل رواية عربية» فى معرض الشارقة عن رواية «الحياة من دونى»، وهى الرواية التى حظيت أيضًا بتنويه من مكتب الأمم المتحدة بجنيف لما تناولته من قضايا اغتصاب الحروب ومعاناة المرأة فى النزاعات المسلحة. تُرجمت أعمالها إلى عدد من اللغات، من بينها: الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والتركية، وضُمّنت قصائدها فى أنطولوجيات شعرية عالمية. كما حظيت تجربتها باهتمام عدد من النقاد العرب والأجانب، واعتُمدت أعمالها موضوعًا للبحث الأكاديمى فى عدد من الجامعات.

 فى هذا الحوار، نتعرّف عن كثب إلى التجربة الإبداعية لعائشة البصرى، وما يشغلها من قضايا تسعى لمقاربتها فنيًا عبر الشعر والرواية، كما نناقش معها أحدث أعمالها، ورؤيتها للكتابة وتحدياتها الفنيّة والاجتماعية، وكذلك مشروعاتها الإبداعية المقبلة.

■ بعد سنوات من الغوص فى عوالم السرد، عدتِ إلى الشعر عبر ديوانك «المياه الكبرى».. أى فضاءات طرقها الديوان وجدتِ أن الشعر كان الأنسب للتعبير عنها؟

- الحقيقة أننى لم أتوقف يومًا عن كتابة الشعر؛ كل يوم أدوّن بيتًا أو شذرة. لكن الرواية كانت تأخذ منى الكثير من الوقت لكى أجلس وأرتّب بيتى الشعرى. تراكمت القصائد المتناثرة بين الجذاذات والكراسات. فى كل مرة أدخل مشروعًا روائيًا، أعدُ نفسى بالعودة إلى القصيدة فور الانتهاء من الرواية، فتأخذنى رواية أخرى، إلى أن أتيحت لى الفرصة للعودة إلى بيتى الأول، الشعر، خلال إقامة أدبية بـ«دار الشعر» بمدينة «الأنهار الثلاثة» فى كيبيك بكندا. فجاءت هذه القصائد كيوميات لهذه الإقامة الأدبية.

بدأ مشروع الإقامة الأدبية بفكرة كتابة كتاب كتوأمة بين نهر أبى رقراق فى المغرب ونهر سان لوران فى الكيبيك. وبما أن الإبداع فى جوهره سفر فى المجهول، أخذ المشروع اتجاهًا آخر، فاقتصر الكتاب على مرافقة نهر عظيم اسمه سان لوران، أو «المياه الكبرى» كما يسميه السكّان الأصليون لكندا. هذا النهر العظيم كان مرآتى للتأمل والعودة إلى الذات فى علاقتها بالطبيعة، وكان الشعر الأنسب لهذه الفضاءات الوجودية، حيث تحوّل النهر إلى رمز لرحلة الإنسانية وتحولاتها، وذاكرة موشومة بالاغتراب والضياع وتشظى الهويات. سمح لى الشعر بالتعبير عن مشاعر إنسانية على إيقاع تدفّق مياه نهر سان لوران، وهو ما لا تستطيعه الرواية بنفس السرعة والشفافية.

■ عنوان روايتك الأحدث «رجل اسمه الرغبة» يستدعى مسرحية «عربة اسمها الرغبة» لتينيسى ويليامز التى تظهر فيها الرغبة باعتبارها قوة تقود إلى الانهيار أو الجنون.. هل كان هذا الاستحضار مقصودًا للحوار مع العمل الكلاسيكى؟ 

- لقد تعمدت فى رواية «رجل اسمه الرغبة- اعترافات دون جوان» أن أكتب فى أفق الرغبة وإن كانت حكاية روايتى مختلفة عن مسرحية ويليامز «عربة اسمها الرغبة».

«رجل اسمه الرغبة» محاولة للكتابة داخل كتابة جماعية. فشخصية دون خوان كأسطورة أدبية، ولدت بمسرحية «ماجن إشبيلية» ١٦٣٠م للكاتب تِرْسو دى مولينا، الذى أدخل دون خوان كشخصية أدبية إلى الأدب العالمى. شخصية تمجد الغريزة على العقل، تتأرجح بين الشر والخير تماشيًا مع تغير الأفكار واختلاف الشعوب والثقافات.

هذه الشخصية تداولتها أسماء إبداعية عالمية كثيرة، ومن ثقافات متعددة، كالفرنسى موليير فى مسرحية كوميدية، والنمساوى أماديوس موزارت الذى جسده موسيقيًا فى أوبرا «دون جيوفانى» ١٧٨٧، والسويسرى ماكس فريش فى مسرحية هزلية «دون خوان أو عشق الهندسة» عرضت فى برلين١٩٥٣، و الكاتب والمخرج الألمانى برتولوت برخت فى مسرحية «دون خوان»، والنمساوى بيتر هاندكه فى روايته « دون خوان يحكى عن نَفْسِه».. كلٌّ ألبسه لباس مجتمعه وأنطقه بأفكاره. بل جعله عنوانًا لمرحلة فلسفية وفكرية معينة. وأنا فى هذه الرواية، حاولت استنبات نموذج شبه محلى لشخصية دون خوان فى السردية العربية. وتقديم «دون جوان» فى نسخة معدلة وراثيًا ببناء صورة جديدة غير نمطية لهذا العاشق المتسلسل. أردتُ استكشاف الرغبة كطاقة مزدوجة: محررة ومدمرة، ذكورية وأنثوية..

المقصود هو كتابة رواية من داخل الكتابة الجماعية، كما فى رواياتى السابقة، لعلنا كمغاربة نخرج من بوتقة المحلية الضيقة. 

■ فى أكثر من عمل روائى لكِ تظهر شخصيات تحمل ملامح اضطراب نفسى أو تعقيد داخلى عميق.. إلى أى مدى يشكل علم النفس مرجعًا أو محفزًا فى بنائك للشخصيات؟ وهل ترين أن الكتابة نفسها نوع من التحليل النفسى؟

- معظم الشخصيات فى رواياتى تعانى من اغتراب حاد وتمزق فى الهُويَّة، مع شعور بعدم الانتماء إلى أىّ مكان فى تجوالها بين البلدان. الفضاء الوحيد فى رواية «حفيدات جريتا جاربو» هو مشفى للأمراض العقلية، وتحديدًا هو جناح خاص بالنساء. الشخصيات ثمانى نساء عانين من تعقيدات الواقع وظلم المجتمع، فانتهين إلى عالم الجنون.

اعتماد تحليلات سيجموند فرويد فى بناء الشخصيات واضح جدًا فى هذه الرواية تحديدًا. كما أنه من الممكن أن تكون شخصية خوان، مصابة بمتلازمة «الدون جوان»، وقد استندت الرواية إلى التحليل النفسى، خاصة فى الفصل الأول منها.

لكن الكتابة الروائية لها كيمياؤها الخاصة، وليست تطبيقًا حرفيًا لنظريات سيكولوجية، بقدر ما هى استئناس بعلم النفس.

وهل الكتابة نفسها نوع من التحليل النفسى؟ ربما. لكن الأكيد أنها جلسات علاج نفسى للكاتب.

■ تتنقل رواية «الحياة من دونى» بين الصين، فيتنام، فرنسا، والمغرب. كيف تعاملتِ مع عبء التوثيق الثقافى لهذا التعدد الجغرافى دون الوقوع فى فخ المنحى التوثيقى؟

- التاريخ فى «الحياة من دونى» هو مادة من بين المواد الأولية للكتابة، مثله مثل الذاكرة والحلم والطفولة والصور. لكن الأساس فى الرواية هو التخييل. الوثائق التى اطلعت عليها فى الصين وزيارة المتاحف وأماكن الأحداث كانت فقط نشار الكتابة. 

صحيح أن الرواية تشير إلى عدة أحداث تاريخية مثل الحرب العالمية الثانية، والغزو اليابانى للصين سنة ١٩٣٧، والحرب الهندوصينية ١٩٤٦-١٩٥٤، لكنها تظل مجرد ظلال أو خيط خفيف ومرهف، لأن المقصود من الرواية ليس تثبيت أحداث تاريخية عامة، إنما الحديث عن مشاعر ومواقف شخصية نتجت عن هذه الأحداث، لتصبح الرواية حكاية تلك الأنة الخافتة التى تطلقها امرأة مكلومة، «الخيال هو الحرية التى تجعل التاريخ إنسانيًا»، على حد قول الكاتبة تونى موريسون.

قصدت فى «الحياة من دونى» خلق عوالم حية، لا سجلات تاريخية. حتى أنه من الممكن الاستغناء عن ذكر أسماء الأحداث والتواريخ، ومع ذلك يظل بناء الرواية متماسكًا. فى فيتنام وفرنسا، اعتمدتُ على الخيال لتحويل الأماكن إلى فضاءات داخلية. جعلتُ الصين والمغرب وطنًا نفسيًا للبطلة «قوتشين»، لا مجرد خلفيات جغرافية. 

■ «الحياة من دونى» رواية تتخذ من الحرب نقطة انطلاق ولكنها تبدو أقرب إلى مرثية نسوية ممتدة عبر المكان والزمان.. ما الذى دفعك لاختيار الحرب ميدانًا للغوص فى إشكاليات تتعلق بالمرأة؟

-اخترتُ الحرب لتسليط الضوء على العنف ضد النساء، خاصة الاغتصاب، لأنه أقصى درجات العنف تجاه المرأة. بل قدت شخصية قوتشين للانتحار وإغلاق باب الأمل، للتأكيد على الأثر الفظيع للحرب على نفسية المرأة التى يستخدم جسدها كأداة حرب. فهذا ما يحدث غالبًا فى هذه الحالات. إضافة إلى الإحساس المميت بالاغتراب والضياع والتشرد.

أغلب ما وصلنا من ساحات الحروب حكاه رجال، فسلمت دفة الحكى فى هذه الرواية لنساء. ألفَ الكثيرُ عن هزائم الحروب، عن الانتصارات والبطولات. وغُضَّ الطَّرْف عن كيف عاشها أناس بسطاء لم يحملوا سلاحًا ولم يشاركوا فى حرب، عن مدى الدمار الذى لحق بجسد المرأة، الرحم الذى يطرح الحياة على البسيطة. 

وسأستعير هنا صوت البطلة قوتشين للإجابة وهى تستهل حكايتها وشهادتها عن الحرب: «ماذا يعرف العالم عن الحروب الخلفية، حروب ساحتها جسد المرأة؟ عن رقيق الجنس فى زمن الحرب؟ ماذا يعرف المؤرخون عن تلك الحروب الموازية؟ هل أحصوا بدقة قتيلات تلك الحروب، قتيلات طمرت جثثهن كموتى لا ينتمين لأحد؟ هل يعرفون كم امرأة اغتصبت، وكم امرأة قتلت على أسرَّة مجهولة؟ وكم امرأة جُنت أو انتحرت من الذل؟ لا أحد يعرف ما وقع خلف الأبواب المغلقة، لأن الحقيقة دفنت تحت الأسرّة العفنة».

لنقل أن الغضب الشخصى، كان مكونًا من مكونات الرواية.

■ فى رواياتك، ثمة هم نسوى يحضر بشكل واضح.. فهل تضعين النسوية هدفًا لمشروعك الروائى؟ وكيف ترين الجدل القائم حول النسوية فى كتابة المرأة؟ 

- الكتابة هى الأداة المتاحة لى للحديث عن قضايا جنسى، وأعمل جادة على تمرير رسائل عبر آليات الكتابة والتخييل، ففى النهاية نحن نكتب دفاعًا عن قيم. والغريب أن شخصياتى النسائية متمردات ومقاتلات إلى حد الجنون والموت رغم بساطة انتمائهن الاجتماعى. 

هيمنة موضوع المرأة على أعمالى الأدبية، واهتمامى بواقع المرأة العربية على الخصوص شىء بديهى، فإذا لم نكتب نحن الكاتبات عن واقع المرأة للكشف والإدانة فمن سيكتب عنها؟ إذا لم ندافع نحن على حقنا ومشروعيتنا فى التواجد الثقافى والاجتماعى والسياسى فمن سيقوم بذلك؟

شخصياتى النسائية مقاتلات، متمردات بطرق مختلفة. ربما النسوية مبطنة فى نسيج الكتابة. ومع ذلك، لا أستطيع أن أصنف نفسى كاتبة نسوية بالمعنى النضالى والسياسى للكلمة، لأننى أهادن الرجل أكثر مما أهاجمه فى كتاباتى. تربيتى السياسية فى حزب يسارى علمتنى- وفى وقت مبكر- أننى أنا والرجل فى خندق واحد ضد الأفكار الظلامية والحروب والتمييز. لا أعلق أخطاء المجتمع على الرجل وحده، لأن المجتمع يتكون من رجال ونساء، كما أن الكتابة النسوية ليست مقتصرة على النساء، هناك نسوية فى كتابات رجال دافعوا بشراسة عن حقوق المرأة، وأسهموا بفكرهم وجهدهم فى تغيير نظرة المجتمع للمرأة، كما أن هناك نساء حاربن التحرر الاجتماعى والفكرى للمرأة، أو التزمن الصمت.

بصفتى كاتبة أنتصر وأميل إلى جمالية النص الأدبى، فمهمة الروائى هى رواية القصص لا التبشير كما تقول الكاتبة مارجريت أتوود .

■ ثمة اهتمام بالتنويع فى استخدام التقنيات السردية الحداثية وما بعد الحداثية فى أعمالك الروائية.. ما الذى يقتضيه ذلك منك؟ وهل تعتقدين أن التقنية بمقدورها عكس رؤية معينة للرواية بشكل واضح؟ 

- لتفكيك الواقع وإعادة صياغته، أعمل دائمًا على التجريب والتجديد فى تقنيات الكتابة، اعتقادًا منى، أن الحكايات تتشابه والاختلاف هو فى طريقة الحكى. كل رواية أكتبها أختار تقنيات مختلفة عن سابقاتها. قد تكون تقنيات معقدة تتطلب قارئًا من نوع خاص لديه قدرة على فك شفرة الغموض بين السطور، قارئ يشارك فى كتابة النص بملء الفراغات المسكوت عنها، بحكم طبيعة التابوهات التى أكتب عنها. والنتيجة أن الرواية بهذا الشكل قد تحظى بتقدير النقاد، لكنها تفقد شريحة معينة من القراء تبحث عن قراءة سهلة وبسيطة. 

هذه التقنيات التى أجربها تتطلب تخطيطًا دقيقًا، فهمًا نفسيًا وثقافيًا للشخصيات التى تتجول فى عالمنا الحالى. عالم غير متوازن وسريع التحولات. كما تتطلب متخيلًا مرنًا يستطيع أن يتنقل بين عوالم متباعدة ومتناقضة؛ بين الموت والحياة كما فى رواية «كجثة وفى رواية بوليسية»، وبين الجنون والعقل كما فى رواية «حفيدات جريتا جاربو».

قد لا أكون مؤهلة للحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة فى رواياتى، لأن الناقد هو المخول بالكشف هذه الجوانب، لكن القارئ قد يكشف البعض منها مثل تعدد الأصوات فى «رجل اسمه الرغبة»، والتناص فى «ليالى الحرير»، والتشظى الزمنى فى «الحياة من دونى»، و«الغرائبية السوريالية» فى «كجثة فى رواية بوليسية»، والتناص أو الميتافكشن فى رواية «حفيدات جريتا جاربو». 

وقد أغامر في بعض النصوص؛ ففي رواية «رجل اسمه الرغبة» عملية معقدة وخطيرة على أي كاتب، هي تحطيم الحدود بين الروائي والشخصية. فجأة وجدتني جزء من الحكاية..لأنني كأنثى  كنت أنفر من هذه الشخصية (الدون جوان). منذ البداية فقدت حيادي ككاتبة، سقطت في تلك المنطقة الغامضة، بين الواقع والمتخيل، حيث لا أحد يعلم أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر

هي تقنيات قد تكون حداثية أو ما بعد حداثية، لكنها بالنسبة لي تستوعب تعدد الهويات والأماكن والثقافات. وتستوعب خاصة تمزق هويات الشخصيات النسائية في الروايات. 

■ نُشرت روايتك «رجل اسمه الرغبة» عن الدار المصرية اللبنانية، كما سبق وصدرت أعمال روائية أخرى لك عن دور نشر مصرية.. ما الذى تمثله لكِ مصر كمكان لنشر وتلقى الأدب؟

- هناك عدة اعتبارات تكون وراء توجه الكاتب إلى دور نشر خارج بلده، أولها الرغبة فى توسيع قاعدة القراء والانتشار على مستوى العالم العربى. المؤكد أن دور النشر فى مصر والإمارات العربية المتحدة ولبنان «سابقًا»، تحقق مبيعات جيدة، مقارنة بدور النشر المغربية التى تقتصر على التوزيع فى المغرب، والاعتماد على المشاركة فى بعض المعارض. يجب أن نعترف بأن هناك مركزية فى دور النشر. الكتاب فى مصر يحقق أكبر عدد من الطبعات، نظرًا لخصوصية البلد الديموجرافية.

لكن الأهم من ذلك، هو ضرورة وعى دور النشر بأن نشر الكتاب لا يقتصر على طبعه على الورق، العناية بالمطبوع تتعدى خروجه من المطبعة. هناك مراحل يمر بها الكتاب قبل الطبع وبعده. قبل الطبع من اللائق أن تكون لدار النشر لجنة قراءة ومحررون لحماية الكاتب من هفوات كثيرة. وبعد الطبع يحتاج الكتاب إلى ترويج إعلامى فى مواقع التواصل «مهما كانت قيمة الكاتب والكتاب». الكتاب يحتاج إلى حملة إعلامية فى مواقع التواصل، بالإضافة إلى التوزيع الورقى، والانفتاح على منصات إلكترونية خصوصًا فى وقتنا الحالى وما عرفته صناعة الكتاب من تقنيات إليكترونية متطورة. هذه العملية الإعلامية غالبًا ما تفتح شهية النقاد والقراء على السواء، ثم العمل على ترشيح الكتاب للجوائز، وهو طموح مشروع للكاتب، مهما اختلفنا حول قيمة ومصداقية الجوائز. 

هناك مرحلة أخرى لا تقل أهمية، تقوم بها دور النشر المحترفة، وهى العمل على اقتراح الكتاب للترجمة بالمشاركة فى منصات بيع حقوق الترجمة فى المعارض الدولية، لأن الترجمة انفتاح حضارى نحو الآخر. 

الملاحظ مؤخرًا، أن هناك فى المغرب طفرة من دور النشر، لناشرين شباب، تسلك طريقها نحو الاحترافية ويراهن عليها فى تطوير صناعة الكتاب.

شخصيًا نشرت خارج المغرب، لأن الناشر الجيد يشجع على الاستمرار فى الكتابة ويعطى إحساسًا بالثقة للكاتب. كتبنا كأطفالنا نكون أكثر اطمئنانًا حين نسلمهم لأياد أمينة. وأنا حريصة على استمرار تعاملى مع دار نشر محترمة ومهنية مثل «الدار المصرية اللبنانية»، فجزء مما حققته فى مسارى الإبداعى المتواضع كان بفضل دار النشر. 

■ كيف تغيّرت علاقتك بالقصيدة بعد هذه الرحلة الروائية؟

- بعد سنوات من السرد، أصبحت علاقتى بالقصيدة أعمق. الرواية علّمتنى بناء العوالم، بينما علّمنى الشعر التقاط اللحظة فى كثافتها. كما أن القارئ للمجموعة الشعرية «المياه الكبرى» سيلاحظ أن هناك تسريدًا طاغيًا على القصائد؛ فجلّ قصائد المجموعة مبنية على السرد، فى تفاعل وانصهار بين المكونات السردية ومقوّمات الخطاب الشعرى، بالإضافة إلى ثيمة موحَّدة، هى ثيمة الماء. مع الإشارة إلى أن ملامح هذا التسريد بدأت بوادره تظهر فى المجموعات الشعرية الخمس السابقة، وإنْ بشكل خجول. وقد أشارت الناقدة الدكتورة زهور كرام، فى إحدى المقاربات النقدية لمجموعتى الثانية «أرق الملائكة»، إلى تداخل الحكائى والتأملى فى شعرى.

■ ما الذي تعنيه لكِ ترجمة العديد من أعمالك على مستوى التلقي الثقافي؟ وهل شعرتِ يومًا أن نصوصك اكتسبت حياة مختلفة حين عبرت إلى لغات أخرى؟ 

-صحيح أن تجربتي حظيت بالعديد من الترجمات، نشرت في بلدان مختلفة ، لكن الترجمة حسب رأيي ليست مشروعًا شخصيا يخص الكاتب وحده، بل هي انتقال نص بكل حمولاته اللغوية والإنسانية إلى لغة أخرى تستقبل النص في كليته، ما يعني انتقال ثقافة مجتمع بكاملها بما أن المبدع ينهل من سابقيه ومجايليه من كتاب لغته. الترجمة قنطرة بين ثقافتين وحياة جديدة للنص . 

أما ما قدمته الترجمة لتجربتي فهو كثير. وبطبيعة الحال كلما صدر كتاب في بلد ما يفتح أمامك الأبواب الثقافية للبلد (مهرجانات، لقاءات، جوائز ..)، الترجمة ساعدتني في الانتشار خارج المغرب. جائزة سيمون لاندراي للإبداع النسائي في فرنسا، جاءت عن طريق ترجمة «السابحات في العطش» للغة الفرنسية، والترجمة الإسبانية لروايتي «ليالي الحرير» وسعت قاعدة القراء ..

 التلاقح الثقافي عبر الترجمة مهم للكاتب وإلا سيظل المبدع سجين لغته، وسجين خريطة بلده. كما أننا كشعوب عربية أحوج الآن لتترجم أعمالنا لتعبر إلى الآخر ويطلع عليها لأسباب عديدة أولها تصحيح نظرة الآخر إلينا؛ الآخر الذي لا يرى فينا سوى شعوب متخلفة ومتعصبة وعقيمة فكريا وأدبيا. 

■ أخيرًا.. هل من مشروعات شعرية أو روائية تعملين عليها بالفترة الحالية؟ 

- على مكتبي الكثير من المشاريع المفتوحة، وبصدق، لا أعرف أيُّها سيسبق الآخر إلى دار النشر. إلى الآن، لم أستطع أن أروّض مزاج الكتابة الفوضوي. قد تكون روايتي القادمة عن العائلة، والتي أخذت مني سنوات من التحضير، حول العبودية، وخاصة استعباد النساء في فترة معينة من تاريخ المغرب.. وهي لا تبتعد عن مشروعي العام، وهو الإضاءة على الوضع الاعتباري للنساء.

مشروع هذه الرواية مطروح منذ سنوات، ويحتاج إلى تجميع معطيات كخلفية تاريخية. لكن، ومع الأسف، ونظرًا لتشعّب الموضوع، وحساسية ارتباطه بالعائلة، أغادره دائمًا إلى مشاريع روائية أخرى. أتمنى أن أنجز هذا المشروع، وألّا تأخذني مسالك رواية جديدة.

كما أن كتابًا عن النساء والحرب، عبارة عن شهادات لنساء عايشن الحرب، يكاد يكون جاهزًا، بعد أن تعثّر سنوات بسبب تجدّد ساحات الحروب في السنوات الأخيرة. لهول ما اكتشفته وأنا أشتغل على رواية «الحياة من دوني»، توسّع اهتمامي بموضوع المرأة والحرب، فسعيت فيما بعد إلى إجراء حوارات مع نساء تعرّضن للاغتصاب في الحروب الحالية: سوريات، أوكرانيات، روانديات، كوسوفيات، أيزيديات. بالإضافة إلى سؤال بات يشغلني: ماذا يعرف جيلنا نحن في المغرب عن الحرب؟ وبالأدق، ماذا تعرف النساء من جيلي عن الوجه الأنثوي للحرب؟ سؤال طرحته على مغربيات من عينات مختلفة.